مقالات

الاستبداد والديمقراطية الناقصة

 

       د. حازم العقيدي

دكتوراه فى العلوم السياسية

 

من المشكلات المستعصية فى عالمنا العربى اليوم هى فقدان الرؤية الواقعية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى أثقلت كاهل المواطنين، وجعلتهم منشغلين بها إلى حد الإغراق، وأعاقتهم عن بلوغ النضج السياسى الديمقراطى الذى يميز بعض الشعوب، سيما وأن الديمقراطية كمفهوم سياسى واجتماعى يتسم بشئ من الغموض ويسمح لأشد أعداء الديمقراطية بادعائها، وللعديد من النظم الاستبدادية بانتحال صفة الديمقراطية، وأصبح المستبدون يحرصون أكثر من غيرهم على الزعم بأن استبدادهم هو الديمقراطية بعينها.

ولعل ذلك يحدث لأن ثمة مشكلات نظرية وتطبيقية تعوق نضج الديمقراطية نفسها نظريةً ونظامًا. فبحسب تعبير أساتذة “النظم السياسية” الغربيون، قالوا عن بعض أدوات الممارسة الديمقراطية كالاستفتاءات والانتخابات فى بلدانهم بأنها قد تتحول إلى أدوات خطيرة فى أيدي القادة السياسيون، يسلبون بها إرادة الجماهير بوسائل ديمقراطية. ففى بريطانيا، نموذج التقاليد البرلمانية، ويقول فيلسوفها الكبير هارولد لاسكى “بالرغم من توافر حق التصويت العام فإن نظام الحزبين فى ديمقراطية سياسية مثل بريطانيا العظمى أو الولايات المتحدة الأمريكية، كان فى كثير من الأحيان يتعاون الحزبان على تعمد استخدام السلطة ضد الشعوب”.

فإذا كانت مشكلة الديمقراطية على مثل هذا فى الديمقراطيات العريقة، فإن المشكلات التى يثيرها التخلف الديمقراطى فى مجتمعاتها أشد وأنكى، إذ من الصعب أن يعى المواطن فيها حقوقه، وإن وعاها فإنه لا يمارسها على أرض الواقع، وإن أراد أن يمارسها فسيجد الكثير من الصعوبات القانونية والاجتماعية والسياسية التى تحول دون ممارسة حقوقه الدستورية التى أقرها الدستور.

وهنا يكمن السر فى تعريف “السهل الممتنع”. فالدساتير فى بعض البلدان العربية صيغت على أعلى المستويات بلغة الدساتير، فى غرف مغلقة بعيدًا عن واقع الجماهير، حتى أن البعض من المكلفين بها لا يصدق أنها وضعت لغرض التطبيق، فهو لم يجد بأسًا من الاقتراب فى الكمال فى صياغة حقوق المواطنين.

والمواطنين لا يتخيلون أن لهم كل تلك الحقوق، فلا يمارسونها إن أُتيحت لهم الفرصة حقًا، ولا يطالبون بها إن حُجبت عنهم، ولا نجد من يدافع عن وجودها بحماسة المستفيد، وبالتالى يظل المواطن يتعامل مع الاستبداد بالتجاهل، ويتجنب المعارضة متأثرًا بميراث عهود طويلة من العبودية والخوف من الحكام.

وهكذا فلو عالجنا كل مشكلات الديمقراطية، فإن عدم نضوج فكرة الديمقراطية لدى الساسة والأحزاب وقطاع واسع من الجماهير سيُفسد كل شئ ويتسبب فى تفاقم أزمة الديمقراطية بشكل أكبر.

هذا الواقع أعطى الحجة لأعداء الديمقراطية ليتخذوا من قلة الوعى السياسى وضعف الثقافة السياسية للشعوب وقصور وسائل التنشئة السياسية فى مجتمعاتنا ذريعة للحجر عليها وفرض الوصاية على إرادتها، وتحويل الممارسة الديمقراطية إلى وسيلة لتحقيق المصالح الفئوية والعرقية والمذهبية باسم الديمقراطية، وبالتالى تسببت فى تقسيم المجتمعات إلى أديان ومذاهب وقوميات، حتى وإن لم تجد فى مجتمع ما تعددية فى الدين والمذهب والقومية، فلا بأس أن يكون التقسيم مناطقيًا وقبليًا .. الخ ولن يشق على أعداء الديمقراطية أن يجدوا سبيلاً للتقسيم باسم التعددية والتنوع، إذا ما وجدت أرضًا خصبة لهذا الزرع الخبيث، والنموذج العراقى خير شاهد على الديمقراطية الجاهزة التى جاء بها الاحتلال الأمريكى على ظهور الدبابات لنشر (الفوضى الخلاقة) التى نشاهد آثارها المأساوية فى أرض الرافدين انقسامًا واحترابًا وفسادًا ودماءً وصراعًا لا نهاية له.

خلاصة الأمر، أن المشكلة فى الديمقراطية التى يبشرون بها تكمن فى أنها لم تستطع أن تحقق الديمقراطية، وأدى ذلك إلى الديمقراطية نظرية ونظامًا غالبًا تقتصر على التمثيل النيابى والانتخابات وتأسيس البرلمانات، وأصبح الشعب عبارة عن “كومبارس” يُستخدم لإكمال النصاب التمثيلى الذى تتطلبه العملية الديمقراطية المزعومة.

هنا يبرز سؤال لا مفر منه، هل تستحق هذه الديمقراطية كل هذه المعاناة. أم كُتب علينا أن نعانى من الاستبداد الديمقراطي باسم الديمقراطية؟ فربما قد فاتنا أن الديمقراطية ما هى إلا بناء فكرى وفلسفة وتقاليد وتاريخ متجذر وثقافة راسخة، فضلاً عن كونها مفهومًا حافلاً بالتصورات القيمية والوطنية ولا يمكن حصرها بالانتخابات والبرلمانات. فعلى الرغم من أهمية هذه الأدوات إلا أنها أنتجت فى كثير من الأحيان استبداد مُنتخب، أو ديمقراطية شكلية مورس من خلالها أقصى درجات القمع والإقصاء والتهميش للمعارضين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى