عرض: سمير محمد شحاتة
قراءة علمية منهجية لأزمة النظام الديمقراطى التمثيلي، ومستقبلها المفتوح على إدخال بعض آليات الديمقراطية المباشرة في صلبه. مفهوم جديد للديمقراطية، يتوقع الدكتور وحيد عبد المجيد، مستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، والذي صدر عن دار الثقافة الجديدة، كتابه “ديمقراطية القرن الحادي والعشرين”، أن يُولد من رحم الأزمة الراهنة، ويمتزج فيه التمثيل السياسي بالمشاركة المباشرة والكاملة للمواطنين-الناخبين، بما يجعلهم قادرين على التأثير والتغيير طول الوقت، وليس فى وقت الانتخابات فقط. هذا المزيج من الديمقراطية التمثيلية والمباشرة هو طابع ديمقراطية القرن الحادى والعشرين، التي يشرح الكتاب كيف ستتطور تدريجيًا خلال عقود قليلة.
ويأتي هذا الكتاب ليمثل إسهامًا جادًا في الحوار، وإضافة علمية رصينة تقوم على اطلاع ومعرفة بالأدبيات الرئيسية في الموضوع، وعلى نظرة تحليلية ونقدية لبعض المقولات الذائعة. ويطرح المؤلف وجهة نظر جديدة بشأن صعود التيارات الشعبوية في أمريكا وأوروبا، فلا يعتبرها خطرًا على النظام الديمقراطي أو تهديدًا له، لأنها تعمل وفقًا للقواعد والقيم التي تأسس عليها هذا النظام، ولم يصدر عن قادتها ما يثبت عكس ذلك. وحذر من الخلط بين هذه الموجة من الشعبوية، وسابقتها من الأحزاب والحركات الشعبوية في النصف الأول من القرن العشرين في إيطاليا وألمانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية والتي أدت إلى تقويض النظام الديمقراطي. واعتبر أن ظهور هذه الحركات هي رد فعل لفشل مؤسسات الديمقراطية التمثيلية في التعبير عن رغبات عموم الناس ومطالبهم، واتساع دائرة عدم ثقتهم فيها. ومن ثم، فإن هذه الموجة في واقع الأمر تمثل حركة تصحيحية. فلا يمكن إغفال دور الخطاب الشعبوى فى إثارة عواطف البسطاء والتلاعب بأفكارهم وتحريكهم للقيام بأفعال ضد القانون.
أبعاد مسألة التمثيل في النظام الديمقراطي
تقوم الديمقراطية على أن يُفَّوض الناخبون من يمثلونهم فى مجالس وهيئات عدة، أهمها المجلس النيابي، أو البرلمان. ولم يكن تحقيق الديمقراطية سهلاً، برغم أن تطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية أسهمت في تمهيد الطريق إليها في أوروبا بدءًا من القرن الخامس عشر. كان التطور الذي اجتازته شعوب عدة في أوروبا، ثم في العالم، عسيرًا ومعقدًا. وقد اختزل ديفيد هيلر المخاض الذي سبق ولادة الديمقراطية في صورتها الأولى غير المكتملة، والتي كانت مقصورة على الذكور دافعى الضرائب، في أنها خرجت من أرحام صراعات اجتماعية بالغة الحدة، وكثيرًا ما كان يُضحى بها في هذه الصراعات. وقد وُلدت هذه الديمقراطية على أساس صيغة التمثيل، سعيًا لأن يكون صانعو التشريعات ممثلين للشعب، ولدوائرهم أيضًا في مناطق محددة، ويكون الناخبون قادرين على محاسبتهم، وتقييم أداء السلطة التنفيذية.
كانت الصراعات التي وُلدت في سياقها الديمقراطية، متعددة الأبعاد. صراعات بين الملوك والأمراء، وبين الملوك والطبقة البورجوازية التي صعدت منذ القرن السادس عشر مع توسع التجارة وإرهاصات الصناعة، وصراعات بين السلطتين الزمنية (الملوك) والدينية (الكنيسة)، وصراعات نتجت عن حركات تمرد فلاحية وأخرى مدنية، احتجاجًا على تردى الأوضاع المعيشية، وبسبب الطموح إلى نظام دستوري على النمط الإنجليزي الذي كان بمثابة “نموذج” داعب شعوبًا أوروبية أخرى تطلعت إلى الاحتذاء به، وكانت الثورة الفرنسية 1789 نتيجة تفاعل هذه العوامل.
