لم تغب سحنته الباسمة يوماً عن عيوني، منذ عشرات السنين، وأنا اشاهده يمر يومياً من امام منزلنا، وقد عباء ثلاثة أو أربعة أكياس من الحجم المتوسط بحمولة كلها من علب المشاريب الفارغة، التي أشاهدهُ يحسن سحقها بقدميه كي يصغر حجمها ويكثر عددها ويسهل عليه ترتيبها طبقات طبقات في اكياسه البلاستيكية الملونه، وعندما تمتلئ هذه الأكياس بما وسعت من هذه العلب يتقن ربطها ويعلق كيسين على كتفه الأيمن والكيسين الآخرين على كتفه الأيسر، ويسير حاملهما بنشاط ورضى يدلل عن هذا الرضى وعليه، تلك الابتسامة الراضية التي لا أذكر أنه مر من أمامنا وهي تفارق وجهه الذي أحرقته شموس الأصياف وغضنه زمهرير كل شتاءآت السنين.
خطر ببالي أن استوقفه قبل أيام حين دعوته ان يستريح بجانب الكرسي الذي أجلس عليه باب دارتنا الخارجية، التي تفتح على الشارع الرئيس في طبربور الهائجة المائجة بالسيارات ومخلوقات الله .. وافق صاحبنا وجلس وخفف حمولته عن كتفه، وأصغى إلى باهتمام وأنا أدعو له بالعافية والرزق.
وشكرني عندما طلبت منه ان يشرح لي عن عمله : قال: انا يا عم عزيز النفس، أكره البطالة ، واحب ان احصل على لقمة عيشي من عرقي، وقد مضت عليّ ازيد من عشرين عاماً وانا امارس هذه التجارة ، قال تجارة واتبعها بضحكة ساخرة، وتابع نعم انا تاجر خردة، أو قل إني أتاجر بالقمامة، ولتعلم يا أخي أن تجار القمامة في الدول الأخرى جمعوا الملايين، ولكننا هنا في هذه البلاد لم نُحصل الملاليم ….
ولكن أحمد الله وأشكره أني أجمع يوميا ما قيمته من سبعة الى عشرة دنانير اصرفها على اسرتي بعزة وكرامة افضل من أن أمد يدي إلى من لا يساوي قيمة شعرة من شنبي ومد يده عى شاربه ومسح عليه واتبع ذلك بضحكة حركت كل مشاعري: عندما اشدت به وطلبت منه ان التقط له صورة تكون عنواناً لمقالة اكتبها عنه.
وافق راضياً، ولكنه رفض بكبرياء وشمم ان يمكنني من مساعدته عندما زجرني بقوله يا عمو قلت لك اني تاجر وليس متسول .. صورته وقبلت صورته وطلبت منه ان اقبل يده الكريمة فرفض، ونهض حاملاً اشولته الأربعة وسار بها رافعاً راسه الى السماء . وانا اتابع خطواته المجاهدة ، المباركة، ولسان حالي يردد ما قاله واحد من اصحاب النفوس الشريفة العفيفة الكبيرة.
قال: والله لوعلمت ان شرب الماء يُلثم مروءتي، ما شربته طول حياتي. وتذكرت كذلك قول بعض الحكماء: لوبيع ماء الحياة بماء الوجه لم يشتره العاقل، وذلك لأن الموت بعلة خير من الحياة بذلة.
ولما ابتعد صديقي جامع علب الببسي عني ….. خضعت الى عقدة مقارنته مع أولئك الشباب الذين يملأون شوارع المدينة صخباً و يرتدون أحدث الموضات ويدخنون من اغلى السيجارات وهم يرتمون هنا وهناك في المقاهي والمواخير ودور الأراجيل والمسخرات.
يرفضون أي عمل يعرض عليهم وفي غاية من الذل والهوان يعيشون عالة على اهاليهم ومجتمعهم ولا يبالون ان يظلوا على هذه الحال في بلد تعج بالغرباء الذين يتكسبون من خيرها ويتوسلون كل السبل للوصول الى فرصة عمل يتعيشون واسرهم منها . ….. حقدت بجد على ابناء بلدي العاطلين وتمنيت لو استطيع ان انظم الشعر، واكتب قصيدة فخر بتاجر علب الببسي الفارغة، وقصائد هجاء وإقذاع بكل العاطلين الباطلين من ابناء بلدي.