يجتاح البعض منا حنين لذكرى واشتياق لأحداث ما نرغب في إخفائه، وما يعتصر وجداننا عصرا من الوجد والتمني للحظة تعود ولا تذهب، للمسة تنطبع ولا تختفي، لأمل كان وأصبح ماضيا .. حنين خفي في وجدان وأعماق أرواحنا، تلامسها تنعشها تجعلها خفاقة سابحة في عالم الذكريات، وبواطن الأسرار.. عالم حافل بخلجات قلوبنا، وتنهدات مشاعرنا، وأصوات ترن فرحة أحيانا، وحزينة أخرى.
عندما أقلب صفحات ذكريات من كتاب مهترئة أوراقه، تداعب نفسي عبير وطن صغير كنت أحياه دفئا وأسرة، فيفرض الحنين أشجانه، وتتملكني دموع داخلية على مكان أو أشخاص أو أحداث، وقد تراكم عليها غبار الزمن. ولكن بمجرد محوها يرجع بخفي حنين، وتعرج قدماي قليلا في طريق أسير فيه لبرهة من الزمن، وتعود بي عجلة الزمان، ويكاد قلبي يقفز من بين طيات صدري المكنون بداخله أصداء لأجمل الحكايا فتترك القلب الذي بعثره أنين الألم، وبه هدوء وعطف، وكأن يدا خفية تمتد لتطبطب على أقدارنا العاصفة، فيسري في الجسد دغدغة من الأمان.
فالحنين ليس ذكرى، ولا فقط تمنيا لرجوع، الحنين عمق حياة، وهو كيف تعيش حاضرك وأنت معبق بعبير ماض يعطف بك في زاوية من مشوارك، ويعطيك أملا لتكملة عمرك الباقي بفضل هذا العبير الذي كلما شممته أعطاك الدفعة لغد جميل ورسم لك ملامح لحياه معيشة، لأنك تريد أن تسير على نفس الدرب.
الحنين دائما وأبدا لذكريات جميلة. أما كل ما هو يكسر ويحطم، فلا يعد ذكرى بقدر ما يكون أصداء لأحداث أليمة نحاول على ما نستطيع إبعادها، على الرغم من أنها لا تفارق مخيلتنا في بعض من. وهناك نوع آخر من الحنين، هو التفكير في حلم لم يتحقق والرغبة في العودة، ربما نستطيع ولو خيالا تحقيقه.
ويا ليت أحلامنا السابقة تكون محض تطويع للواقع، ولو بأيدينا أن ندرجه تحت إرادتنا لنعيشه ولو للحظات.. فأن نعيش هدفا لم ننله، فهذا يعطي لعقلنا نوعا من الرضا بأننا لن ننساه، وربما يوما نصل إليه. ولم لا؟ فنحن نعيش بأمل اللقاء، واللقاء لا يعني لقاء الأحبة فقط، ولكنه يعني أن نلتقي بكل ما عهدناه ونسينا أن ندركه. الحنين غربة عن واقع محمل بصهيل وصليل وصراخ لعالم عشناه وتداركناه وتفاعلنا مع مجمل أحداثه الثرية بنبضات قادرة على أن تستعيد الحياه في شرايين تجمدت فيها الدماء، وتعرقلت فيها مسارات، وتهتكت فيها صفحات.
يقول محمود درويش: الحنين وجع لا يحن لوجع وجع البحث عن فرح سابق، وجع من نوع صحي، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل. الحنين في النهاية هي قصص لن تكتب، ولا نستطيع البوح بها، ولا نخطو سطرا في صفحاتها طيفا لمن غاب، عطشا يَروي، انتظارا لغائب، رجاء لما تخطانا، فليخرج كل منا حنينا واشتياقا لعلها تكون متنفسا وهواء عليلا يداعب نفوسنا، ويعلن استمرارا لكل جميل عشناه.
مُنى فتحي- مصر