ويرى المؤلف أن الأزمة التي تواجه الديمقراطية منذ بداية القرن الحادي والعشرين تختلف عن تلك التي ظهرت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، فقد كانت الأزمة السابقة نتيجة تحد واجه الديمقراطية من خارجها، مع ظهور الفاشية والنازية في أوروبا. وأن الأزمة الراهنة تأتي من داخل الديمقراطية نفسها، نتيجة تراكمات خلقت حالة جمود في النظم السياسية في الدول التي وصلت ممارسة هذه الديمقراطية فيها إلى مدى بعيد. وأدت هذه الحالة إلى تمكين نُخب سياسية واقتصادية محترفة من فرض نفوذها، وتفريغ الممارسة الديمقراطية من محتواها.
وتتعلق الأزمة الراهنة في جوهرها بالديمقراطية التمثيلية التي بدأ الغرب يعرفها منذ نهاية القرن الثامن عشر، وتطورت ممارستها على مدى قرنين، وامتدت إلى دول أخرى غير غربية. إنها، إذن، أزمة هذا النمط الديمقراطي، الذي يقوم على التمثيل السياسي، أي أن ينتخب المواطنون من يمثلونهم لفترة محددة، وينتظرون حتى موعد الانتخابات التالية إذا أراد بعضهم أو كثير منهم تحقيق تغيير، أو الاعتراض على سياسة ما.
موضوع الكتاب، إذن، هو تحليل هذه الأزمة، وما يمكن أن يترتب عليها، وما سيكون عليه النظام الديمقراطي بعد سنوات، أو ربما عقود قليلة، وهو ما عُني به ديمقراطية القرن الحادى والعشرين، الذى أشار د. وحيد فى مقدمته إلى أنه لا توجد جنة على الأرض، وليس هناك نظام سياسى مثالي، وربما لن يكون. في السياسة والمجتمع كما في الحياة بوجه عام، الأمور نسبية، والنظام الديمقراطي التمثيلي أفضل من غيره على صعيد تحقيق مشاركة شعبية في الشأن العام، أو قل أقل سوءًا، حسب زاوية النظر. وتتفاوت النظم الديمقراطية بدورها من حيث مدى أفضلية أي منها مقارنة بالنظم التي لا تعد ديمقراطية، ونجد مثل هذا التفاوت في نظام ديمقراطي محدد، هنا أو هناك، من وقت إلى آخر.
وينطلق د. وحيد من أنها أزمة تطور ترتبط بعملية تاريخية ستُفضي إلى تطعيم الديمقراطية التمثيلية، التي بلغت أعلى مراحل تطورها في دول باتت راسخة فيها، بأشكال من الديمقراطية المباشرة. والفكرة الأساسية هي أن الأزمة تكمن في نظام التمثيل السياسي، وليس في الديمقراطية نفسها، وأن حلها سيحدث عن طريق آليات محددة نتوقع أن تكون في قلب التطور الذي سيُغير مسار النظام الديمقراطي، ويؤدي إلى تطعيم الديمقراطية التمثيلية التي بلغت منتهاها بأشكال من الديمقراطية المباشرة.
ومن أهم هذه الآليات، الاستفتاء العام المتكرر على قرارات تنفيذية، وتشريعات أساسية تمس قطاعات واسعة من المواطنين، بحيث تُطرح للاقتراع عليها قبل أن تصدرها الحكومة أو يناقشها البرلمان، واستدعاء الناخبين Recall Vote للاقتراع على أداء أي مسؤول تنفيذي أو عضو في مجلس تشريعي، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، وسحب الثقة منه بدون انتظار إجراء الانتخابات التالية في موعدها أو حدوث تعديل في تشكيل الحكومة أو أي من المجالس والهيئات التنفيذية.
