تقوم الحضارة على ركيزتين متكاملتين هما: أفكار يمكن تطبيقها عملياً، والأخرى أفكار قيميّة معنوية تكون بمثابة منهج خلقي وسلوكي. وقلنا بأن الحضارة التي تقوم على ركيزة واحدة تكون (كالعملاق الأعرج أو الذي يمشي على ساق واحدة)؛ وبتعبير آخر يمكن أن نقول بأنها تكون حضارة فقيرة، لأنها تفتقر إلى إحدى ركيزتيها أو إحدى ساقيها.
وهذه في الواقع هي المشكلة الحضارية التي نراها في عصرنا، وهي مشكلة مزدوجة، يقع جزء منها في (الغرب) والجزء الثاني في (الشرق). أما الجزء الأول فهو عند أصحاب الحضارة الغربية، وهي مشكلة افتقار هذه الحضارة إلى البعد الروحي أو المعنوي، واتصافها بأنها (حضارة مادية) أهملت ذلك الجانب الذي يشمل منظومة القيم الأخلاقية والدينية وغيرها، وهذا شيء ملموس في سلوك أصحابها الذين استعمروا شعوب العالم الضعيفة واضطهدوها، بل أبادوا كثيراً منها ومن غيرها دون رادع من ضمير أو خلق أو خوف من الله أو من أي إله يؤمنون به.
وأما القسم الآخر من المشكلة الحضارية العصرية المزمنة فموجود عند العرب والمسلمين الذين اكتفوا ويكتفون ـ كما أسلفنا ـ بالفخر بذكريات حضارتهم أيام كانت مزدهرة، ويتغنّون بلا ملل بالقيم السامية والمثل الأخلاقية والإنسانية…إلخ. التي قامت عليها، في الوقت الذي يفتقرون فيه إلى البعد العملي أو التطبيقي، فكأنهم أصحاب (حضارة شفوية) ليس لدى أصحابها إلا إطلاق النظريات السلوكية والأخلاقية، لأنهم يفتقرون إلى قدرة الاعتماد على أنفسهم، فهم لا يستطيعون إنتاج أي شيء حتى لقمة الخبز الضرورية، بل يستجدونها من أهل الحضارة المادية التي يعيبون عليها تجردها من القيم السامية والأخلاق والإيمان.
وهذه هي الازدواجية المؤلمة التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية بين ذل الحاجة الملحّة إلى ضروريات الحياة، وبين ما يعتنقونه من قيم سامية لا يستطيعون إقناع الآخرين بها أو باحترامهم لها على أقل تقدير، نظراً للضعف الذي يعانون منه، وهو الضعف الذي يضطرّهم إلى الخضوع لأصحاب الحضارة المادية المتوحشة، وبالتالي فتح الأبواب لهم ولثقافتهم العلمانية المتحررة من قيم الأخلاق والإيمان، وهذا هو الباب الخطير الذي يعتبرونه مفتوحاً على مصراعيه للغزو الثقافي المدمر، فكأنه باب مفتوح على جهنم نفسها!
____________________________
من كتابي (التّـيه الثقافي العربي – تحليل للخطاب الثقافي المعاصر) الفصل الثالث (روافد الثقافة وأنواعها) ص 108. دار أمواج (عمّان) ط 1 – 2015م.(وهو الكتاب الحادي عشر من سلسلة الحضارة والفكر).