قراءة وعرض/ سمير محمد شحاتة
إن الهدف الأساسي من إصدار (موسوعة فلسطين .. الهوية والقضية) هو الرد العلمى الموثق على الإجراءات العدوانية للاحتلال الإسرائيلى وسلوك الإدارة الأمريكية المشين ضد الحقوق العربية الفلسطينية. وأما الهدف الآخر هو تجديد الوعى العربى وتنوير الأجيال العربية عن قضية هذا الزمان وكل زمان، بعدما تاهت بين تناقضات الإعلام العربى ومغالطاته بحق القضية الفلسطينية من جهة، وتزوير الحقائق من جهة ثانية. وأما الهدف الثالث من إصدار هذه الموسوعة هو توثيق كل ملفات القضية الفلسطينية ومستجداتها، وتصديرها إلى الأحفاد والأجيال القادمة مستقبلاً، ما قد يجعلها نافعة لهم من جهة، وشاهدة وشافعة لنا من حكم التاريخ علينا من جهة أخرى.
تقع فلسطين على الساحل الغربى لقارة آسيا، فتطل على البحر الأبيض المتوسط، بساحل طوله 224كم2، كما تطل على البحر الأحمر بساحل طوله 10.5 كم2، وتجاورها سوريا فى الشمال الشرقى بحدود طولها 70كم2، ويحدها لبنان شمالا بـ 79كم، والأردن شرقا بـ 360كم2، ومصر جنوبا بـ 240كم2، حيث عينت حدود فلسطين وفقا لعدة معايير. ما جعلها وكأنها برزخ برى يربط بين البحر المتوسط غربًا، والبحر الأحمر جنوبًا، وهذا الالتقاء الذى يكسب فلسطين أهمية استراتيجية، واقتصادية، وعسكرية. دائمة عبر العصور.
حدود فلسطين
مرت حدود فلسطين، بمراحل عدة منذ فجر التاريخ حتى ترسيمها فى عهد الانتداب البريطانى، ثم إعادة تقسيمها بحسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر فى 29 نوفمبر 1947، وصولاً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 الصادر فى 29 نوفمبر 2012، والذى يعترف بدولة فلسطين على حدود 4 يونيو عام 1967، إذ يبدو أن هناك تآكلاً متواصلاً فى حدود دولة فلسطين المزمعة، والمثير حقًا أن هذا التآكل فى حدود فلسطين رغم إقرارها من قبل الاستعمار البريطانى بدايةً، والأمم المتحدة لاحقاً، إنما يشرع السؤال عن مدى قدرة المجتمع الدولى على إنفاذ قراراته، وتطبيق أحكام وقواعد القانون الدولى لترسيم حدود دولة فلسطين؟.
بدأت الحركة الصهيونية العالمية صراعها على هوية فلسطين، منذ تأسيسها عام 1897 فى مؤتمرها الأول فى مدينة بال بسويسرا، حيث بدأت خطة البحث عن مكان لإقامة دولة صهيونية تجمع أصحاب العقيدة اليهودية من مختلف الجنسيات والأعراق، فاستقرت وجهتها للاستيلاء على أرض فلسطين، فحصلت فى عام 1917 على التصريح البريطانى المشئوم “تصريح بلفور” الذى اعتبرته الحركة الصهيونية (وعد بلفور) إذ صرَّح بإقامة وطن قومى لهم فى فلسطين، وبدأت هجرة الجماعات الصهيونية اليهودية إلى فلسطين بتسهيلات بريطانية.
وإثر صدور قرار التقسيم 181/1947، واندلاع الحرب فى فلسطين، أعلنت العصابات الصهيونية عام 1948 عن قيام كيانها على أرض فلسطين، وبدأ الصراع العربى مع الكيان الإسرائيلى وكأنه صراع على الحدود، وتعزز هذا المفهوم إثر توقيع اتفاقات الهدنة عام 1949 بين العرب والكيان الإسرائيلي.
لقد فهم المجتمع الدولى الصراع فى فلسطين بأنه صراع حدودى بين العرب والكيان الإسرائيلى، فى ظل غياب التمثيل السياسى الفلسطينى عن المحافل الدولية، وتأكد هذا عندما نظرت الأمم المتحدة إلى الصراع برؤيتين منفصلتين، الأولى: رؤية إنسانية، وهى قضية لاجئى فلسطين، فقُدمت الحلول لها بشكل إنسانى. والثانية: رؤية سياسية، لفض النزاع بين الدول العربية والكيان الإسرائيلى، إذ لم يكن بحساب منظمة الأمم المتحدة إقامة الدولة الفلسطينية وفقاً للقرار الصادر عنها، وسواء كان هذا عن قصد أو عن غير قصد، فإن الحقيقة أن الأمم المتحدة تتحمل مسئولياتها فى عدم قيام الدولة الفلسطينية فى حينه.
وإثر تصعيد المواجهة العربية مع الكيان الإسرائيلى، والتى أدت فى ذروتها إلى عدوان 1967، تعززت حينئذ الرؤية الدولية بأن الصراع فى فلسطين “صراع حدودى” وليس وجودى أو حضارى، ونتيجة هذا التصور الدولى الخاطئ للمسألة الفلسطينية، بدت قضية الحدود بين الدول العربية والكيان الإسرائيلى الحل الأمثل للصراع، وعززت هذه الرؤية المخططات الصهيونية نفسها، بتسلل فكرة الاعتراف بالكيان الإسرائيلى مقابل انسحابه إلى حدود عام 1967، فانعكس كل ذلك على جوهر القضية الفلسطينية وتحول الصراع “من صراع على هوية الأرض إلى صراع على ترسيم الحدود فيها”.
التطور التاريخي لتعيين حدود دولة فلسطين
يشير المؤلف إلى أن فلسطين أرض الرسالات ومهد الحضارات، مر على أقدم مدينة فيها وهى أريحا، واحد وعشرون حضارة منذ 8000 سنة ق.م.، وكانت قبائل كنعان قد وصلت إليها من شبه الجزيرة العربية منذ 4000 سنة ق.م.، لذلك عُرِفت بأرض كنعان، وتبعهم وصولاً إليها قبل 3000 عام ق.م. قبائل العمالقة الذين جاءوا من الجزيرة العربية أيضًا، واستقروا فى الجنوب، ثم وصل إليها قبائل الفلسته “الفلستيون”، الذين وصلوا إليها من الجزر اليونانية فى البحر المتوسط، واستقروا على السواحل، بدءاً من تل الفارعة جنوب رفح مع وادى بئر السبع، امتداداً إلى يافا وشمالها حتى بيسان.
وقد شيد الفلستيون العديد من المدن على السواحل الكنعانية، كـ”مدينتى غزة وعسقلان”، وسُمى الساحل فلستيا، وظهر ذلك فى مسلة الملك “إدريمى” والمصادر المسمارية ورسائل تل العمارنة فى القرن الـ 18 ق.م، وأيضًا فى الآثار الآشورية فى عهد الملك الآشورى “أدى زارى الثالث” نحو عام 800 ق.م. وقد أطلق المؤرخ الإغريقى “اليونانى – هيرودوتس” أبو التاريخ، فى القرن الـ 5 ق.م، اسم فلسطين على الساحل الممتد بدءاً من شمال سيناء عند “تل الفارعة جنوب رفح ويمتد حتى شمال صفد”، ومن الغرب ساحل البحر الأبيض المتوسط حتى غور الأردن شرقاً. وذُكر أن أصل تسمية “بالستين” يرجع إلى أصول آرامية.
أهمية الموقع الجغرافي لدولة فلسطين
لفلسطين أهمية تاريخية ودينية عظيمة، فضلاً عن أهمية موقعها الجيو- استراتيجى الفريد. فهى تقع فى قلب الوطن العربى ووسطه، وهى المنفذ البرى الوحيد بين قارتى آسيا وإفريقيا بواسطة حدودها مع مصر، فضلاً عن أنها تصل أوروبا بالقارتين عن طريق البحر المتوسط، وهى مهد الديانات السماوية الثلاث وملتقى الحضارات، ومن أهم بقاع الأرض قاطبة، استراتيجيًا وسياحيًا ودينيًا، لذلك ظلت منذ بدء التاريخ مطمعًا للغزاة، حيث وصلها الطامعون من كل حدب وصوب.
