استيقظت صباح اليوم بعد نوم عميق واسترخاء لم يسبق له مثيل؛ ربما لأن الراحة النفسية وعدم وجود مشاكل في حياتي لها دور كبير في هذا الاسترخاء.
تذكرت طفولتي عندما كنت أصحو من النوم غير مبالية بأي اهتمامات أو مشاكل سوى وجود كوباية الشاي باللبن؛ لدرجة إن أول كلمة كنت بقولها لأمي لما بفتح عنيا:
عم محمد جه؟ اللي هو بتاع اللبن يعني؛ فكانت ترد علي وتقولي: الناس تصحى تقول صباح الخير وانت بتفتحي عنيكِ على عم محمد بتاع اللبن؟.
كنت دائما قلقة من عدم وجود اللبن في منزلنا كل الصباح؛ لدرجة إني كان بيجيلي كوابيس وهواجس وأقوم مفزوعة على إن عم محمد مات واتحرمت من الشاي باللبن مدى الحياة؛ فكنت أرتعب دائمًا من هاجس إختفاء عم محمد بتاع اللبن، وكان في مخيلتي أنه المصدر الوحيد في العالم لوجود الحليب في منزلنا، وإن مرض أو اختفى هذا العم محمد؛ سيختفي اللبن من على وجه الأرض؛ لذلك كنت كل ليلة قبل النوم أصلي لله من كل قلبي أن يحفظ عم محمد بتاع اللبن ويجبهولنا في الصباح الباكر بخير وسلام..
وكنت مقتنعة تماما إن وجود عم محمد في الحياة متوقف على صلاتي له كل ليلة؛ فإن تخاذلت يومًا في الصلاة من أجل هذا الرجل الطيب وش الخير؛ سينتهي وجوده من حياتنا للأبد، ولم نرى اللبن أبداً؛ فكان وجوده في حياتي لا يقل أهمية عن وجود أمي وأبي، بل وأهم بكثير.
كم كنت طفلة بلهاء.
استيقظت مبتسمة وعندي انشكاح غير مبرر، وبدأت “أتمطع” لأُخرج من جسدي الكسل؛ حسيت إني ماجدة الصباحي في نفسي كده وهي بتصحى من النوم وبتفرد زراعيها وتتلوى بشكل مستفز مع صدور بعض الأصوات اللي تسببلك قلق في القعدة.
كانت بتفقع مرارتي؛ يللا الله يصبح ابوها صباحي بالخير خَلّف السهوكة كلها وسبهالنا تعذبنا بسهوكتها وأصوتها؛ الله يرحمها بقى
ما علينا.
لسه بتمطع وبعيش في جو الخمسينات وإذ بي أسمع صوت إبني بيقول لأخوه: طب بلاش هبد يا اسطى
قمت منتفضة ومخضوضة من على السرير، وكأن حدث زلزال مفاجئ أفقدني سلامي ونَسَّاني ماجدة الصباحي وعم محمد بتاع اللبن اللي هو أهم شخص في حياتي، وقولت: إيه التلوث اللي انا سمعته ده؟
هبد واسطى في بيتي؟ ومن غير ما أكمل تمطيع قمت بسرعة الصاروخ فتحت باب الغرفة لأتابع حوار مذهل بين أولادي.
ياسطى انت سمعت مصطفى كان بيهبد ازاي امبارح؟
رد أخوه وقاله: سيبك منهم دي عيلة كلها هَبِّيدَة بيهبدوا كل هبده وهبده أهبد من الثانية.
دخلت قولتلهم ممكن أهبد معاكوا ياولاد؟
أصل أنا بحب الهبد أوي؛ تحس إنك وانت بتهبد كأنك ملكت العالم، وتشعر إنك عالِم ذرة مُلم بكل بواطن الأمور، ويولد لديك هذا الإحساس بالفخر الفشيخ، وتتنفخ كدة زي البلونة وتمشي زي القرد الواثق في نفسه من غير ما يعرف لون مؤخرته؛ بس الهبد له أصوله يا اسطى.
الواد قالي: أصول إيه؟ أهو أنتِ كدة بتهبدي إنتِ كمان يا حجة؟
قولتله: اسمع بس من الحجة، ومتبقاش هبِّيد وحمار؛ صعب الإثنين يجتمعوا في شخص واحد.
بص يابني: الهبد نوعين، نوع يتصدق أو على الأقل بيخليك تفكر في صحة الخبر، ولو موصلتش لصحته وده غالبًا اللي بيحصل؛ بتروح أنت بقى بدورك تهبدهُ بطريقتك مع إضافة تتشاتك وخيالاتك الخاصة بيك لتَحْبيك الهبدة
أهم حاجة في الهبدة الحبكة الدرامية اللي متخرش المية؛ خليك هبِّيد واعي يا اسطى.
النوع التاني من الهبد عامل كدة زي الطبخة الصايصة اللي ملهاش ماسكة زي القلقاس اللي عامل فيها بطاطس؛ فلما تيجي تأكُلها تحس بعدم تركيز، إنت مش مقتنع أو مش متأكد ده قلقاس ولا بطاطس، وبتقوم في الأخر من على الطبلية وأنت جعان، ولو رحت هبدت الهبدة دي هتهبدها بطاطس فهتطلع منك قلقاس؛ أي كلام يعني.
لما تهبد أعْقِل الكلمة، دوق الجملة الأول، وركبها زي الباظل صح؛ تقوم البطاطس تبقى بطاطس، والقلقاس يبقى قلقاس.
هو ده أصول الهبد يا اسطى، الهبد ممكن يكون مش صح بس العقل يستوعبه.
الواد قال لأخوه: الحق امك دي أمك طلعت هَبِّيدة جامدة أوي ياض
قولتله: أُمال إيه يا بني؛ اللي شرب لبن عم محمد الوحيد اللي بيصدر الحليب للعالم؛ لازم يكون بيهبد هبد حقيقي وواقعي، زيي أنا كده؛ اللي تصحى من النوم تحس انها ماجدة الصباحي في نفسها؛
الواد قالي: مين ماجدة الصباحي؟
قولتله وهو أنت كنت عرفت مين عم محمد بتاع اللبن؟
أهو كله هبد يا ابني،
وانا بموت في الهَبِّيدة