لقد وقعنا في الفخ أصبحنا مسيرين بإرادتنا لعالم افتراضى جذاب خادع .. تسللت إلى عقولنا أفكار غريبة فى زي تنكرى مبهح …السوشيال ميديا تلك الشبكة العنكبوتية ذات الأوجه المتعددة بتطبيقاتها المختلفة من فيسبوك وإنستجرام وتويتر…الخ، والتي دخلت حياتنا كضيف حل فجأة على بيوتنا بدون إستئذان، فقابلناه بالبيجامة…والتي أصبحت فيما بعد الزي الرسمى لبعض مشاهير الإعلام الرقمي.
أستاذ فلان الإعلامي القدير خريج كلية الإعلام، والبارع في اللغة العربية وثلاث لغات أجنبية، وبينفق كل مرتبه ليظهر كنجم سينمائي على شاشة الفضائيات والتي وصل إليها بصعوبة وكد، وعلى الجانب الآخر يستيقظ حموءة من نومه وقبل ما يغسل وجهه يفتح الكاميرا ويطلع لايف على التيك توك، ويصبح تريند!!
ثم تأتي أنت أيها الإعلامي المحترف تستضيفه فى برنامجك تسأله عن إنجازاته فى الحياة، ليصبح مَثْلا يحتذى به فترجع بيتك تحرق بدلتك وتحلف لتطلع تاني يوم بالبيجامة !
يالها من تناقضات اعتدنا عليها.. إنها ثورة القبح عندما اختلت مقاييس الجمال ودرجة إحساسنا بها، ويصبح «التريند» والتمييز عبارة عن أكوام من القمامة والألفاظ النابية.. يُحضرني ما نحن فيه الآن من تشويه لقيم وثوابت، وإن اختلفت الأسباب بنشوء حركة الدادئية فى الفن، والمعادية للإيدلوجيات العقلانية، والتي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
حينذاك، قدم الفنان التشكيلي الفرنسي (مارسيل دوشامب) العمل الفني الشهير (المَبْوَلة) ليعلن لكل العالم احتجاجًا على القيم المتعارف عليها، والتمرد على التقاليد، وكسر التابوهات كنتيجة للأذى الذى لحق بالشعوب من تبعات الحرب، وضربًا لما قبله من مدارس كلاسيكية وواقعية تحاكي جمال الطبيعة.
ولكن ما هي الدوافع التب جعلتنا من أكثر الدول استخدامًا لوسائل التواصل الاجتماعي، والانخراط في عالم افتراضي بديل؟؟! فقد حدث تشتت للأسرة المصرية، وتزعزع في مكانتها بادىء ذي بدء منذ عصر الانفتاح الاقتصادي وصولاً إلى ما نحن عليه الآن، وكأن أي تبعات للتطور الزمنى ينعكس بالسلب على كيان الأسرة غير المهيئة لمستجدات العصر، وغير المسلحة بسلاح أمان ينبعث من قوة العقيدة ورسوخ القيم.
وعن أحدث تقرير عن إحصائيات مواقع التواصل الاجتماعي في مصر 2021 عن موقع we are social فإن هناك 49.00 مليون مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 47.4٪ من إجمالي السكان.
ربما يكون هذا رقما مخيفا، فنجد اقتراب العدد من نصف القوى البشرية لعدد السكان ممن يقضون ساعات طويلة بداخل الفيس بوك، وغيره من التطبيقات وهذا أمر لايستهان به، فقد أصبحت الأسرة الواحدة تعيش في جزر منعزلة، فتقوقع كل فرد داخل عالمه، وأصبحنا كفقاعات هواء تطير فى مهب الريح، قد تعصف بها رياح قوية، وقد تحطمها شكة دبوس، دون أن تدري باقي الفقاعات.
ومن خلال رسائل البريد الإلكتروني، لفت انتباهى رسالة من هاله رضوان، وهي موظفة وأم لبنت وولد، تشكو من أن ابنها لا ينتظم فى الاستيقاظ مبكرًا ليذهب إلى مدرستة، وذلك لاعتياده السهر المستمر للتواصل مع أصحابه عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أما ابنتها فتتابع «البلوجرز»، وتتمرد دائمًا على حياتها؛ فهي تريد أن تعيش مثل ما تراه !!
وفى رسالة أخرى من هناء محمد تقول فيها: «ضجت الخلافات بينى وبين زوجي لانشغاله الدائم والسهر لساعات متأخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فى حين أنه لا يتم بيننا أى حوار لأيام متتالية، وزادت بيننا الخلافات، إلى أن وصلت في نهاية الأمر إلى حد الطلاق».
ويؤكد خبراء الاجتماع والطب النفسى، على خطر تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، وزيادة حالات الاكتئاب، وإدمان الشباب لتلك المواقع، والتفكك الأسري وزيادة حالات الطلاق.
وقد أصبح من المعتاد أن يسير الناس في الطريق، وهم يحملون فى أيديهم الهواتف الخاصة بهم حتى أثناء القيادة، فنرى الرؤوس منحنية أمام تلك الشاشة الصغيرة، وكأنها فى محراب عبادة!! وكم من حوادث تقع على الطريق، وكم فقد كثيرون حياتهم لعدم انتباههم وانخراطهم في هذا العالم الافتراضي.
وهناك عديد من الجرائم، ارتكبت بعيدًا عن أعين رب الأسرة المنشغل فى هذا العالم البديل، تاركًا أبناءه بلا توجيه ولا رقابة، ليطالعنا الإعلام بقضية كانت بمثابة صدمة عنيفة للمجتمع المصرى، حين تم القبض على فتاتين (ح. ح ، م. أ ) بالقضية المعروفة إعلاميًا بفتيات التيك توك، لاتهامهما بالاتجار في البشر، وتحريض الفتيات على ارتكاب أعمال مخالفة للآداب العامة.
ولكن الدولة المصرية بوجه عام لم تكن بغافلة عن مثل تلك الجرائم؛ فقد سنت المزيد من القوانين الرادعة، والتي تجرم أي انتهاكات ترتكب عبر الشبكة العنكبوتية، أو تهدد القيم الأسرية.. وشددت العقوبة لتصل إلى الحبس والغرامة.
«بلاش هري يا مصريين» .. هذه الجملة التى داعب بها الرئيس السيسي شعبه أثناء فاعلية الاحتفال بمشروع حياة كريمة، ردًا منه على انتشار الشائعات والأقاويل الكاذبة حول أزمة سد النهضة، والتى نبه فيها بأنه ليس كل ما يتداول عبر السوشيال ميديا حقيقيا، ولكنه كما يقول المصريون مجرد «هري»…فكان ردا حكيما وراءه معان كثيرة.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى التقرير الذي نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية حول كيف أن معظم مواقع التواصل الاجتماعي «تراقب وتتجسس» على مستخدميها، كما أوضح التقرير أن مستخدمي الهواتف الذكية، هم «الهدف الأول» بالنسبة لتلك المواقع.. ويتم الاختراق والتجسس من خلال الكاميرا المزود بها أي هاتف ذكي والميكرفون الخاص بجهازه.
ولفت التقرير الصادم إلى أن أبرز المواقع، التي تتجسس على مستخدميها هي كالتالي: «واتسآب، وفيسبوك، وسناب شات، وإنستجرام، وتويتر، ولينكدإن، وفايبر».
إذًا فما المقصود من تلك الغوغاء التي نعيشها اليوم.. إن أصدقائي من القرى يحكون لي عن إدمان الشباب لمواقع السوشيال ميديا، والتي باتت أقرب ما تكون الى فكرة «النداهة»، التي جسدها فيلم سينمائي شهير بهذا الاسم عن قصة يوسف إدريس، حين ينساق الإنسان وراء رغباته دون وعي، فقد تأخذه إلى عالم اللارجوع.
وكما قال جبران خليل جبران في قصيدته المواكب:
«قد حوَّلوا نهر الحياة الى أكواب وهمٍ إذا طافوا بها خدروا ….فالناس إن شربوا سُرَّوا كأنهمُ رهنُ الهوى وعَلىَ التخدير قد فُطروا».