رُسمت حدود فلسطين على شكل طولى، يبدأ من أبعد منطقة فى الشمال إلى أبعد منطقة فى الجنوب بطول نحو 430كم2، بينما يتفاوت عرضها فى الشمال بين 50–70كم2، وأما منطقة الوسط فيتراوح عرضها بين 70–90كم2، ويبلغ أقصى عمق وأعرض مكان لفلسطين الخط الواقع بين رفح غربًا والبحر الميت شرقًا بنحو 117كم2، ويمثل الشكل الطويل نقطة ضعف استراتيجى، وعبئًا عسكريًا يعيق حركة الدفاع عنها، إلا أن أهمية الموقع استراتيجيًا يجعل من حدود فلسطين ذات أهمية كبيرة:
– تُعد حدود فلسطين مع مصر الحدود البرية الوحيدة التى تربط القارة الإفريقية بالقارة الآسيوية.
– كما تُعد حدود فلسطين خط الدفاع الأول لمصر من الشرق، وظلت على مدار التاريخ معبراً للغزاة، حيث عبرها الهكسوس والتتار والمغول، وشهدت العديد من المعارك المهمة والفاصلة فى حركة التاريخ، أبرزها: معارك حطين وأجنادين وعين جالوت.
– كما تُعد فلسطين وحدودها المربط البرى الوحيد الذى يجمع بين جناحى الوطن العربى شرقًا في آسيا وغربًا فى إفريقيا.
– وتُعد فلسطين أيضًا، ممراً برياً استراتيجياً بين البحرين (الأبيض المتوسط شمال غرب، والبحر الأحمر جنوب شرق).
وبعد قيام الكيان الإسرائيلى على أرض فلسطين، خضعت أغلب الحدود الدولية، المرسومة بين الأقطار العربية وفلسطين لسيطرته باستثناء الحدود المشتركة بين فلسطين ومصر بخط طول مستقيم على امتداد مدينة رفح شرق غرب بمسافة 15كم2، ويبلغ طول الحدود الدولية لفلسطين المحتلة 651كم2، بينما بلغ طول حدود “الضفة والقطاع” المشتركة مع الكيان الإسرائيلى 358كم2.
ترسيم حدود فلسطين في عهد الانتداب البريطاني
تطورت حدود فلسطين عبر التاريخ، وأخذت وضعاً جيو-استراتيجيًا حسب المرحلة التاريخية التى عايشتها، إلى أن تم تحديد وترسيم حدودها بين 1906 و1923، وذلك بعقد اتفاقيات كانت بريطانيا عنصرًا رئيسيًا فيها، بعدما انهارت الدولة العثمانية أمام دول الاستعمار الغربى، وتم تقسيم تركة هذه الدولة العجوز أو “الرجل المريض”. وكانت فلسطين قد وضُعت فى قالب حدودى رسم بدايتها ونهايتها من خلال اتفاق “بريطانى – فرنسى”، بدأ فى اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، التى تحولت إلى واقع بعد رسم الحدود فى 23 ديسمبر عام 1920، والتى عُدلت بعد سنتى 1922 و1923، لتضم مناطق المياه الجوفية والأنهار وتُشكل قاطعًا يفصل بلاد المشرق العربى عن بلاد المغرب العربى، وتبلغ مساحتها 27009كم2، وقد رُسمت الحدود فيها على النحو التالى:
الحدود المصرية-الفلسطينية: كان السلطان العثمانى قد أصدر فرمانًا ملكيًا عام 1841، يُعد أول تخطيط للحدود الإدارية بين مصر وفلسطين، وقد جاء هذا الفرمان بعد سيطرة محمد على باشا، مؤسس الدولة الخديوية فى مصر على بلاد الشام ووصوله إلى حدود تركيا الحالية، حيث منح السلطان بموجب هذا الفرمان لمحمد على وذريته من بعده حكم مصر، على أن تكون الحدود الشرقية لمصر هى المستقيم الممتد من ميناء العريش إلى خليج السويس، وأبقى نحو ثلثى سيناء تابعة إداريًا لفلسطين. وبعد ذلك طلب “محمد على” من السلطان السماح له بإقامة نقاط حراسة على طريق الحج المصرى الممتد من السويس إلى العقبة ماراً بقرية نِخِل، فأُذِن له بذلك. وأصبحت تلك المنطقة تقع تحت إدارة مصر، واعترفت السلطنة العثمانية بموجبه بالاستقلال الذاتى لمصر وحكم “محمد على باشا” عليها، وفى حقه بتوريث سلطته لأنساله.
ورُسمت حدود مصر الشرقية مع فلسطين كخط مستقيم يمر بين رفح والسويس، ويبدو أن هذه الوثائق عكست الخط الذى عملت السلطات العثمانية والمصرية حسبه بالفعل، وبما أن هذه الحدود لم تكن لها تداعيات كثيرة على طبيعة الحياة فى المنطقة، لم تعتبر السلطات العثمانية أهمية كبيرة لتحديد مكانها بدقة، باعتبار أن مصر تُعد ولاية خاضعة للدولة العثمانية.
قناة السويس: بدأ حفر قناة السويس فى 25 أبريل 1859 فى عهد الخديوى سعيد، بإشراف البريطانى ديليسبس، وانتهى العمل بها فى عهد الخديوى إسماعيل وافتتاحها فى نوفمبر 1869.
وتُعد قناة السويس بالغة الأهمية للاستعمار البريطانى الذى احتل مصر عام 1882، والذى كان شاغله الأكبر والأبرز تأمين القناة من أى مخاطر خارجية قد تأتى من الشرق، فأراد الاستعمار البريطانى دفع الحدود بين مصر وفلسطين “الواقعة تحت الحكم العثمانى فى حينه” إلى ناحية الشرق، لضمان حرية الملاحة فى قناة السويس “أهم ممر ملاحى فى العالم”. فقام اللورد كرومر، الحاكم البريطانى الفعلى لمصر عام 1892 بإبعاد مسار حدود مصر الشرقية عن قناة السويس، فرسم خطًا مستقيمًا يبدأ من رفح حتى مدينة العقبة.
الحدود الفلسطينية – الأردنية: هذه الحدود نادرة المشاكل، وذلك لعدم وجود فوارق كثيرة بين المواطنين والعشائر المقيمة على ضفتى النهر. فالهجرة عبر النهر فى الاتجاهين كانت مستمرة، كأنها امتداد للأرض نفسها، وبعد الحرب العالمية الأولى أصبحت الحدود الشرقية لفلسطين فى ظل الانتداب البريطانى تضم ضفتى نهر الأردن، عقب اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، ثم قرر وزير المستعمرات البريطانى ونستون تشرشل عام 1921 إنشاء إمارة شرق الأردن، وأصبح الأمير عبد الله بن الحسين أميرها، ثم ملكًا عليها عندما أصبحت مملكة.
وفى أول سبتمبر عام 1922 أصدر المندوب السامى البريطانى مرسومًا بتعيين الحدود الإدارية بين فلسطين وشرق الأردن، وعين الحد الفاصل تدريجيًا حتى عام 1926، ثم صدقت عصبة الأمم المتحدة فى 19 سبتمبر عام 1929 على وضع شرق الأردن تحت إدارة منفصلة عن إدارة فلسطين، وظلت المنطقتان فلسطين وشرق الأردن تخضعان للنفوذ البريطانى، وكانتا تحت إدارة مندوب سامٍ واحد مقره القدس. وقد بدأت هذه الحدود من خط وادى عربة الواصل بين أم الرشراش والبحر الميت، ثم امتد ليقسم البحر الميت نصفين، متجهًا شمالاً، وقد اعتبرت الضفة الشرقية لنهر الأردن على أنها الحد الفاصل بين المنطقتين، حتى منحدر هضبة الجولان قرب شواطئ بحيرة طبريا الشرقية ومسار نهر الأردن الشمالى فى الشمال الشرقي.
الحدود الفلسطينية السورية واللبنانية: عُينت حدود فلسطين مع سوريا ولبنان فى 23 ديسمبر عام 1920، حيث اتفق الطرفان البريطانى والفرنسى على إعادة تعيين الحدود بينهما، وفى 3 فبراير 1922 اتفق البريطانى نيو كامب والفرنسى بولييه على سير خط الحدود، وكانت مهمة الضابط البريطانى ضم أكبر قدر ممكن من مصادر المياه تنفيذا للخريطة التى قدمها وايزمان إلى مؤتمر السلام فى باريس عام 1919، حيث شملت حدود فلسطين الموارد المائية لنهرى الأردن واليرموك. ما جعل خط الحدود متعرجًا كثيرًا بحيث يضم منابع الأنهار والوديان.
