أدب وثقافة

أمل دنقل.. التحريض الأبدي!! (بقلم: محمد ناجي المنشاوي- مصر)

قليل هم الشعراء المعاصرون الذين يتركون في النفس أثرا واضحا.. وأمل دنقل يقف على قمة هذه القلة لا يكاد يطاوله شاعر عربي آخر، فما السر في ذلك؟

 لأنه الشاعر الذي عاش سنوات عمره القليلة صوتا مصريا عربيا محرضا لا يهادن ولا يستسلم رغم كل صروف الزمن ونوائبه، وما لحق به من فواجع وآلام فهو الملتحم بقضايا أمته منذرا ومحرضا وثائرا.

  إنه عين زرقاء اليمامة التي ترى البعيد المتربص بالأمة، فما ينفك ينذر ويحرض بصوت الشاعر المنتمي دائما، فصوته الشعري يرن في أسماع عشاق الشعر على امتداد العالم العربي، ويصافح قلوبهم، ويشحذ عزائمهم ويصنع بشعره وجدانا عربيا خاصا.

يلقي أمل دنقل بنفسه في مناجم التاريخ العربي والإسلامي، ليخرج لنا بقصائده التي تتناص مع هذا التراث العظيم المخزون في وعي الأمة، فيعزف على (ربابته) ليصل صوته إلى كل (جرن) في كل قرية، وفي كل بادية وحضر.

 قصائد أمل دنقل تتماس مع هذا الوعي العربي القديم، فيطلق شرر الرفض والمقاومة والتحريض.. وباتت النفوس الغافلة والغافية تستيقظ على دوى تلك القصائد لتسترد وعيها بقوة فهو ينتقي من لحظات التاريخ العربي لحظاته الفاصلة، وينفخ فيها بمزماره الغاضب والشجي المسكون بحب الوطن والمثقل بقضاياه.

 إن أمل قد انحاز إلى الحرية منذ اللحظة الأولى، فيقول في حوار له مع أماني السيد بمجلة اليقظة الكويتية  (نزلت القاهرة في نفس السنة التي اعتقل فيها عبد الناصر الشيوعيين، ورغم أنني لم أكن متعاطفا مع الشيوعيين إلا أنني رأيت أن لجوء الحاكم إلى مصادرة الحريات يخلق آثارا سلبية عميقة على المجتمع خاصة إذا كان هذا الإرهاب موجها ضد كتابه أو مفكريه وليس ضد منظمات تحمل السلاح فعلا.. فكتبت عدة قصائد تندد بالحكم المطلق نشرت بعضها في جريدة الأهرام سنة 1961 كانت نهايتها قصيدة (اسبارتكوس).

أما عن موقف أمل دنقل من استلهام التراث فيوضحه في حوار أجراه معه جهاد فاضل بمجلة آفاق عربية /بغداد: يقول أمل: إن العودة للتراث هي جزء هام من تثوير القصيدة العربية وهذا الاستلهام للتراث يلعب دورا هاما في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه، ولكن يجب التنبيه إلى أن العودة للتراث لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي، كي نصل إلى الحاضر استشراف للمستقبل.

 وفي نفس الحوار السابق يكشف أمل دنقل عن رأيه بوضوح في قصيدة النثر ذاكرا (لست معها) وأن أهم شاعر في نظر أمل دنقل على الإطلاق هو النار.

 لقد صنع هذا الشاعر المحرض مكانة أدبية بين أقرانه بفضل صدق التجربة التي تبلورت لديه على المستويين :الشكل والمضمون، فيقرر أمل أنه إذا كان جيل صلاح عبد الصبور يعتمد على التراث اليوناني والإغريقي معتبرا أن الانتماء للتراث العالمي هو واجب الشاعر بينما جيلي اعتبر أن الانتماء إلى الأسطورة العربية والتراث العربي هو المهمة الأولى للشاعر.

  كما يقرر أن القافية قيمة موسيقية لابد من الاستفادة منها حتى النهاية.. كما انحاز أمل إلى جعل القصيدة صورة من العالم، وبما أن العالم مركب فلابد أن تكون القصيدة مركبة.

 وفي حوار أجراه معه نبيل سليمان بملحق الثورة السورية الثقافي يقول إن الشعر اعتراض على ماهو كائن وحلم بما سيكون، والكلمة أداة للتغيير وبهذا المعنى فإن كل الشعر هو شعر المقاومة.

 اما عن موقفه من النقد فيقول: لا توجد كلمة نقد واحدة لم أستفد منها سلبا أو إيجابا.

 ولأمل رأي واضح في جيل السبعينيات باعتباره الجيل التالي لجيل الستينيات الذي ينتمي إليه.. أمل يرى أن”الصفوف الجديدة من شعراء السبعينيات مازالوا في مرحلة البحث عن هوية لا أحد منهم يستطيع الاهتداء إلى الشاطئ.

 وتقول عنه سهيلة فرحات في تقديمها لطبعة أعماله الكاملة الصادرة عن دار المستقبل للإبداع العربي ببيروت: رغم أن معظم أشعاره كانت تلعب بقوة على أوتار الجمال أولا وأخيرا إلا أنها كانت تتسم جميعها بما يمكننا أن نسميه تسيييس أغراضها الشعرية٠٠

 ولم يكن أمل دنقل في قرارة نفسه أيديولوجيا محنكا بالمعنى الحرفي أو مسيسا عاديا مقتنصا لكل الفرص رافعا لشعارات السياسة وتجارة النضال ٠٠٠ فقد كان شاعرا وشاعرا فقط، قرأ ووعى كثيرا من الفكر السياسي والأيديولوجي على المستويين العربي والعالمي وقاده التمزق الروحي إلى نبض الشارع السياسي وقلب الأزمة العربية العاصفة.

 وها نحن ذا نفتقد هذا الصوت الشعري الذي طالما سكن الوجدان المصري إنه الشاعر الجنوبي الذي ظل قلمه المحرض يدفع بقصائده الرافضة للقبح والزيف وهو على فراش المرض ويعاني سكرات الموت تاركا لأخته دواوينه الشعرية الخمسة التي باتت تمثل لكل الأجيال أيقونة شعر الرفض والمقاومة وهي:

1= البكاء بين يدي زرقاء اليمامة 1969 بيروت/ 2= تعليق على ما حدث 1971 بيروت/ 3=مقتل القمر 1974 بيروت /4= العهد الآتي 1975 بيروت /5= أقوال جديدة عن حرب السويس 1983 القاهرة/6= أوراق الغرفة 8 ، 1983 القاهرة.

 وأستطيع القول إنه منذ رحيل أمل دنقل عن دنيانا الفانية، لم يظهر بعده شاعر مصري أو عربي آخر يحتل موقعه الفريد في مشهدنا الشعري العربي الراهن!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى