مقالاتمميز

أحمد نورالدين يكتب: «رمضان».. في ذاكرتي

إذا كانت الذاكرة الجمعية تمثل أهم مرتكز يقوم عليه وبه مشروع التوثيق، وكما يعرفها عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس: «عملية تذكر فردية لا يمكن أن تنشأ إلا ضمن إطار اجتماعى معين، ويربط الذاكرة الجمعية والذكريات الشخصية للفرد بالمجتمع الذى ينتمى إليه»، كما أنها تعد الجمع الرمزى لذاكرات الأفراد، وتأسيس هوية المجتمع، ومصدرا للتاريخ.

   وتعد الحكايات، والسير الذاتية، والتراث، والروحانيات، روافد مهمة للذاكرة الجمعية، ومن ثمة حفلت ذاكرة كل منا الرمضانية بالعديد من الذكريات التى لن تمحى من قلوبنا وعقولنا أبدا ما حيينا.

   ومنذ أن تفتحت عيوننا على الحياة، إلا وحفر تراث وروحانيات رمضان المبارك فى عقولنا وقلوبنا، حبا، وعشقا، وسيرة، وتاريخا، وأحداثا، وشخصيات، ملكوا عقولنا، وتربعوا فى قلوبنا.

   وفى ذاكرتي الجمعية الرمضانية، كلما أردت استدعاء ماضينا الرمضانى لأفرح وأبش، أتذكر والداى وكل أحبابى- رحمهم الله- فأتذكر فرحة قدوم واستقبال رمضان، وكيف كانت أمى -رحمها الله- تقوم باحتضاننا فور اعلان المفتى رؤية هلال الشهر الكريم، وإذاعة أبي -رحمه الله- التهنئة وخبر الرؤيا فى إذاعة ميكرفون المسجد، والتنويه لبدء صلاة التراويح بعد العشاء.

   ثم يستدعي عقلي وخاطري قرآن الفطار بصوت الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- هذا الصوت الملائكي الممتلئ تصديقا وإيمانا، وأتذكر معه ابتهالات الشيخ سيد النقشبندى بعد أذان المغرب مباشرة، أستاذ المداحين، وأحد علامات شهر رمضان، الذى طالما هز مشاعرنا ووجداننا وقلوبنا بابتهالاته التى كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته، ممثلا الجناح الثانى للجمال الربانى، والروحانيات الرمضانية مع الشيخ محمد رفعت.

   ثم تستدعي ذاكرتى الجمعية، الطبلية التى كنا نجلس عليها على الأرض مع أبى وأمى -رحمهما الله- وإخوتى، وكيف كانت ملاذا آمنا للدفء الأسرى والوحدة والمودة، ومع أننا حرمنا منها الآن، إلا أننى أعود بعقلى وذاكرتى لها، أستأنس بها حبا وودا على أيام خلت، حفلت بالسعادة والرضا فى أبهى صورها.

   ومن روحانيات وتراث رمضان الذى ارتبط بذاكرتي صغيرا، حبى لمشاهدة المارة البسطاء في الشارع قبيل الفطار، وجارتى الحاجة أم ناصر -رحمها الله- بائعة العرقسوس والسوبيا والتمر هندى، وبائع الفجل والجرجير، وحاملى الخبز والطرشى المهرولين الى بيوتهم، ثم هوايتى المفضلة، بالنظر للشارع وقت الإفطار، وقد خلا تماما من المارة، ثم العودة للطبلية لاستكمال إفطاري مع أسرتى.

  ثم ها نحن ذا نشب على صوت عملاق الطرب الشعبى محمدعبد المطلب ورائعته “رمضان جانا” الذى كنا ننتظرها، وما إن نسمعها إلا ويدخل السرور والبشر على قلوبنا وأنفسنا فرحا بقدوم الشهر، وما زالت هذه الأغنية الرائعة خير سفير لاستدعاء ذكريات رمضان بأكمله، التراثية، والسلوكية، والروحانية، والفعلية.

   ثم شببنا وكبرنا على صوت “الثلاثى المرح” الذى كانوا يشدون لنا فى حب وسعادة غامرة فرحا باستقبال رمضان، واحتفاء بقدومه، بأجمل أغانيهم المبدعة التى حفرت فى قلوبنا وعقولنا، ذو المذاق الخاص الممتع (وحوى يا وحوى، أهو جه يا اولاد، سبحة رمضان،أفرحوا يا بنات، وغيرها).

   ومن محفورات ذاكرتى الرمضانية، مشروب العرقسوس الذى ارتبط ارتباطا غريبا بشهر رمضان تحديدا دون سواه من شهور السنة ، وكيف كان بائعوه ينتشرون فى الشوارع وعلى الأرصفة، ينادون به ” شفا وخمير يا عرقسوس” جذبا للشراء، والكل يتسابق فى شرائه وحمله والعودة به للبيت قبل انطلاق مدفع الافطار.