كان خط بريطانيا يمتد من جبل الشيخ إلى صور، فأصر الفرنسيون أن يمر برأس الناقورة، وضم مناطق غالبيتها شيعية لم تر فيها فرنسا خطرًا على لبنان الجديد. ووافقت بريطانيا على ذلك مقابل بقاء تل القاضي ومنابع نهر دان فى فلسطين، وتوسعت حدود فلسطين لتشمل مصب نهر اليرموك، وبعد ذلك عُدلت الحدود بين فلسطين وكل من لبنان وسوريا.
الحدود بين فلسطين ولبنان: يبدأ بشكل متعرج من غرب قرية الزيت عند رأس الناقورة على البحر المتوسط ويتجه إلى قرية يارون اللبنانية شرقًا، ثم ينعرج شمالاً حتى قريتى المالكية وقادس الفلسطينيتين، ثم منطقة المطلة الفلسطينية، وتمر معظم قطاعاته بقمم جبلية وخطوط تقسيم المياه، ويتجه شرقًا فى خط مستقيم ثم ينحنى جنوبًا على هيئة نصف دائرة لتضم منطقة جبلية عالية شرقًا، ثم تتجه بشكل فجائى شمالاً بزاوية على هيئة مستطيل يسمى إصبع الجليل بعمق 22كم2 شمالاً، ثم تتجه حتى قرية بانياس السورية، ويكون طول الحدود 78كم2.
حدود دولة فلسطين من مؤتمر مدريد إلى مفاوضات الوضع الدائم
تطورت مسألة الحدود فى فلسطين إثر الاحتلال الإسرائيلى فى 5 يونيو 1967 للضفة الغربية وقطاع غزة والحِمَّة الفلسطينية والجولان السورى وسيناء المصرية، وقد أصدر مجلس الأمن الدولى قرارات متوالية “233، 234، 235، 236” دعا فيها وقفًا فوريًا لإطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلى من جهة، ومصر وسوريا والأردن من جهة أخرى.
وقد ساد الاعتقاد لدى الاحتلال الإسرائيلى، بأنه حالما ثبت بوضوح تفوقه العسكرى، سيقر العرب بالهزيمة وبعقم المواجهة معه، فتقوم مفاوضات مباشرة بين الطرفين، تنتهى بتعديلات للحدود، وسوف توقع الأطراف المعنية على معاهدة صلح. ويبدو أن الاحتلال أخطأ فى حساباته تلك، بعدما كشف تفوقه ضعف الحكومات العربية، الذى أدى بالتالى إلى تعزيز المقاومة الفلسطينية وتعزيز نشاطها القوى.
ومع مجئ خريف 1967 ظهر بوضوح أن الاحتلال لم يقترب من السلام الذى سعى إليه، أكثر مما كان عليه قبل الحرب، وأثناء تلك الفترة انعقد مجلس الأمن ما بين 9 و22 نوفمبر عام 1967، واستمرت اجتماعاته 107 ساعات فى 32 جلسة، انتهت بإصدار القرار “242” فى 22 نوفمبر 1967، والذى أكد طبقًا للنص الفرنسى والإسبانى: (إن تطبيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم فى الشرق الأوسط ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين:
– انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضى التى احتلتها، فى النزاع الأخير.
– إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب، واحترام واعتراف بسيادة ووحدة أراضى كل دولة فى المنطقة، واستقلالها السياسى، وحقها فى العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومُعترف بها.
الحدود فى مفاوضات القاهرة-غزة-أريحا
لم تكن الحدود محل خلاف كثيرًا فى مفاوضات القاهرة التى ترأسها عن الطرف الفلسطينى د. نبيل شعث، بينما ترأسها من طرف الاحتلال الصهيونى أمنون شاحك. وقد تطرقت المفاوضات إلى تفاصيل الانسحاب من مناطق غزة وأريحا وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية ونقل السلطات المدنية والأمنية إليها. لم تترك الاتفاقية شاردة ولا واردة إلا وتم تبيانها فى بنود الاتفاقية التى وقعت بين الطرفين، الوفد الفلسطينى برئاسة ياسر عرفات، ووفد الاحتلال الإسرائيلى برئاسة إسحاق رابين، وذلك فى 4 مايو 1994 بالقاهرة وبرعاية الرئيس المصرى وقتها “حسنى مبارك”، وبحضور الرئيس الأمريكى حينها “بيل كلينتون”، وسُميت اتفاقية غزة أريحا، حيث أُنشئت السلطة الوطنية الفلسطينية بموجبها.
