أتعجب كيف يُلقي عديد من رؤساء العمل في مصالحنا الحكومية اللوم كاملاً على مرؤوسيهم؛ كيف أنهم غير مؤهلين، غير جديرين، غير ناجزين؛ كيف أن حياتهم كسل ونميمة ودسيسة.
أتعجب كيف يعيش المدير منهم دور الضحية الذي وقع في براثن هذا الجيش الجرّار الذي يستوجب الفرار، والذي هوى بهذا المسكين المستكين إلى يَمٍ مظلم دفين. يمضي نصف أوقاته في شكوى لا تنقطع تبرر استسلامه للتحديات، والنصف الآخر ما بين أمر ونهي وعقاب لا تجلب جميعها سوى هزائم وانكسارات.
منهم من يرى أنه يدير بشراً لا أمل فيهم ولا رجاء، فهم كالأسماك التي تحللت، وعلى المسكين مهمة أن يجعل من هذا “الفسيخ شربات”. فهل هذا عدل وإنصاف؟ أم أن تلك طبائع الأمور في إدارة العمل والعباد؟
فهل نظر صاحبنا المدير مرة في المرآة وقد نفض عنها وعنه التراب؟ هل جرّب مرة أن يوجه إصبع الاتهام إلى نفسه بدلاً من توجيهه إلى مرؤوسيه في العمل مرات؟ هل وضع خططاً للتدريب وأخرى للدعم والتأهيل؟ هل فوّض وحفّز كثيراً وانفرد وعاقب قليلاً؟
هل تبنّى عملاً جماعياً يكون فيه الواحد من أجل الكل بديلاً عن طموح فردي يكون فيه الكل من أجل الواحد؟ هل شجّع وأثنى غالباً ووبّخ ولام نادراً؟ هل تواضع فصار محبوباً ولم يستكبر فصار منبوذاً؟ هل تريّث فكان حكيماً في قراراته أم تهور فوقع فريسة لانفعالاته؟ هل عمل خارج الصندوق كالنحلة مبتكراً أم انغلق بداخله كالسلحفاة منبطحاً؟ وهل كان محفّزاً ملهماً مؤازراً أم محبطاً أرعن متخاذلاً؟
هل يفعل كثيراً ويتكلم قليلاً أم يثرثر غالباً وينجز نادراً؟ هل تغلّب على التحديات فانتصر أم استسلم لها فغلبته وانهزم؟ وهل خطّط لتحقيق النتائج البعيدة النّاجزة أم لم ير منها سوى الأهداف القريبة الواهية؟
هل اعتنى بالكيف وجودته أم انشغل بالكم ووفرته؟ وهل اهتم بإرساء قيم ومبادئ شفافة أم كان هو مثال لغايات رمادية فتّاكة؟ ثم هل وقف متجرّداً متواضعاً كاليمامة في مؤخرة الصف عندما حلّت لحظة النجاح والتكريم، أم هبّ في مقدمة الصف مغواراً مقداماً كالفهد عند حصد الغنائم، منتشياً بعبارات الثناء والتفخيم؟ فهل هؤلاء المرؤوسين قدرهم- وا أسفاه- أنهم “في الفرح منسيين وفي الحزن مدعوّين”؟
المدير في العمل بوصلة مرؤوسيه ونجمهم الذي يسترشدون به. فهو قمر ساطع يدورون في فلكه وليس ثقباً أسود يندثرون في هوّته. فإن صنع منهم أقماراً جعلوه شمسهم المشرقة، وإن أحرقهم بسطوعه اندثر بأُفولهم. فإدارة مجموعات العمل بنجاح تتطلب حنكة وجهداً وصبراً، بل وإنكاراً للذات.
هيا لنكن شموساً وأقماراً؛ رؤساء ومرؤوسين، ندور في فلك مُحكم لا يحيد. فالقمر يسطع بتوهج الشمس ويدور في فلكها بقدرٍ محسوب. فيا أيتها الشموس المتوهجة رفقاً بأقمارٍ خافتة، فبك ستتوهج تلك الأقمار ساطعةً، وقد تخفت فتزول وتندثر.
دكتور أسامة مدني- مصر
زر الذهاب إلى الأعلى