أدب وثقافة
في دراسة جديدة .. حاتم الجوهري يفرق بين التطبيع والاستلاب للصهيونية
شارع الصحافة/ كتبت- كريمان عبد الحميد:
في دراسة جديدة بعنوان: (من التطبيع إلى الاستلاب: أزمة الذات العربية والمسألة الأوربية)، نشرت في عدد شهر مارس الحالي من مجلة “ميريت” الشهرية، قدم الدكتور حاتم الجوهري أستاذ الدراسات العبرية المنتدب بالجامعات المصرية، والمشرف على المركز العلمي للترجمة بالهيئة العامة للكتاب، أطروحة للتفرقة بين محاولات التطبيع القديمة، وبين ما كان يجري في ظل صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
حيث تناول في دراسته ما يسميه خطاب “الاستلاب” للآخر الصهيوني، والذي ظهر بالتوازي مع حملة ترامب الانتخابية الأولى ومشروعه عن نقل السفارة الأمريكية وصفقة القرن، وتقارن هذا الخطاب وآليات ظهوره وتمريره وظرفياته السياسية، بخطاب التطبيع القديم وحججه ومبرراته وآليات فرضه.
مشيرا لسعيه للوقوف على أزمة “مستودع الهوية” العربي في مواجهة عملية التطبيع القديمة، ومشروع الاستلاب للآخر الصهيوني وروايته الحالية، بحثا عن آليات محتملة يمكن تبنيها دفاعا عن هذا المستودع.
وقائلا في متن الدراسة أنه يخطأ كثيرا الذين يسمون ما يحدث بين إسرائيل وبين بعض الدول العربية مؤخرا بـ”التطبيع” (Normalization)؛ لأن التطبيع ربما يصل في حده الأقصى إلى علاقات متبادلة في الأطر الدولية المتعارفة، بعد قطيعة ما، لكنه لا يصل إلى حد التخلي عن رواية طرف ما للعلاقة مع الطرف الآخر، والتبني الكامل والانسحاق لصالح روايته، مثلما يحدث في حاليا في بعض مسارات العلاقات العربية الإسرائيلية.
وتؤكد الدراسة أن ما كان يحدث في ظل (صفقة القرن)، ومشروع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ يندرج تحت ما نسميه (الاستلاب للآخر)،(Other’s impersonation) الصهيوني وتبني روايته للصراع والخضوع لها، التي وصلت لذروتها في الربط بين ما هو سياسي وما ديني، في نهاية عام 2020م وظهور الاتفاقيات “الإبراهيمية”.
وترى أنه من الأهمية الإشارة إلى أن التيار العربي الذي تبنى مفهوم “الاستلاب للآخر” والخضوع لروايته، تبنى العديد منهم في الوقت نفسه عملية مصاحبة، ومفهوما ملازما له يقوم على (الانسلاخ عن الذات Self-stripping))، والتخلي عن الرواية العربية للصراع.
لذا اهتمتالدراسة بالتفرقة بين التطبيع والاستلاب وتمثلاتهما، وربطت الأمر بفكرة مركزية أوسع في تفسير ظهور خطاب الاستلاب للآخر عربيا، ومحاولة تحويله لما يشبه التيار الواسع وترويجه ثقافيا وإعلاميا؛ وهي الفكرة التي أسمتها بـ “المسألة الأوربية” وتحول الذات الأوربية إلى ذات عليا عند البعض، يشعر تجاهها بدونية ذاته التاريخية، ويرى في أولوية إلحاق ذاته التاريخية بها والاندماج معها.
من ثم تطرح الدراسة فرضية مركزية مفسرة ، مفادها أنه قد اعتبر البعض المشروع الصهوني تمثلا للذات الأوربية، وقدم خطاب الاستلاب الحالي لها وفق رطانة وديباجة ثقافية تقوم على: التقدمية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية.. ألخ، ليظهر هنا أثر “المسألة الأوربية” (European Question) المركزي و”علاقات الهوية” التي اعادت تشكيلها في العالم كله، بوصف متلازماتها وقيمها الثقافية قيما أعلى، في مقابل دونية قيم الذوات العالمية الأخرى ومنها الذات العربية.
إنما في السياق نفسه تطرح الدراسة وجود فرضية أخرى كامنة ومقابلة لتيار “الاستلاب للآخر” وروايته في المشهد العربي، وهذه الفرضية تقوم على وجود حالة كامنة وحاضرة في الوقت نفسه لخطاب جديد يتشكل على مهل، يتماس مع “المفصلية الثقافية” الجديدة والكامنة التي صاحبت مشروع الثورات العربية الجديدة، ويتجاوز خطاب الاستقطاب حول “المسألة الأوربية” ما بين اليسار والليبرالية العربية من جهة اللذان يقول بعضهما بـ”الاستلاب” للآخر الصهيوني في تصوراته “التقدمية” المزعومة، بوصفه تمثلا او منتدبا عن الذات الغربية/ الأوربية.
وكذلك يتجاوز ذلك الخطاب الجديد والكامن من جهة أخرى اليمين العربي وفرق الدين السياسي التي كرد فعل على “المسألة الأوربية” أيضا تمترست حول الذات العربية القديمة، وخطاباتها التراثية كنوع من الدفاع عن الوجود الذاتي.
لكن تستطرد الدراسة بأن كل من التيارين؛ أي “الاستلاب للآخر” الأوربي الحديث و(التمترس حول الذات) العربية التاريخية، لم يقدم تصورات لـ”استعادة الذات” العربية عبر التمركز حول “لحظتها الآنية” الثورية وقدرتة هذه اللحظة على تقديم “مفصلية ثقافية” جديدة الخطاب، تؤسس لبناء “تراكم حضاري” جديد يؤدي لـ”استعادة الذات” العربية لحيويتها الوجودية، وربما تجديد الحالة الإنسانية ككل بعدما تكلست كرد فعل لـ”المسألة الأوربية ومتلازماتها.
خاصة بعد تيه الذات العربية سياسيا بين اليمين واليسار -والمؤسسة العسكرية في العالم العربي- فيما بعد انطلاق الثورات العربية، والذي يمكن أن يحسب أيضا على تبعات “المسألة الأوربية”، حيث تاريخيا تأسست فكرة (دولة ما بعد الاستتقلال) في الوطن العربي في أواسط القرن الماضي، في سياق التحرر من التمدد العسكري والاحتلال الأوربي في القرن العشرين وما قبله.
لنصبح وكأننا أمام تدافع جديد في المشهد العربي بين تيار (الانسلاخ عن الذات) العربية، وما يقدمه من حجج ومبررات تبرر هذا الانسلاخ وفق رطانات وخطابات متعددة معظمها رد فعل وتابع لـ”المسألة الأوربية” ومركزيتها وتعاليها، وعلى الجهة الآخرى يقف تيار كامن حول “استعادة الذات” العربية بعيدا عن عُقد الماضي ومتلازماته.
وتكمن أهمية الدراسة في التفرقة بين موضوع التطبيع السياسي القديم واشتراطاته، وبين مشروع الاستلاب للآخر الصهيوني الجديد، الذي يقوم على الانسلاخ عن الذات العربية، مع الإشارة للبديل الكامن الذي يأتي في مواجهة هذا التيار ويسعى لـ(استعادة الذات) العربية.