لقد شهدنا في الأيام القليلة الماضية كمًا فظيعًا من جرائم القتل والعنف البشعة، والتي جرى تنفيذها وارتكابها بطرق وحشية.. فما هي الأسباب؟ وما رؤية الشريعة السمحاء نحو هذه التصرفات العدوانية والأفعال الإجرامية؟
_______________________
د. محمود عبد الكريم عزالدين
_______________________
لا خلاف على أن هناك مخاطر هائلة ومُريعة تسببها جرائم العنف، التي تفشت بصورة واضحة في الآونة الأخيرة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر؛ ذبح مواطن على يد بلطجي والتمثيل بجثته في محافظة الإسماعيلية، وقد انتشر بمواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو صادم يوثق عملية القتل التي أثارت ضجة كبيرة في البلاد كلها.. وفي محافظة الجيزة، هشّم عامل رأس زوجته بـ”شاكوش”، وأحرق المنزل لإخفاء أثار الجريمة، كما عذَّب عامل آخر ابنته دون شفقة أو رحمة حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، بحجة تأديبها بزعم سرقتها متعلقات الجيران.. وهناك جرائم أخرى منها إقدام رجل على قتل زوجته في مدينة 6 أكتوبر، بطريقة مأساوية بعد أن قام بدفع رأسها إلى الحائط عدة مرات حتى فقدت الوعي أمام أطفالها الثلاثة، بدعوى كثرة كلامهاً.
ومما لا شك فيه أن مثل هذه الجرائم تؤثر بالسلب على وحدة الأسرة والمجتمع، وهي بطبيعة الحال تخالف الشرع القويم، والسلوكيات والقيم الحميدة التي حثّ عليها ديننا الإسلامي.
ويشير الشيخ هشام محمد القلتاوي- إمام وخطيب بوزارة الأوقاف- إلى أن معظم المجتمعات تعاني من تفشي ظاهرة العنف والإجرام الوحشي الأسري الذي تهدّد كيانها وتقوض أركانها، وتفكك لُحمتها.. وقد حثت الشريعة المسلم على التحلّي بالأخلاق الحميدة والرحمة، اقتداءً بالمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يعرف حق كبيرنا)، وفي حديث آخر (من لا يرحم لا يُرحم).
وقال ابن الأثير- رحمه الله تعالى-: في أسماء الله تعالى «الرّحمن الرّحيم» وهما اسمان مشتقّان من الرّحمة، مثل ندمان ونديم. وهما من أبنية المبالغة ورحمن أبلغ من رحيم. والرّحمن خاصّ بالله لا يسمّى به غيره، ولا يوصف. والرّحيم يوصف به غير الله تعالى، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال رحمن. والرّحمة من صفات الذّات لله تعالى والرّحمن وصف، وصف الله تعالى به نفسه وهو متضمّن لمعنى الرّحمة. وقد وصف الله تعالى نفسه بالرحمة في كثير من الآيات القرآنية، فقال سبحانه: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وقال سبحانه: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾.
ويضيف الشيخ القلتاوي: لقد قسَّم الخبراء العنف إلى قسمين: العنف اللفظي.. كالشتم وما أشبه ذلك، والقسم الثاني العنف البدني.. ويشمل التحرش البدني، والضرب، موضحين أن ظاهرة العنف تعكس في طياتها الانحطاط الأخلاقي والفقر الاقتصادي، وضعف الحجة والبرهان، لأن الإنسان السويّ خلقياً، والقوي فكرياً لا يحتاج إلى العنف بل الحجة والبرهان.
وتبرز في وسائل التواصل الاجتماعي حالات عنف لا حصر لها تتمثل في القتل والضرب وإحداث عاهات مستديمة، أدناها يتمثل في إطلاق كلمات نابية جارحة تجاه الآخرين، بينما تتخطى بعض الحالات الخطوط الحمراء لتصل إلى الإيذاء الجسدي.
