شارع الصحافة/ بقلم: علي الحاروني
في ظل الأزمة الأوكرانية- الروسية وفرض العقوبات الاقتصادية علي روسيا والإضرار بتجارة وإنتاج الغذاء في العالم وإتجاه الدول إلي المبالغة في تراكم المخزون من المنتجات الغذائية خاصة فيما يتعلق بالسلع الحيوية مثل الحبوب وزيوت الطعام، مع نقص المخزون العالمي للعديد من المحاصيل والإضطرابات المستمرة في سلاسل التوريد العالمية والظروف المناخية غير الطبيعية وإستمرار أسعار النفط الخام وتضخم الأسعار بسبب ارتفاع تكاليف النقل والشحن والصراعات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط وقضايا بحر الصين الجنوبي …. كل ذلك أدي إلي أزمة غذائية عالمية طاحنة وارتفاع قياسي في أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم.
فما هي التداعيات الحالية والمستقبلية للأزمة الأوكرانية – الروسية علي الأمن الغذائي العالمي؟ وما هي سبل التعامل الدولي مع تلك الأزمة ؟ وكيفية الاستفادة من التجارب الرائدة والخبرات العالمية للخروج من النفق الغذائي المظلم العالمي وتأمين الإحتياجات العربية الغذائية ؟ هذا ما سنحاول التعرف عليه عبر محورين رئيسين.
أولاً- رؤي حول الأزمة الغذائية العالمية لتأصيل الواقع واستشراف المستقبل:
– تعد روسيا الدولة الأولي علي المستوي العالمي في تصدير القمح بنسبة تصل إلي 24 % من إجمالي صادرات الدول الأكثر تصديراً للقمح في العالم، وكذلك تعد أوكرانيا مصدراً مهماً لتجارة الحبوب والبذور الزيتية في العالم حيث تعد المصدر الأول لزيت عباد الشمس في العالم حيث تصدره إلي 110 دولة حول العالم كما تحتل مراكز متقدمة بين الدول الكبري المصدرة للقمح والشعير والذرة خاصة لشرق وجنوب شرق أسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا.
وفي ظل الحرب الأوكرانية – الروسية حدثت إضطرابات شديدة في الإنتاج الزراعي وزيادة الضغوط التضخمية في أسعار المنتجات الزراعية وإرتفاع أسعار المواد الغذائية وبالتالي زيادة أسعار أسواق الطاقة العالمية حيث يتم إستخدام حصة متزايدة من إنتاج المحاصيل لإنتاج أنواع مختلفة من الوقود مثل الإيثانول أو الديزل الحيوي ناهيك علي ارتفاع تكاليف النقل والشحن للمنتجات الزراعية والغذائية.
والمؤكد أن التدخل العسكري الروسي له تداعيات سلبية جمة علي الاقتصاد العالمي خاصة مع تشديد العقوبات الدولية علي موسكو ومنها تراجع نمو الاقتصاد العالمي وصعود قوي االأسعار النفط والغاز لاسيما مع تنامي المخاوف بشأن مستقبل إمداد النفط والغاز الروسية عبر خطوط الأنابيب إلي الأسواق الأوروبية، ما يؤدي بالتبعية إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع الغذائية وبخاصة القمح الذي ارتفعت أسعاره بصورة شديدة بلغت 40 % والذرة 21 % نتيجة لتعطل حركة الصادرات الزراعية من أوركرانيا، مع توقع زيادات إضافية في تكلفة فاتورة الغذاء العالمية خاصة مع ارتفاع أسعار الأسمدة الزراعية مع زيادة أسعار الغاز الطبيعي وإحتمالية تعطل إمدادات الأسمدة من روسيا.
وتؤدي الحرب الروسية- الأوكرانية إلي تكريس أزمة سلاسل الإمدادات والتوريد العالمية في البحر الأسود وتفاقم أزمة الشحن والنقل العالمي للبضائع وشبح الركود التضخمي، ما سيؤدي إلي تفاقم الأزمة الغذائية العالمية وهنا تجدر الإشارة إلي حسن إدارة دول الخليج لأزمة سلاسل التوريد الغذائية من خلال اتخاذها العديد من التدابير الفورية ومن أهمها الاعفاءات المالية والمزايا الائتمانية للمزارعين وللشركات الزراعية إلي جانب دعم عمليات التعبئة والتغليف والتوزيع وقد حافظت تلك الخطوات علي الأمن الغذائي حتي ولو كان على المدى قصير الأجل.
ثانياً- استراتيجية التعامل الدولي مع الأزمة الغذائية العالمية علي ضوء التجارب الدولية والعربية.
-في ظل تداعيات الأزمة الغذائية العالمية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حيث أدت إلي الكثير من الاضطرابات السياسية في العالم ووصلت المواد الغذائية إلي مستويات مرتفعة من الأسعار خاصة مع استمرار أزمة سلاسل الامداد وتراجع مخزون السلع الأساسية في عدد من الدول في العالم واضطراب حركة التجارة والملاحة في البحر الأسود الذي يعد الشريان الرئيسي لتجارة المحاصيل الزراعية بالنسبة لأوكرانيا لاسيما مع فرض الأسطول الروسي حصاراً بحرياً لتعطيل التجارة الدولية لأوكرانيا بما في ذلك الصادرات الزراعية خاصة وأنه يتم شحن 95 % من صادرات الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود ومما يزيد من الضغوط التضخمية علي أسعار المنتجات الزراعية والتي تؤثر علي الدول التي تعتمد في استهلاكها المحلي علي الواردات الزراعية.
-وإزاء كل ذلك لجأت العديد من الدول والتي تعتمد علي المنتجات الزراعية والغذائية من أوكرانيا وروسيا إلي استراتيجيات متعددة الأجال، فعلي المدي القصير والمتوسط لجأت الدول المستوردة إلي تكوين احتياطي مناسب من السلع الغذائية لتلافي الصدمات الحادة من قلة العرض مع تنويع مصادر الاستيراد والتحوط ضد تقلبات المناخ والنزاعات الدولية والاتجاه بعيداً عن أوروبا نحو أسواق شرق أسيا وأمريكا الجنوبية أما علي المدي الطويل فتلجأ الدول المستوردة إلي زيادة حجم الإكتفاء الذاتي من الإنتاج المحلي للمنتجات الغذائية الرئيسة.
وفي هذا الإطار ومن واقع التجارب الدولية المختلفة يمكن القول بأن هناك عدداً من الإجراءات التي ترفع من كفاءة إدارة الاحتياطات والمخزون السلعي ومن أهمها إنشاء منظومة للبيانات وأنظمة مراقبة المخزون الحالية لمساعدتها في الإدارة السليمة للاحتياطات ويمكن للدول أيضاً تكوين احتياطي إقليمي للمنتجات الغذائية والنفطية مثل القمح والذرة والأرز والسكر وإعادة النظر في السياسات الحالية للاحتياطات الغذائية وتقييمها لتحديد المستوي المناسب للتدخل الحكومي اللازم لحسن إدارة المخزون السلعي والتعامل مع صدمات الأسواق العالمية، مع تحديث عمليات وتقنيات التخزين وتنويع المخزون السلعي واستخدام العقود المستقبلية لتأمين الاحتياجات الغذائية المستقبلية لاسيما الاضطرابات السياسية والأمنية والأوبئة والكوارث الطبيعية أو تغير المناخ.
وفي هذا السياق يمكن استخدام التقنيات الجديدة والمبتكرة التي تناسب الظروف المناخية والتربة المحلية لزيادة الانتاجية واستدامة النظم الزراعية بهدف الانتقال نحو إنتاج غذائي مستدام لا سيما مع الأزمة الغذائية العالمية ومن هنا يجب الاستفادة من التجربة الخليجية في الابتكار الزراعي واستخدام التكنولوجيا الحديثة والاستثمار في الطاقة الإنتاجية المحلية وحلول التكنولوجيا الزراعية.
ولابد من زيادة الإمدادات الغذائية المحلية عن طريق المحاصيل المعدلة وراثياً والزراعة الصحراوية والزراعة بمياه البحر والزراعة الدقيقة التي تستخدم البيانات والتكنولوجيا لزيادة الغلال مع مساعدة المنتجين والمستهلكين علي تعزيز الاستفادة من منصات الانترنت والأسواق الإليكترونية حيث تساعد هذه الأدوات الرقمية في إدارة مخاطر سلاسل الإمداد وتقليل إهدار الطعام.
ويمكن للدول إدخال قنوات استيراد جديدة لجلب الموارد الحيوية إلي سلسلة القيمة الزراعية ويمكنها أيضاً تبسيط إجراءات المراقبة للحدود لإدخال البضائع بشكل أسرع ومن ذلك مثلاً تقليل عمليات التفتيش علي الحدود والجمارك للشحن الزراعي واعتماد الشهادات الإلكترونية للأغذية المستوردة بدلاً من طلب الوثائق المادية.
إلي جانب قيام الدول التي ليس بها قطاع خاص ناضج وفعال في مجال صناعة الأغذية تحقيق تقدم أسرع في هذا المجال من خلال إنشاء كيان انتقالي شبه حكومي في صورة شركة عامة كما فعلت الهند وإندونيسيا والمكسيك وكوريا الجنوبية وتونس.
وعلي المدى المتوسط يمكن لهذا الكيان شبه الحكومي تشجيع المزارعين علي الاستفادة من تقنيات الزراعة الذكية لزيادة الإنتاج المحلي مع الاستثمار في أراضٍ زراعية بدول أفريقية مثل السودان وغيرها لتعزيز سلاسل التوريد وزيادة تدفق الواردات وبناء الإمدادات الغذائية المحلية مع تطوير قدرات الاستيراد للقطاع الخاص وربط الشركات بشركاء تجاريين استراتيجيين … هذه هي رؤية لتأمين احتياجات العالم وفي القلب منه منطقة الشرق الأوسط من الغذاء علي ضوء التجارب والتدابير الدولية والعربية الناجحة.
______________________________
علي عبدالفتاح الحاروني- مصر