أدب وثقافة

لحمة الشيخ !!    (قصة قصيرة بقلم: محمد مصطفى)

النساء اللاتي لم تسعهن المقاعد الخشبية المؤجرة في بهو بيتنا، وسعتهن الأرض، افترشنها متشحات بسوادهن الكالح، أمي بينهن ساهمة؛ تسند ظهرها إلى الحائط، على كرسي أبي المفضل وبالقرب من باب غرفة الجلوس المخصصة للرجال، جلس الشيخ القارئ وأنا من خارج الحجرة؛ عيني علي باب الشقة المشرع على مصراعيه، أستقبل المعزين وأشيعهم بعبارات مكررة.

  أسفل ساعة الحائط العتيقة صورة كبيرة لأبي في زيه العسكري يبتسم في زهو، غداً سوف أزينها بشريط أسود، عمتي العجوز الناحلة مشمرةً عن ساعديها، أوردة متشابكة ترسم في كفيها متاهة زرقاء، ووجهها الشاحب يتصبب عرقاً، عيناها الحزينة المرهقة كأنهما نقش غائر في وجه مومياء مازالت علي قيد الحياة.

  تروح وتجئ في المطبخ بين الأبخرة المتصاعدة، تعد الطعام لأقاربنا الذين جاءوا من سفر طويل، تعاونها أختي الكبرى وبعض من نسوة الجيران، يغرفن الأطباق باللحم والثريد، ينقلنه لغرفة  الطعام.

  تأمر عمتي وتنهي في حدة وصرامة، تصرخ وتكرر بصوت مدوي؛ لا ينم بأي حال عن رقة بنيانها: أهم حاجه محدش يقرب من لحمة الشيخ، تصل العبارة إلى مسامع سيدنا فيزداد حماسةً ويعلو صوته ملعلعاً ملحناً في القراءة (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كبير) أما أنا فقد تعلقت عيناي بباب الشقة، أختلس النظر إلى السواد المطبق على أرضية البهو؛ أبحث عن عيني أمي، فإذا لاقيتهما أشاحت بهما في محاولة منها كي لا أستبين حجم الحسرة فيهما.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )..

    ينقطع الصوت، عامل الكهرباء يسرع محاولا إصلاحه، فرصة سيدنا الشيخ أن يلتقط أنفاسه، يرتشف بعضاً من محلول السكر الذي أعدته له عمتي، تعود الكهرباء، فيستأنف شيخنا قراءته، وتسترسل العمة  في صراخها.

خف الجمع، السواد في أرضية البهو يتلاشي شيئاً فشيئا، هدأةً  في نبرة الشيخ المقرئ تنبئ بالخاتمة، صوت الملاعق وأدوات المطبخ مازال سارياً، لم يتبق في غرفة الجلوس غير الأقرباء وعمال الفراشة، عمتي لم تتوقف عن لزمتها : محدش يقرب من لحمة الشيخ.

انقضت الليلة الثقيلة بتوجه القاريء إلى غرفة الطعام وحده، تزفه عمتي في صمت.

________________________

قصة قصيرة بقلم/محمد مصطفى- نيويورك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى