في الفترة من 29 ديسمبر 2022م إلى 1 يناير 2023م أقيمت الدورة الـ 35 للمؤتمر العام لأدباء مصر، والتي استضافته محافظة الوادي الجديد، حيث جاء المحور الأول لكتاب أبحاث المؤتمر بعنوان (مشكلة المعنى)، وشارك فيه كل من د.سامي سليمان رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، ود.حاتم الجوهري أستاذ النقد الأدبي والدراسات الثقافية المشرف على المركز العلمي للترجمة بهيئة الكتاب، ود.عبد الرحيم الكردي العميد الأسبق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة قناة السويس.
وجاءت الدراسة الخاصة بكل منهم على التوالي تحمل: (سيولة المشهد الثقافي وتعدد المعاني.. قلق دائم أم راحة مؤقتة- مستقبل السياسات الثقافية في مصر وتاريخها.. جدل السياق والمعنى- ميراث المعنى ولزوميته). وفي دراسة حاتم الجوهري قدم رصدا عاما للنمط الثقافي الذي اتبعته السياسات الثقافية لمصر، من خلال تتبعه لمعيار الجدل بين الذات والآخر في كل هذه المراحل، التي بدأها من رفاعة الطهطاوي وفترة محمد علي وحتى اللحظة الراهنة فيما بعد ثورة 25 يناير.
ويقدم الجوهري رصدا للنسق الثقافي العميق الذي سيطر على السياسات الثقافية المصرية؛ معتبرا أن المرحلة الأولى لمصر شهدت تعايشا بين الذات والآخر تمثل في اشتغال الطهطاوي بالترجمة والاشتغال بالمناهج وعلوم الآخر الأوربي، وفي الوقت نفسه الاشتغال على الذات وعلوم التراث والآثار.
ثم يطرح الجوهري تصورا لبداية الجدل بين الذات والآخر يتسم بالجسارة؛ حينما اعتبر أن ظهور الفكر الماركسي مع القرن العشرين هو بداية الجدل الثقافي واحتدامه بين الذات والآخر، حيث تبين الدراسة أن التيار الماركسي قدم طرحا شديدة التطرف وهي فكرة الآخر/ الذات المطلقة التي تجب كل الذوات الأخرى، وتقدم مشروعا وجوديا كليا يعتبر أنه المطلق الجديد للبشر (الدولة العمالية المادية وتصور أن ذلك سنهي كافة التناقضات والتباينات في الظاهرة البشرية عموما)، حيث تفجر الصراع هنا بين الذات المصرية/ العربية وبين دعاة الذات المطلقة الماركسية ومشروعها، كما أشارت الدراسة إلى أن مصدر الذات المطلقة يعود إلى هيجل أستاذ ماركس، ولكن الهيجلية والمثالية المطلقة لم تنتشر مثلما انتشرت الماركسية والمادية المطلقة.
تعرج دراسة الجوهري بعد ذلك على مرحلة ظهور طه حسين وتأثيره الواسع، وتأكيده على فكرة الجدل والصراع الحدي والصفري بين الذات والآخر، حينما قدم تصوره في كتاب “مستقبل الثقافة” معتبرا أن مصر تنتمي لحوض البحر المتوسط وأقرب للحضارة اليونانية القديمة منها إلى الشرق والذات العربية والإسلامية.
تنتقل الدراسة بعد ذلك إلى مرحلة ثورة 1952م حيث تعتبر أنها طرحت نوعا من التوظيف الثقافي والتعايش يشبه مرحلة رفاعة الطهطاوي، وذلك عندما تبنت الثورة مفاهيم “القومية” و”الاشتراكية” بوصفهما منتجا للآخر الأوربي، ولكنها عملت من خلال تلك التمثلات الثقافية على استعادة الذات المصرية/ العربية.
وفي مرحلة السادات والسبعينيات ترصد الدراسة عودة الاستقطاب مجددا؛ من خلال تخلي السادات عن تقديم الذات من خلال “القومية” و”الاشتراكية”، وتبنيه مفاهيم الرأسمالية بشكل استهلاكي لا يقوم على الإنتاج والتصنيع، وكذلك ميله نحو أمريكا واتفاقية السلام مع الصهيونية وزيارة الكنيست “الإسرائيلي”، وما أحدثه ذلك من صدمة أدت إلى مقتل وزير الثقافة المصري الذي صاحبه في تلك الزيارة، ثم أدت لاغتيال الرئيس السادات نفسه.
وفي مرحلة مبارك والتسعينيات ترصد الدراسة تأكيد السياسة الثقافية عن صعود الآخر الثقافي، من خلال الثنائي فاروق حسني/ جابر عصفور، وظهور مقولات ما بعد الحداثة ونهاية السرديات الكبرى، وزمن الرواية وقصيدة النثر، وتحول الثقافة إلى فعل نخبوي يكاد يكون على قطيعة وأزمة مع ذاته.
وفي مرحلة ثورة 25يناير؛ ترصد الدراسة استمرار الجدل ذاته بين الذات والآخر، والصدمة التي أحدثتها القاعدة الجماهيرية حينما خرجت في الميادين بشعارات ترفض اليسار والليبرالية وترفض اليمين وفرق الدين السياسي، ومحاولة النخبة الثقافية التاريخية الحفاظ على مواقعها المستقرة بالتأكيد على الثنائية الحدية بين الذات والآخر.
وفي مرحلة صعود الإخوان ترصد الدراسة ظهور التمثل الثقافي المضاد أو التطرف المضاد للذات، الذي استحضر أشكالا كلية تاريخية مطلقة ردا على الذات المطلقة للآخر في شكلها الماركسي أو في شكلها الهيجلي الرأسمالي المعاصر مع اليبرالية الديمقراطية الأمريكية، والذي انتهى بالصدام ثم الإزاحة.
وترصد الدراسة مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو وتأكيد السياسة الثقافية على الجدل القديم ذاته، دون سعي من القائمين عليها على طرح سياسة ثقافية فاعلة تتجاوز جدل الذوات المطلقة المتطرفة من هنا أو من هناك.
لتنتهي دراسة حاتم الجوهري بطرح تصور بديل لسياسة ثقافية فاعلة؛ يقوم على تجاوز الجدل بين الفريقين الذات المطلقة العربية عند فرق الدين السياسي واليمين، والذات المطلقة عند الآخر الأوربي الماركسي أو الهيجلي في شكله الليبرالي الحديث، مقدمة فرضية نظرية لهذه السياسة الثقافية البديلة تعتبر ان التاريخ عبارة عن دروات ثورية وليس دروات حضارية كما كان يقول أرنولد توينبي…
وأن الذات العربية قدمت لحظة تاريخية فارقة مع مشروع الثورات العربية في القرن الحادي والعشرين، وأن تلك اللحظة هي مفصلية ثقافية رافعة قادرة على إحداث التحول الحضاري، شرط التصالح معها بعيدا عن استقطابات اليمين واليسار، وتحول هذه اللحظة إلى مشترك مجتمعي جديد ينتج نخبته و(كتلته الجامعة)، التي تعبر بالذات العربية للمستقبل في القرن الحادي والعشرين.
زر الذهاب إلى الأعلى