هناك عديد من التحديات والإشكاليات التي تواجه استقرار وأمن المجتمعات نفسياً ومادياً الأمر الذي يترك بصماته السلبية علي التنمية ومن أهم هذه التحديات والمعوقات (العنف الأسري) والتي باتت ظاهره تعكر صفو المجتمعات العربية والإسلامية والتي تعد بمنزلة العقبة الكبرى أمام استقرار وتماسك وقوة أي مجتمع، فقد انتشر العنف الأسري بكثرة خلال الآونة الأخيرة حتى أنه لم يقف عند حد الإهانة والضرب فحسب بل تعدي لارتكاب كبيرة من الكبائر كالقتل.
ومن هنا نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء علي مفهوم العنف بصورة عامة وأسبابه وتداعياته وسبل مواجهته مستقبلاً حفاظاً علي الأسرة وعلي رباط المودة والرحمة في مجتمعاتنا ودور الأزهر والكنيسة ومؤسسات التعليم في ذلك وذلك كله عبر ثلاثة محاور رئيسة علي النحو التالي.
أولاً: مفهوم العنف وملامحه وأبعاده
إن العنف هو سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية، وهو الشدهع والقسوه واستخدام القوة بطريقة غير قانونية والتهديد باستخدامها من أجل التسبب بالأذى وإلحاق الضرر بالآخرين.. وفي تعريف أخر للعنف بمنظور أوسع وأشمل بأنه يشتمل علي كل أشكال السلوك التي تكسر التفاعل التلقائي في موقف اجتماعي، يسلك فيه أحد الفاعلين بشكل يثير استجابة غاصبة أو عنيفة من قبل الفاعل الآخر ، ويتحول فيه بقية الفاعلين الي ضحايا لموقف عنيف.
وقد عرف علماء الاجتماع العنف بأنه (اللجوء إلي الأذى من أجل تفكيك العلاقات الأسرية، كالعنف ضد الزوجة أو الأبناء أو الأباء أو كبار السن، سواء من خلال الإهمال أو الإيذاء النفسي أو البدني).
وفي هذا السياق، عرفت منظمة الأمم المتحدة العنف بأنه ((رد الفعل)) القائم علي سلوك عنيف ينجم عنه الإيذاء أو المعاناة الجسدية أو النفسية أو الحرمان النفسي من الحرية في الحياة العامة أو الخاصة.
وقد تطورت مظاهر العنف وملامحه قد أصبح من الملاحظ تكرار سلوكيات العنف بين الأفراد في المجتمع سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق الإنترنت وتمثلت أبعادة في المجتمع المصري في العنف الأسري والعنف المجتمعي والعنف علي مستوي الدولة والعنف المبني علي النوع الاجتماعي.
وفي هذا السياق، تشير البيانات إلي تعرض المرأة للعنف سواء علي المستوي العام (68.2% ) تعرضن للعنف من مشرف أو مدير في العمل ) أو علي المستوي الخاص (حيث تعرضت 43% من النساء لعنف جسدي وإصابات من قبل الزوج ونصف النساء تعرضن للعنف البدني من الأب منذ بلوغهن 18 عاماً وأكثر النساء اللاتي تعرضن للعنف بكافة أشكاله (النفسي والبدني والجنسي ) كانت في الفئة العمرية 25ـ 29 سنة، كما تعرضت أكبر نسبة من النساء للعنف كانت بين المطلقات والمنفصلات حيث بلغت النسبة 66.6% للعنف النفسي ، 62.1 % للعنف البدني، 29.9 % للعنف الجنسي.
وفي هذا السياق، تشير الإحصاءات أن إجمالي عدد جرائم العنف الأسري التي ارتكبت في نطاق الأسرة خلال عام 2020م (354 جناية مقابل 255 عام 2019 م أي بزيادة قدرها 39 جناية بنسبة 39 %.
وتركزت أعلي النسب بمحافظات القاهرة 13% تليها الجيزة 12% ثم المنيا 8% وسوهاج 7% وتقع هذه الجرائم علي الفئة العمرية من (30 إلي أقل من 40 سنة ) بنسبة 27% .
وكان الدافع لارتكاب هذه الجرائم الخلافات الشخصية بنسبة 45% يلية الدفاع عن العرض بنسبة 15 % ويعد الأخوة أكثر الأفراد اقترافاً لهذه السلوكيات بنسبة 24 % يليهم الأزواج بنسبة 19 % فالآباء 10% .
ثانياً: دوافع العنف الأسري وآثاره
إن دوافع العنف الأسري تتمثل في دوافع نفسية حيث الشعور المتزايد بالإحباط وضعف الثقة بالنفس واضطرابات انفعالية ونفسية في مرحلة البلوغ والمراهقة وضعف الاستجابة للتقاليد الاجتماعية والرغبة في التحرر والاستقلال عن الكبار والشعور بالفشل والأنانية المفرطة وانسداد قنوات الحوار والتعبير عن الرأي، وإدمان المخدرات وضعف الوازع الديني.
كما أن هناك دوافع مجتمعية تتمثل في غياب القدوة في المدارس والجامعات وضعف الرقابة عليها وتحول النظام التعليمي لتجارة هدفها الاستثمار وليس التعليم أو التربية وعدم مواكبة الخطاب الديني للمستجدات العالمية وللثورة المعلوماتية مما خلق حالة من الفراغ المعلوماتي بالأمور الدينية وبخاصة لدي الشباب مما جعلهم يلجئون للإنترنت، علاوة علي عدم التوازن في الخطاب الديني لبعض العلماء مما شكل حالة من الاستقطاب الفكري لدي الشباب ودفعهم لاستخدام العنف في التواصل مع الناس ، مع تركيز الخطاب التوعوي علي العبادات وليس السلوكيات بين الأفراد وعدم مواكبتها للظواهر الحديثة كالعنف والتحرش.
الي جانب ضعف الرقابة الفعالة علي السينما والدراما مما صاحبة الكثير من مشاهد وسلوكيات العنف والبلطجة بها ، مع تعدد القنوات الإعلامية ما بين الرسمي والخاص مما شجع علي وجود العديد من البرامج التي قد تبث مفاهيم وقيم غير صحيحة في المجتمع مع عدم الرقابة علي وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع الافتراضي ما خلق حالة من الفوضي في المجتمع وصاحبة العديد من مظاهر العنف والتحرش عبر الإنترنت إلي جانب ضعف التشريعات الخاصة بجرائم العنف وبطء إجرءات التقاضي ما سهل ارتكاب جرائم العنف.
كما أن هناك عوامل أسرية التي قد تدفع لانتهاء سلوكيات العنف التفكك الأسري والتدليل المفرط من قبل الوالدين وعدم المتابعة والرقابة لسلوكيات الأبناء والرفاهية الاقتصادية والضغوط الاقتصادية حيث يؤدي فقدان الوظيفة أو مصدر الدخل الي تدني الدخل وبالتالي ممارسة العنف تجاه الأسرة .
وبكل تأكيد فإن للعنف الأسري تداعياته علي الأسرة وبخاصة الأطفال حيث الخوف والقلق الدائم وصعوبة في النوم وقلة مشاركتهم في الأنشطة المدرسية وعدم احترامهم للمدرسين نتيجة التمرد واللامبالاة مع ممارسة السلوكيات غير الأخلاقية والاكتئاب والعزلة، علاوة علي آثار العنف الأسري علي المجتمع والتي تتمثل في التفكك الأسري والطلاق والعداوة المجتمعية والسلوك العدواني في التعامل مع أفراد المجتمع والإدمان وأطفال الشوارع.
ثالثاً: إجراءات وقائية وعلاجية للعنف الأسري ودور الدين في ذلك ومؤسساته
ظاهرة العنف الأسري هي مسئولية المجتمع بأسرة ومؤسسات قطاع خاص ومجتمع مدني وتشترك فيه كافة مؤسسات الدولة: دينية وتربوية وأمنية وإعلامية واستخدام المجتمع المدني لخلق ثقافة مناهضة للعنف في المجتمع عامة وداخل الأسرة خاصة.
وفي هذا السياق يمكن تقسيم أدوات مواجهة العنف الأسري إلي محورين: وقائي وعلاجي:
المحور الوقائي: فإن الجانب الوقائي مهم جداً في مقاومة العنف الأسري ومنع انتشاره في المجتمع والحفاظ علي تماسك الأسرة والتي تشمل برامج توعية حيث التثقيف بخطر العنف الأسري والوقاية القانونية المتعلقة بحماية الأسرة والوقاية الإجرائية لمعرفة طرق الوصول للحماية بعد التعرض للعنف وطرق الإبلاغ الصحيح.