وهناك إجماع من رجال الدين على أن أهم الأسباب، ضعف الوازع الأخلاقي والفهم الخاطئ للدين.. وفي هذا الإطار، من الأهمية بمكان التذكير والتنبيه إلى أن هناك الكثير من الأخطاء التي تحدث في التربية، والتي تمثل حجر الأساس في تشكيل الشخصية وتنشئتها تنشئة سوية، فضلا عن غياب دور الآباء في التربية وانشغالهم بالحياة المادية، ومحاولة توفير متطلبات الحياة وإهمال الإشباع العاطفي للأبناء، كما أن أخطاء التربية تقود إلى جيل منحرف.. ويُضاف إلى هذا وذاك، غياب دور مؤسسات التعليم والإعلام في التوجيه والإرشاد، ناهيك عن بعض الأنماط الثقافية التي تشجع على العنف وتحرض على الجريمة.
ويركز الشيخ محمد عبدالمنعم العاصي مدير عام بوزارة الأوقاف- على ما وصفه بـ (الخلل في التربية الإيمانية)، فالمعروف أن ضعف الإيمان بالله والجهل به وبأحكام دينه، يورث الإهمال من الآباء بالقيام بواجبهم في التربية، فينشأ الأبناء مثلًا على الجهل، ويتسلطون على الآباء عند كبرهم. وقد فطر الله المخلوقات جميعاً على الرحمة، حتى أشد الحيوانات وحشية.. وتلك قاعدة عامة، عليها قامت وتأقلمت حياة الكائن الحي، إلا أن ما يدعو للأسف، انحراف بعض الناس، حتى بدوا كالوحوش الضارية ضرباً وقتلاً وتدميراً طال الأبعدين والأقربين.. وقد وصف الله تعالى قلوب هؤلاء القساة بقوله جل وعلا: “كالحجارة أو أشد قسوة”.
ويدل العنف على وجود خلل في البنية العقدية والخلقية والعقلية لدى هذه الشريحة من الناس، التي انتُزعت الرحمة من قلوبهم، وغدت الوحوش الضارية أرق قلوباً، وأكثر أمناً منهم.. وقد توعد الله عز وجل باللعن من اتخذ ما فيه روح غرضاً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب امرأة, بسبب حبسها قطة حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فكيف بمن يعتدي بالضرب أو بالسجن أو بالتعزير أو القتل على أخيه الإنسان.
ويُرجع الشيخ خالد القيسي، من علماء الأزهر الشريف- أسباب العنف إلى عوامل، منها الجفاف الإيماني في قلوب المجرمين، أو سوء تربية من صغرهم، أو أمراض نفسية تعصف بهم، أو معاقرة المسكرات والمخدرات التي تُفسد عقولهم، وفي هذا الصدد، يتعين على مؤسسات المجتمع المدني والجهات الدعوية والتربوية ووسائل الإعلام واجب التوعية والتوجيه.
ويشدد الشيخ خالد القيسي على أن الأمن والأمان حقّ مُشاع لكل إنسان، ولاسيما في محيطه الذي يعيش فيه، وبيئته التي يُدرج فيها، ويقينًا فإن الوقوف أمام ممارسات العنف بكل أشكاله وألوانه، ضرورة تفرضها الشريعة السمحة، والفطرة السليمة، والعقل الصحيح، وتوسع دائرته يهدد بنية المجتمع بالانهيار والضياع والمصير المجهول.
وفي القانون الإسلامي ما يعرف أيضاً بـ(التعزير)، وهو يُطلق على ما دون الحدّ وله ضوابط، وهو عقوبة تأديبيّة يَفرضها الحاكم أو القاضي على جِناية أو جريمة لم يُعيِّن لها الشارع عقوبة، والتعزير يكون بالقول مثل: الزجر والتوبيخ، ويكون بالضرب والحبس والنفي، وغير ذلك، ومن هنا يجب تشديد العقوبات على مُثيري الشّغب والفَوضى والبَلطجة، وتُجَّار المخدرات واللُّصوص وقاطعيّ الطرق، والخارجين على القانون والنظام العام، وغيرهم ممن يَسعون في الأرض فساداً.