الحدود في مفاوضات كامب ديفيد 2000
وصل الوفدان الفلسطينى والإسرائيلى، إضافة إلى الوفد الأمريكى، فى 11 يوليو عام 2000 إلى منتجع كامب ديفيد الرئاسى، وتم تشكيل ثلاث لجان رئيسية “القدس – اللاجئين – الأمن والحدود”، وأظهرت المفاوضات الماراثونية أو الفراغات التى تركها قريع وبن عامى فى مسودة “اتفاق الإطار” التى صاغاها فى استوكهولم كثيرة ومركبة ولم يستطيع باراك وعرفات تعبئتها كلها خلال فترة وجيزة، إذ لم يكن باراك على استعداد للانسحاب إلى حدود عام 1967.
الوساطة الأمريكية: مارس الرئيس كلينتون ضغوطًا كبيرة على الرئيس عرفات وصلت إلى حد الابتزاز، إلا أن عرفات رفض تمامًا التوقيع على أى اتفاق لا يتضمن الانسحاب التام إلى حدود الرابع من يونيو 1967، وحل قضيتى القدس واللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، وأمر مرافقيه بتجهيز حقائبهم مهددًا بالرحيل، حيث كان من الواضح للسلوك الإجرائى الأمريكى مع الطرفين، أن “الرئيس الأمريكى يمارس دوره انطلاقًا من ثوابت وتقاليد العمل السياسى الأمريكى تجاه الصراع الفلسطينى-الإسرائيلى، والتى عُرفت سلفًا باهتمامها وحرصها على الحفاظ على أمن الاحتلال الإسرائيلى.
الحدود في مفاوضات (الوقت الضائع) شرم الشيخ – طابا
كان لفشل المفاوضات فى كامب ديفيد الأثر الكبير فى سخونة الأوضاع على الأرض، بعدما بانت نوايا حكومة الاحتلال الإسرائيلى بعدم جديتها فى الانسحاب من الأرض المحتلة عام 1967، وكان لاقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى، محاطًا بالآلاف من جنود الاحتلال، إنما هى رسالة موجهة ضد عملية السلام، الأمر الذى فجَّر الانتفاضة الفلسطينية الثانية فى 28 سبتمبر عام 2000، وحاولت إدارة كلينتون بذل الجهود لإطلاق المفاوضات مجددًا، دون جدوى.
وقبل مغادرته البيت الأبيض عقد الرئيس كلينتون مؤتمر الشرق الأوسط للسلام فى شرم الشيخ يومي 16 و17 أكتوبر عام 2000 برعاية الرئيس مبارك، وشارك إضافة إلى الولايات المتحدة ومصر، الأردن، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، وطرفى الصراع: منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال الإسرائيلى. شُكلت فيه لجنة تقصى حقائق، مع بدء المفاوضات من النقطة التى انتهت إليها، وفى يناير 2001 بدأت مفاوضات طابا التى توجه المفاوضون من الجانبين إليها، ولم يكن الهدف الحقيقى الوصول إلى اتفاق، بل محاولة من الجانب الإسرائيلى لتقييد ما يمكن أن يفعله شارون، ومحاولة من الجانب الفلسطينى لإقناع إدارة بوش بأفكار كلينتون.
حدود دولة فلسطين وفقا لمبادئ القانون الدولي
منذ إعلان الاستقلال الفسطينى فى نوفمبر 1988 وطرح مبادرة السلام الفلسطينية أو ما سُمى حينها “هجوم السلام الفلسطينى”، حيث اقترحت منظمة التحرير الفلسطينية عقد مؤتمر دولى للسلام برعاية الأمم المتحدة، ينتهى إلى تنفيذ قرارات مجلس الأمن 242 و338 التى تستوجب الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى العربية المحتلة عام 1967، ثم إقامة دولة فلسطين عليها وفقًا لمبدأ “حل الدولتين”. ومع الترحيب الدولى الكبير بهذا المقترح، إلا أن الولايات المتحدة استطاعت أن تُحرف البوصلة عن جوهر المقترح الفلسطينى بعقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، والذى يمكن تسميته بمؤتمر إقليمى، برعاية أمريكية وروسية، وحضور شرفى للأمم المتحدة.
