تعد مؤسسة الأزهر بمصر هي الأكبر والأقدم في العالم الإسلامي، إذ تأسس الجامع الأزهر على يد جوهرالصقلي قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في 24 من جمادى الأولى 358 هجرية، والرابع من أبريل 970 ميلادية، أي بعد عام واحد من تأسيس مدينة القاهرة، وما لبث أن تحول إلى جامعة علمية، ثم بدأ بوصفه جامعة بصورة عصرية عام 1930م.
وبدأت تلك الجامعة العريقة بكليتي اللغة العربية والشريعة وفي عام 1960 أضيف إليها كلية أصول الدين وكلية البنات الإسلامية، وكان الأزهر ولايزال يستقبل وفودطلاب العلم من كل أقطار العالم الإسلامي، يرتدون زيا موحدا يجمعهم، ولا يتخلون عنه حتى بعد عودتهم لبلادهم، ولهذا كان يضم عددا من الأروقة ولكل قطر أو أكثر رواق مخصوص.
ومن تلك الأروقة : السودانية والمغاربة ورواق يجمع (الحبشة وإرتريا والصومال) ورواق البرنو يجمع (السنغال وغينيا ونيجيريا وغانا) وروان تشاد والنوبة واليمن والشام وإندونيسيا والهند والحرمين والأفغان، ويتكون الأزهر حاليا من (7) هيئات.
وظلت جامعة الأزهر منشغلة بالبحث العلمي في علوم العربية والعلوم الإسلامية النظرية، في مقررات دراسية غاية في العمق والشمول، تتطلب من طالبها العناء والمشقة في تحصيلها، ليتحول إلى عالم أزهري راسخ في علمه حقا، وهذا ما كان يتسبب في عدم استكمال بعض طلاب العلم مشوارهم التعليمي، ويكتفون بقدر لابأس به من هذه العلوم.
وربما كانت دراسة هذه العلوم تحتاج فقط إلى تطوير أساليب التدريس، من ناحية وإدخال علوم مطلعة على نتاج الغرب الفلسفي قديمه وحديثه ومعاصره، وكان من المنتظر أن يسير الأمر باقتصار الأزهر على البحث العلمي في علوم اللغة العربية والعلوم الإسلامية لتبقي هذه الصبغة خاصة به وحده، إذ أنه متى كان ذلك محور اهتمامه العلمي فقد تخرج فيه علماء أفذاذ كبار أثروا المكتبة العربية والإسلامية بأوسع المراجع والكتب الرصينة، التي تمثل زادا لاينضب للأمة الإسلامية.
وظهر بين هؤلاء العلماء مفكرون عظماء شكلوا جزءا واسعا من وعي وثقافة المجتمعات الإسلامية، وارتبط هؤلاء العلماء- على اختلاف أقطارهم وتباعدها- بشبكة اتصال أخوي إسلامي وعلمي مثير، نذكر منهم الإمام محمد عبده، والشيخ عبد المتعال الصعيدي والشيخ حسين الذهبي والإمام محمد متولي الشعراوي، ومصطفى عبد الرازق.
ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ وماالذي تغير؟ إن ماجرى بصدور القانون 103 لعام 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر فعل جلل قد أحدث انقلابا في فلسفة تنظيم جامعة الأزهر وإدارته، ولا أتشكك في نية من أصدر هذا القانون، فمن المؤكد أنه قصد الصواب والمصلحة والمنفعة، ولكن هذا القانون وبعد مضي ما يزيد عن ستين عاما على تطبيقه، أثبت الواقع ما به من عوار نتج عنه نتائج سلبية تخصم من قيمة هذه الجامعة وأول سلبيات هذا القانون إلحاق كليات عملية بالأزهر كالطب والصيدلة والعلوم والزراعة، الأمر الذي نتج عنه حرص طلاب الأزهر النابهين والمتفوقين على ترك التقدم لكليات أصول الدين والشريعة واللغة العربية والمسارعة إلى كليات الطب والهندسة والصيدلة (كليات القمة كما يصفها البعض).
وبهذا لم يبق للكليات النظرية وبخاصة أصول الدين إلا الفئة الأخرى من الطلاب ذوي القدرات الأقل من نظرائهم في الكليات العملية، مماترتب عليه ومع مرور الوقت ان تقلصت المقررات الدراسية لهؤلاء الطلاب، لضمان عدم تسربهم، فتخرجت أجيال من المؤكد أدنى مستوى في العلوم الفقهية، ما مكن دعاة التطرف من عقول بعضهم.
وتشهد مساجدنا بعض الأئمة غير المؤهلين لهذه المهمة الخطيرة، وشهدنا في مجال الفتوى مهازل تنضح بالضعف العلمي واختفت ظاهرة العالم الأزهري المفكر صاحب الرؤية في التجديد كالغزالي وعمارة والشعراوي وغيرهم، لينفسح المجال امام دعاوى وغلواء العلمانية، بالإضافة إلى تقلص سنوات الدراسة في المرحلتين الإعدادية والثانوية أسوة بالتعليم غير الأزهري، فاختفت خصوصية التعليم الأزهري الذي يحتاج إلى سنوات دراسية أطول من التعليم المدني.
ومن هنا نقترح العودة إلى التعليم الأزهري بمقرراته القديمة وسنواته الأطول زمنا مع إلحاق بعض التعديلات في مقرراته بما يتناسب مع متطلبات العصر، وتحويل كلياته العملية إلي كليات للبحث في العلوم الإسلامية والعربية والدعوة، واستقبال طلاب بعثات العالم الإسلامي الراغبين في الدراسة بالكليات العملية فيتم تسكينهم بالكليات غير الأزهرية مع صياغة نظام خاص بهم بحيث يقضون عاما دراسيا أو عامين تمهيديين لدراسة العلوم الإسلامية واللغة العربية، وبهذا يتحقق لهم المراد، كي نضيف إلى كليات أصول الدين والشريعة واللغة العربية ثقلها القديم.
ولا ننسى أن فضيلة الإمام محمد متولي الشعراوي المفسر الجليل قد تخرج في كلية اللغة العربية وعمل معلما لمادة البلاغة بالمعاهد الأزهرية في بداية حياته العلمية، والسؤال هنا، ماذا لو التحق الشعراوي بهندسة الأزهر أو طبها (اللذين لم يكن لهما وجود في عصره) لكنا خسرنا عالما وإماما عظيما مثله.