كذلك، فتح مجالات جديدة ومتجددة باستمرار للحوار السياسي والاجتماعي على المستوى الشعبي، وتوسيع نطاق الحركة في المجال العام، أي إكمال تحرير هذا المجال على نحو يُدعم فرص وصول المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام إلى أعلى مستوى يمكن أن تبلغ، شفافية كاملة بشأن الإنفاق العام. وكلما توسع نطاق هذه الشفافية أمكن تعميق الممارسة الديمقراطية عبر توفير أعلى درجات الرقابة على المال العام، وضمان إنفاقه في المجالات المخصصة لها، ووضع حد للفساد فى استخدامه.
يقدم الكتاب عرضاً مفصلاً لتاريخ الديمقراطية التمثيلية الذي امتد لنحو قرنين، ومناقشة عميقة لزوايا أزمتها، فضلاً عن تشريح مبكر للتيارات الشعبوية الجديدة التي ظهرت داخل الديمقراطيات الغربية الراسخة. ويقدم طرحاً لحل تلك الأزمة التي تواجه بالأساس الديمقراطية التمثيلية، وتساؤلات عديدة حول حجم الفجوة التي قد تزداد أو تتقلص بين الديمقراطيات الراسخة وبين الدول التي لا تزال تخطو خطوات حذرة ومتعثرة نحو الديمقراطية. ورأى المؤلف أن يقوم بفك الاشتباك بين الديمقراطية وعدد من المفاهيم الأخرى قبل انطلاقه في عرض رؤيته في تحليل أزمة الديمقراطية التمثيلية وطرح تصوره عن معالجة تلك الأزمة. فقام في الفصل الأول بضبط عدد من المصطلحات، حيث بدأ بمفهوم الديمقراطية، والتي عرّفها بأنها عملية تنظيمية إجرائية تهدف إلى تمكين الناس من اختيار طريق يعتقد أغلبيتهم أنها تؤدى إلى وضع أفضل، مع الأخذ في الاعتبار القدرة على تغيير هذا الطريق – من قبل الأغلبية أيضاً – عندما يتبين أنها لم تحقق أهدافها. هذه العملية الإجرائية تحدث عندما يوجد نظام سياسي يوفر فرصاً متساوية للجميع للتنافس، تحت مفهوم أن أحداً لا يملك أفضلية مطلقة ثابتة.
أما مفهوم الليبرالية، الذي يُعد من أكثر المفاهيم خلطاً بالديمقراطية، رغم أن التاريخ يؤكد أن الليبرالية أقدم بكثير من الديمقراطية التمثيلية، فهو منهج في التفكير ينطلق من افتراض قدرة البشر على تحسين شروط حياتهم عندما يمتلكون حريتهم، ويحررون عقولهم من مختلف أنواع المؤثرات الدينية والاجتماعية والسياسية، ويستخدمونها في الإبداع والابتكار والاختراع، ويتوفر لهم مجال عام يتفاعلون فيه ويتحاورون ويطلقون طاقاتهم.
هذه القيم والتي تشكل ما يعرف بالثقافة الليبرالية، يمكن أن تكون مناخًا مناسبًا لنجاح عملية الديمقراطية التنظيمية، لكنها ليست شرطًا لوجودها، أو مانعًا لممارسة الديمقراطية في حالة غيابها. فالواقع يشير إلى وجود أنظمة ديمقراطية في مجتمعات غير ليبرالية مثل اليابان وبعض دول شرق آسيا، حيث أن تلك الديمقراطيات قامت لأسباب براجماتية مثل التوافق بين النخب المنقسمة أو التوافق إثنيًا بين المجتمعات، كما كان الحال في أوروبا.
وفي معرض مناقشة التوسع في أزمة الديمقراطية التمثيلية، أشار المؤلف إلى أهمية معالجة الخلط بين مفهومى الشعبوية والقومية المتشددة (العنصرية). ولخص الفرق في أن الأخيرة موقف كلي موجه ضد من ينحدرون من عرق أو دين محدد وينطوي على تمييز مستمر وقد يصل إلى استخدام العنف ضدهم. أما الشعبوية، فهى حالة وغالباً تدافع عن الهوية الثقافية، وتأتي مسألة العرق في مرتبة تالية فيها. ومن ثم فالقوميون المتشددون يرفضون أي آخر، أما الشعبويون فغالباً يرفضون الآخر الذي يمثل تهديداً لهويتهم.
يقدم المؤلف في فصله الثاني عرضًا تفصيليًا عن أبعاد مسألة التمثيل في النظام الديمقراطي، ويشرح لماذا وُلدت الديمقراطية التمثيلية، والتي كانت في صورتها الأولى تقوم على أساس أن يكون نواب البرلمان (المنتخبون) ممثلين للشعب (هيئة الناخبين)، ويكون الشعب –دافع الضرائب– له الحق في محاسبة السلطة التنفيذية التي تجمع أموال الضرائب.
وقد تطورت الديمقراطية التمثيلية عبر صراعات اجتماعية كبيرة في أوروبا بهدف السعى لـ”دمقرطة” الأنظمة الأوروبية المستبدة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهو ما يمكن تلخيصه في مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر “أنا الدولة .. والدولة أنا”. ذلك الصراع كان يدور وسط زخم فكري كبير في مقدمته كتابات هوبز ولوك ودو مونتسكيو.
يناقش الكتاب في فصله الثالث التوسع في أزمة الديمقراطية التمثيلية، ذلك النظام السياسي، الذي ظل على مدار قرن ونصف يحظى برضاء واسع، وظل أفضل نظام سياسي يمكن التطلع إليه. فيقوم المؤلف برسم صورة عن لحظة التحول من الرضاء المعلن إلى التذمر الواضح، خاصة في ظل التطور التكنولوجي الذي عجّل بمعدلات التذمر، وسهّل عملية التعبير عن ذلك الغضب، وكان حاضراً بقوة في حركات الاحتجاج التي بدأت منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ويعتبر المؤلف أن الكلمة المفتاحية في تحديد تلك اللحظة هى “الجمود”. فعندما أصيبت الأحزاب السياسية ونظم الحكم في الديمقراطيات الغربية بالجمود وأصبحت توصف الأحزاب السياسية فيها بالتقليدية، هنا أصبح التذمر أمراً لا يمكن إخفاءه والإنذار بانتهاء صلاحية الديمقراطية التمثيلية أمراً لا يمكن تجاهله. فالجمود هو الخطر الحقيقي الذي يعني إضعاف ديناميكية النظام –أي نظام- وتقليص فرص تصحيح أخطاءه. ومن ثم تصبح نقطة التحول هي الوقت الذي يحدث فيه التوسع في فجوة الثقة بين قطاعات متزايدة من المجتمع وبين المؤسسات والأحزاب السياسية. ويمكن تلخيص السبب الرئيسي في حدوث فجوة الثقة في عجز الأحزاب السياسية عن تصعيد نخب جديدة، وأصبحت مجرد أداة لإعادة تدوير نفس النخب التي استنفدت كل رصيد الثقة لدى جمهور الناخبين وفقدت مصداقيتها، ومن ثم فقدت حيويتها وقدرتها على الحصول على ثقة الناخبين. فمع الوقت أصيبت الأحزاب التقليدية بالجمود، ومن ثم انعكس هذا على انخفاض معدلات الالتحاق بالأحزاب في الديمقراطيات الغربية، وهو الأمر الذي أدى إلى مزيد من الجمود.
ثم ينطلق المؤلف الى مساحة أخرى ليناقش في فصله الرابع الإجابة على تساؤل: هل الحركات الشعبوية الجديدة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين تمثل تهديداً للنظام الديمقراطي التمثيلي، أم رصيداً للتطوير في المستقبل؟ والمثال الأوضح هنا هو دور ترامب في إقناع قطاع من الأمريكيين بأن الانتخابات شهدت مخالفات جسيمة أدت إلى تغيير نتائجها، ودعوتهم إلى استعادة الحقوق وإظهار القوة، الأمر الذي أدى إلى كارثة 6 يناير.
ويرى المؤلف أن حل الأزمة الراهنة لا يكون بالتخلي عن نظام الديمقراطية التمثيلية، فالتمثيل في العصر الحديث هو جوهر مفهوم الديمقراطية، ولكن بإدخال عناصر من الديمقراطية المباشرة فيه، وزيادة مشاركة المواطنين في إدارة شئون بلادهم مما يجعل المؤسسات التمثيلية تعمل تحت رقابة الشعب. ومن ذلك إجراء استفتاءات عامة أو محلية بشأن قضايا محددة أو قرارات تنفيذية بعينها وهو ما يحدث في سويسرا، ومنها الاقتراع على أداء أعضاء البرلمان والمسئولين الحكوميين وفقا لضوابط معينة وفتح مجالات جديدة للحوار السياسي والاجتماعي على المستوى الشعبي.
وركز على وضع الديمقراطية في الدول التي حققت تقدمًا كبيرًا في مضمارها، فماذا عن الدول التي انتقلت حديثاً إلى الديمقراطية، والتي لم تترسخ فيها بعد قيمها كقبول التعددية، والمساواة في الحقوق والواجبات، واحترام الآراء المخالفة، وحكم القانون الذي لا يميز بين مواطن وآخر لأى سبب، وفيها لم يتعود الحكام والمحكومون على اتباع قواعد السلوك الديمقراطي والعمل وفقا للإجراءات الديمقراطية.
ويؤكد عبد المجيد أن الأزمة التي تواجه الديمقراطية منذ بداية القرن الحادي والعشرين تختلف عن تلك التي ظهرت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، مشيرا إلى أن الأزمة السابقة كانت نتيجة تحد واجه الديمقراطية من خارجها، مع ظهور الفاشية والنازية في أوروبا. أما الأزمة الراهنة فهي تأتي من داخل الديمقراطية نفسها، نتيجة تراكمات خلقت حالة جمود في النظم السياسية في الدول التي وصلت ممارسة هذه الديمقراطية فيها إلى مدى بعيد، وأدت هذه الحالة إلى تمكين نخب سياسية واقتصادية محترفة من فرض نفوذها، وتفريغ الممارسة الديمقراطية من محتواها. وتتعلق الأزمة الراهنة في جوهرها بالديمقراطية التمثيلية التي بدأ الغرب يعرفها منذ نهاية القرن الثامن عشر، وتطورت ممارستها على مدى قرنين، وامتدت إلى دول أخرى غير غربية.
وينطلق المؤلف من أنها أزمة تطور ترتبط بعملية تاريخية ستفضى إلى تطعيم الديمقراطية التمثيلية، التي بلغت أعلى مراحل تطورها في دول باتت راسخة فيها، بأشكال من الديمقراطية المباشرة. وأن الأزمة تكمن في نظام التمثيل السياسي، وليس في الديمقراطية نفسها، وأن حلها سيحدث عن طريق آليات محددة توقع أن تكون في قلب التطور الذى سيغير مسار النظام الديمقراطي، ويؤدي إلى تطعيم الديمقراطية التمثيلية التي بلغت منتهاها بأشكال من الديمقراطية المباشرة.
ومن أهم هذه الآليات: الاستفتاء العام المتكرر على قرارات تنفيذية، وتشريعات أساسية تمس قطاعات واسعة من المواطنين، بحيث تطرح للاقتراع عليها قبل أن تصدرها الحكومة أو يناقشها البرلمان، استدعاء الناخبين للاقتراع على أداء أي مسؤول تنفيذي أو عضو في مجلس تشريعي، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، وسحب الثقة منه بدون انتظار إجراء الانتخابات التالية في موعدها أو حدوث تعديل في تشكيل الحكومة أو أي من المجالس والهيئات التنفيذية. وينخرط الكتاب في تحديد المصطلحات لوضع حد لفوضى القيم والمفاهيم، ويبرز خلال سياق تاريخى الاختلاف بين مفهومى الديمقراطية والليبرالية، من حيث النشأة والتطور. فبينما الأولى عملية اجرائية تضمن دورية الانتخابات، وعدالة القوانين التى تنظمها، والمشاركة الشعبية بها التى تمكن المواطنين من اختيار السياسات التى تدافع عن مصالحهم وتحقق الصالح العام، وتتيح للمعارضين المنافسة الحرة للوصول إلى السلطة، فإن الثانية هى ثقافات وأفكار وفلسفات بينها مشتركات عدة، بما يعنى امكانية وجود نظام ديمقراطى دون أن يكون ليبراليا كما هو الحال فى اليابان ودول شرق آسيا.