ومع أن الفلسطينيين انخرطوا فى مفاوضات ثنائية مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلى منذ مؤتمر مدريد 1991، ثم مفاوضات أوسلو 1993 التى حرفت أنظارهم عن رغبتهم بعقد مؤتمر دولى تحت رعاية الأمم المتحدة بشكل مباشر، إدراكًا من القيادة الفلسطينية حينها أن الساحة الدولية لم تكن مهيأة لعقد مؤتمر دولى فى ظل الهيمنة الأمريكية على النظام الدولى بأكمله، وكذلك تريد منح الفرصة لعملية المفاوضات الثنائية، أملاً بأنها قد تثمر عن تحقيق الهدف المنشود بإقامة دولتهم المنشودة.
حدود دولة فلسطين من قرارات الأمم المتحدة إلى خطة ترامب 2020
الخريطة التى عرضها ترامب، والبنود التى وضعها فى خطة “صفقة القرن”، أظهرت بوضوح الحدود المقترحة للدولة الفلسطينية المستقبلية، بعدما أزاح القدس والمستوطنات ومناطق الأغوار كليًا وبعض المناطق الفلسطينية المُصنفة “ج” من أراضى دولة فلسطين وضمها إلى الأراضى الواقعة تحت سيطرة الكيان الإسرائيلى، ومجموع هذه المناطق يزيد على 30% من مساحة الضفة الغربية.
وعلى الرغم من وجود بعض التباينات بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة وحكومة الاحتلال، إلا أن هناك اتفاقَا كبيرًا بينهما، فمنذ أن بدأت مفاوضات الوضع الدائم عام 1999، فإن الكثير من المقترحات التى قدمها الكيان الإسرائيلى كانت متوافقة إلى حد كبير مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى كافة ملفات المفاوضات على حد سواء، كملف اللاجئين أو القدس أو الأمن وحدود دولة فلسطين.
ومع أن الفلسطينيين انخرطوا فى مفاوضات ثنائية مباشرة مع الاحتلال الإسرائيلى منذ مؤتمر مدريد عام 1991، ثم مفاوضات أوسلو عام 1993، التى حرفت أنظارهم عن رغبتهم بعقد مؤتمر دولى تحت رعاية الأمم المتحدة بشكل مباشر، إدراكً من القيادة الفلسطينية حينها أن الساحة الدولية لم تكن مهيأة لعقد مؤتمر دولى فى ظل الهيمنة الأمريكية على النظام الدولى بأكمله، وكذلك تريد منح الفرصة لعملية المفاوضات الثنائية، أملاً بأنها قد تثمر عن تحقيق الهدف المنشود بإقامة دولتهم المنشودة.
رؤية الرئيس الفلسطيني محمود عباس
يمكن القول أن الرئيس محمود عباس استند فى كافة خطاباته على قرارات الشرعية الدولية بنسبة 100%، وعرض رؤيته للسلام مطالبًا على الدوام بعقد مؤتمر دولى للسلام تحت رعاية وإشراف مجلس الأمن الدولى، وعاد وكرر مطالبته فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر عام 2020، ليؤكد من جديد على مطالبته لمجلس الأمن بعقد مؤتمر دولى للسلام على أساس القرارات الدولية والاحتكام إلى قواعد القانون الدولى، وهو السبيل الوحيد لحل الصراع وتسويته، ولن يتأتى ذلك إلا بانسحاب الاحتلال الإسرائيلى كليًا من الأرض المحتلة وإقامة دولة فلسطين على أرضها، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولى، ودون ذلك فإن احتمالية تحقيق السلام تكاد تكون مستحيلة إن لم نقل إنها ستكون بحكم المعدومة.
دكتور/ أسامة خليل كامل شعث
الناشر: إشبيلية للنشر والطباعة والتوزيع – 2021