ومن بين الإجراءات الوقائية ( الوقاية من خلال الرعاية اللاحقة ) وهي برامج تهدف إزالة الآثار السلبية للعنف الأسري من خلال إعادة تأهيل المتضررين ودمجهم في المجتمع وتقديم خدمات استشارية نفسية لإعادة الثقة لهم وتدريبهم علي أساليب إدارة الغضب.
إضافة إلي ذلك: لابد من دراسة حالات العنف دراسة مستفيضة لاستكشاف الجوانب العضوية والنفسية والأجتماعية التي تحتاج الي علاج والحوار الصحي الإيجابي ودعم الآباء وتوعيتهم بمهارات الأبوة والامومة الإيجابية من خلال التوعية والزيارات المنزلية وهنا يأتي دور وزارة التربية والتعليم والمؤسسات الدينية والاجتماعية حيث ضرورة عقد ندوات ولقاءات مع أولياء الأمور لمناقشة أسباب العنف ضد الأطفال وكيفية مواجهته والتعامل معه واتخاذ أساليب أخري للعقاب مثل الحرمان من المصروف أو المنع من اللعب أو مشاهدة التليفزيون وأيضا ضرورة الحد من استخدام التكنولوجيا لوجود ألعاب كثيرة تدفع الأطفال للعنف .
إلي جانب ذلك هناك مبادرات إنسانية واجتماعية تقوم بها وزارة التضامن الاجتماعي لمحاربة العنف الأسري ومنها ما يقوم به (مركز استضافة المرأة) الذي بعمل علي تعريفها بالعنف وكيفية تعامل المرأة معه ومحاولة احتوائه والاجتماع بأفراد الأسرة لتقريب وجهات النظر بين الزوجين والقضاء علي أسباب الخلاف وتعديل السلوك لكل فرد داخل الأسرة حتي تكون متماسكة وبالتالي تندمج في المجتمع، إضافة إلي أن هناك وحدات متنقلة ( أطفال بلا مأوى ) لمواجهة أطفال الشوارع وإعادة قيد المتسربين في التعليم وتدريبهم علي حرفة للكسب منها والعمل علي التمكين الاقتصادي للمرأة من خلال منح قروض متناهية الصغر للمشروعات الصغيرة .
إضافة الي ذلك لابد من التأكيد علي الدور الدعوى والتوعوي للمؤسسات الدينية وبخاصة الأزهر والكنيسة في عقد اجتماعات وندوات للدعم الأسري وكيفية مواجهة العنف الأسري ، مع إطلاق الأزهر الشريف ل 35 حملة للتوعية بأهمية الأسرة ونجاحه في حل 58 ألف نزاع أسري وعقد 55 ألف ندوة ولقاء مباشر حول الأسرة وأهميتها وعلاج المشكلات الأسرية وكيفية تجنب العنف الأسري وعلاج الأسباب المؤدية الية مع مشاركة الوعاظ والواعظات في حل المشكلات الأسرية عبر وحدة ( لم الشمل ) التي أنشئت في رحاب الأزهر الشريف في السادس عشر من أبريل من عام 2018م مع إطلاق برنامج (التوعية الأسرية والمجتمعية ) تحت شعار ( أسرة مستقرة = مجتمع آمن ) للقضاء علي جميع أشكال العنف الأسري وذلك انطلاقاً من أن كل تجازو في حق إنسان بقصد ارهابة أو الأعتداء عليه محرم شرعاً وذلك استناد الي مسألة تحريم الظلم وفقاًً لقولة تعالي ( ألا لعنة الله علي الظالمين ) (هود 18) ، وفي الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) ( مسلم / 2577)، إضافة إلي أن الإسلام حث علي الرفق في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق في المعاش ) (شعب الأيمان للبيهقي / 6140) وهذه الأدلة وغيرها تدل علي تحريم العنف حتى العنف النفسي والذي يدخل تحت عموم الأدلة الشرعية.
المحور العلاجي للعنف الأسري: وهو الذي يستخدم مع الحالات المرضية كالاضطرابات العضوية أو النفسية والعمل علي الحد من تجارة المخدرات أو الكحوليات وإعادة تأهيل المدمنين.