الفكرة المحورية التي طرحها المؤلف، هي أن الديمقراطية التمثيلية، الذي يُعد إجراء الانتخابات هى آلياتها الوحيدة، لم تعد مرضية لقطاعات هائلة من الشعوب، فضلاً عن عدم قدرتها على منح شرعية سياسية لأنظمة الحكم القائمة. ولذلك يدعو إلى مزج بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة، بعقد الاستفتاءات الدورية على القرارات والقوانين والسياسات قبل تنفيذها، وتصويت الناخبين على أداء المسئولين التنفيذيين والنواب دون إجراء انتخابات جديدة، وفتح مجالات مستمرة للحوار المجتمعى، وتحقيق الشفافية الكاملة بشأن الإنفاق العام. ويرى أننا نعيش «أزمة تطور ترتبط بعملية تاريخية ستفضي إلى تطعيم الديمقراطية التمثيلية وقد بلغت أعلى مراحل تطورها في الدول التي باتت راسخة فيها، بأشكال من الديمقراطية المباشرة»، سواء من خلال تكبير أدوار المجتمع المدني وتعميق مشاركته فى إدارة الشأن العام وصنع القرار، والاستفتاء العام المتكرر على القرارات التنفيذية والقوانين والتشريعات الأساسية التي تمس قطاعات واسعة من المواطنين. والهدف هو عدم بقاء المواطنين الناخبين أقرب إلى متفرجين فى الفترة بين دورتين انتخابيتين، وبالتالى السلطة ليست حكرًا على البرلمان فقط ولكن الشعب هو الأساس، من هنا تأتى أهمية المزج بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة من أجل احتواء أزمات الديمقراطية المعاصرة.
واستمدت الديمقراطية التمثيلية، منذ أن عرفها العالم، مقبوليتها من قدرة المؤسسات المنتخبة على تحقيق مقادير مقبولة من تطلعات الجمهور بوجه عام، وليس من انتخبوا هذه المؤسسات فقط. وسواء كانت المقبولية نتيجة ارتفاع مستوى الأداء، أو قدرة النخب السياسية التي تصل إلى الحكم إلى إعطاء انطباع بأنها تفعل ما عليها، بغض النظر عما يتحقق فعليًا، أو رهان القطاعات غير الراضية عن هذا الأداء على إمكان تحسينه، فقد بدا لوقت طويل كما لو أن الديمقراطية التمثيلية هي غاية ما يمكن التطلع إليه على صعيد المساواة السياسية والحريات العامة والمشاركة في إدارة الشأن العام.
واستخلص المؤلف عبر متابعة التطور السياسي في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وبلدان أخرى في مناطق مختلفة، أن مفتاح فهم ما حدث يكمن في الجمود الذي خيم على نظم الحكم، والأحزاب الأساسية التي باتت توصف بأنها تقليدية. الجمود آفة خطيرة لا تصيب النظام السياسي فقط، بل تضرب مختلف الترتيبات التي تنظم حياة المجتمع أيضًا. ويؤدي الجمود إلى إضعاف ديناميكية النظام المصاب به وتقليص إمكانات تصحيح أخطائه. فقد أخذت الاختلالات المترتبة على هذا الجمود في الظهور تدريجيًا، إلى أن بلغت مبلغها الذي أظهر مأزق هذا النمط الديمقراطي القائم على التمثيل، وأعطى انطباعًا بوجود أزمة تهدد الديمقراطية في مجملها، وليس هذا النمط فقط.
ومن أهم هذه الاختلالات، التي باتت ظاهرة بذاتها وبدون حاجة إلى إثباتها، إخفاق المؤسسات السياسية والأحزاب التقليدية باتجاهاتها المختلفة في تلبية تطلعات قطاعات متزايدة من المواطنين، سواء الذين أيدوا حزبًا أو آخر، أو من بقوا محايدين لأنهم لم يجدوا في المجال العام من يثقون في قدراتهم وجدارتهم، وقبل كل شيء في استقامتهم، أو من ركنوا إلى اللامبالاة والاهتمام بشئونهم الخاصة. لكن نقطة التحول، هنا، هي التوسع الذي حدث في فجوة الثقة بين قطاعات متزايدة في المجتمع من ناحية، والمؤسسات والأحزاب السياسية من الناحية الثانية.
وفي الفصل الرابع “شعبويات القرن الحادي والعشرين .. والمسألة الديمقراطية”، يطرح د. وحيد السؤال عن “هل الشعبوية الجديدة مُفزعة أم فزَّاعة؟ ويقول أن هذا سؤال يثيره القلق الواسع من شعبوية القرن الحادي والعشرين، سواء في الدول الديمقراطية التي ظهرت فيها أو خارجها. وبرغم أن للفزع من هذه الشعبوية ما يُبرره في غياب معرفة كافية بأحزابها وحركاتها، توجد مؤشرات كافية إلى أن هذه الأحزاب والحركات تستخدم للتفزيع من أي مسعى إلى تغيير في النظام الديمقراطي التمثيلي، وتخويف من يشاركون، أو يفكرون في المشاركة في الاحتجاجات التي تعبر عن إحباط متزايد من إمكان تحقيق مشاركة شعبية فاعلة، وتهدف إلى مراجعة سياسات تؤدي إلى ازدياد التفاوت الاجتماعي، وتفاقم الاختلالات في المجتمع، أي تُستعمل كفزاعة.
ومن الطبيعي أن يكون استخدام الفزاعة أوسع نطاقًا في حالة التيارات الشعبوية اليمينية، لسببين: أولهما الشعبية التي حظيت بها أحزاب معبرة عن هذه التيارات في عدد متزايد من الدول الأوروبية في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، في الوقت الذي بقى صعود التيارات الشعبوية اليسارية في حدود أضيق. والثاني سهولة التخويف من الشعبوية اليمينية عبر المجادلة بأنها إما فاشية، أو شبه فاشية، أو ستُعيد إنتاج الفاشية التي يفترض البعض أنها ليست تجربة معزولة في التاريخ، بل قابلة للتجدد، وأنه ليس هناك ما يحول دون إعادة إنتاجها في صور أخرى.
وفي الفصل الخامس المعنون: “نحو مزيج من الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة)، أشار فيه د. وحيد إلى اليوم المشهود الذي وقفت فيه رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي أمام الكاميرات في داخل مقر الحكومة “10 داوننج ستريت”، وشكت البرلمان إلى الشعب الذي قالت إنها تدعم حقه في الاختيار، وتحترم نتيجة الاستفتاء عن الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست” بخلاف معظم النواب الذين رفضوا مشروع اتفاق توصلت إليه مع الاتحاد الأوروبي. كان ذلك في أول مارس 2019 عندما تابع العالم أحد المواقف الأكثر وضوحًا في تعبيرها عن التحول الذي بدأت مقدماته في أنماط التفاعلات السياسية في الدول الديمقراطية.
لم تُتهم ماي في أي وقت بأنها شعبوية، أو غوغائية (ديماجوجية). ولذا، حمل موقفها ذلك مغزى مهمًا بشأن حدود الديمقراطية التمثيلية، برغم أنها لم تلجأ إليه إلا بعد وصول محاولاتها لحل أزمة الخلاف على “بريكست” إلى طريق مسدودة، وباتت مضطرة إلى الاستقالة. غير أنه لم يتوفر ما يدل على أنها استوعبت مقاصد ناقدي هذا النمط الديمقراطي التمثيلي، والراغبين في تجاوزه. وهذه إحدى آفات الاتجاه السائد في أوساط النخب السياسية، التي لا تُدرك مشكلة الديمقراطية التمثيلية، ولا تستوعب موقف من سئموا الحدود الضيقة المتاحة للمشاركة في ظلها، الأمر الذي سيؤدي إلى ازدياد معدلات تحول التذمر الصامت إلى غضب ظاهر، وتوسع الفجوة بين المؤسسات السياسية والمواطنين الذين سيتنامى شعورهم بفشل هذه المؤسسات.
_______________________________________________