   وأتذكر جدتى والتى كانت تقوم بصناعته فى البيت، وأجلس أمامها وهى تصنعه وتعصره فى الشاش، ثم تتركه ليخمر، ناهية إياى ألا ألعب فى الدورق حتى يتم عملية تخميره وشربه فى الفطار وبعده.

   ثم يأتى الفول المدمس متربعا على عرش ذاكرتى الرمضانية فى السحور، وقبله شراؤه مع إخوتى وأبناء خالتى، والمكوث أمام محل بائع الفول لأوقات كثيرة انتظارا للحظة الحاسمة فى الفوز بشرائه، فى وجود كثافة عددية كبيرة تملأ أرجاء المحل وخارجه، ثم نشوة النصر بعد خروجى بطبق الفول والعودة به إلى البيت.

   كذلك الكنافة التى أعشقها، عشق جميل لبثينة، وكُثير لعزة، وقيس لليلى، وعنتر لعبلة، والتى قلما ونادرا ما خلت مائدتنا منها فى رمضان، وكانت أمى تصنعها لنا بيدها المباركة -رحمها الله-

   كما تستدعى ذاكرتى المقدس فرنسا وزوجته وبناته، والذى كنت أشترى منهم الكنافة والقطايف فى رمضان، وأنظر إليهم فأجدهم جميعا يصنعونها لنا -نحن المسلمين-، فى فرحة وسعادة وبشر، والصليب يتدلى على صدورهم وعلى أيديهم، وهذا لن تراه إلا فى مصرنا الحبيبة، بنسيجها الواحد الأوحد القوى، حفظه الله.

   جنبا إلى اللعب بالفانوس، وضرب البمب والصواريخ وحرب أطاليا، ولعبة الأستغماية مع أصدقائى من الجيران، وحضور ومشاهدة دورات كرة القدم التى يلعبها الشباب الكبير سنا عنى، وحرصى على مشاهدة المسحراتى ليلا وهو ينقر على طبلته، موقظا الناس للسحور، وندائى له راجيا أن يقول اسمى فى ندائه بالسحور، وسعادتى البالغة عند استجابته لهذا، وكأن اسمى نشر بالبنط العريض بالصفحة الأولى بالجريدة، أو نطق به فى الإذاعة.

   ثم تأتى الأيام الأخيرة من رمضان، والكل يودعه بطريقته وأسلوبه، لكن تظل الغالبية العظمى من شعبنا الطيب، وأولهم أمى وجدتى وجيرانهم -رحمهم الله- يودعونه بعمل الكحك والبسكويت والغُريَّبة، وكيف كنت أجلس معهم طفلا صغيرا أشاهدهم وأترقب كل حركة منهم فى مراحل تصنيعه، ثم يأتى دورى بحمل الصيجان على رأسي والذهاب به إلى الفرن لخبزه وتسويته، ثم الانتظار ليلا لعودتى به على رأسي مرة أخرى مخبوزا، ورائحته الشهية الزكية الجميلة التى تفوح فى كل شبر من حولنا، ثم التسلية به فى “الراحة والجاية”، ونداء ونهى أمى الحبيبة لى: “يا ابنى ده معمول للعيد”.

   جنبا إلى فرحتى التى لا أنساها يوم الوقفة -صغيرا- وذهابى مع أبى –رحمه الله- لشراء حذاء العيد، وكيف أننى كنت أضعه بجانبى على السرير انتظارا للبسه والذهاب به لصلاة العيد وما بعدها.

   ذكريات، وذكريات، حفرت فى ذاكرتى الجمعية الرمضانية، لن تمحو منها ما حييت، أتذكرها الآن بعد انطلاق الشيب فى العُمر والجسد والرأس، أرويها لأولادى، فى سعادة غامرة ، عائدة بى لهذه الأيام الخوالى، التى ما زال عبق رائحتها الطيبة نشمه، متذكرا أمى وأبى وكل أحبابنا الذين رحلوا عنا وسبقونا للآخرة.

    يقينى أن كل ما تحدثت عنه موجود بصور مختلفة عندنا جميعا، كلٌ بذكرياته الشتى، لكن يبقى رمضان بروحانياته، وتراثه، وعبادته، وفرحه، وبشره، ورموزه، علامة محفورة مضيئة فى قلوبنا قبل عقولنا، وكل عام أنتم ومصرنا الحبيبة وأمتنا بخير وأمن وطمأنينة.

••••••••••

أحمد نورالدين

مدير تحرير بمؤسسة الأهرام

amnt4@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى