مقالات

متى تكون الكتابة فرض عين ؟ (بقلم: محمد ناجي المنشاوي- مصر)

كلما تأملت في المشهد الثقافي العربي، أشعر بحالة من الأسى الغامر الذي يتحول إلى عقلي كمسامير مدببة حادة تقلق راحتي التي لا أكاد أظفر بها إلا نادرا ، فقضايا الأمة من التشابك والتعقيد ماجعلتها أشبه بغمامة قاتمة تخيم على سماء أمتي من الخليج إلى المحيط، فحجبت عقول أبناء الأمة عن الرؤية والكشف فتعثر السعي واتجه إلى التخبط والعشوائية والأنانية بل والشيفونية والنعرات الانقسامية التي يذكيها التلاسن والنفسنة وكأننا نمنا واستيقظنا على خريطة ممزقة ومشوهة للعقلية العربية.

ولا شك أن الصهيونية العالمية واذرعها الطويلة وراء كل هذا، ولكن أحدا لا يعبأ بمايقع، ولا أدري لماذا يتردد في نفسي كثيرا مقولة الحجاج بن يوسف الثقفي (إني لأرى رؤوسا أينعت وقد حان قطافها ).

ومع اقتطاف واختطاف مساحات من الأمة أرضا وعقولا ودما، فإن هذا لم يحمس الكثيرين من مثقفينا وكتابنا إلى استبدال أنماط الكتابة المُثَقِّفة والموجِّهة والمُحرِّضة على التغيير بثقافات القاعات الضيقة والندوات التي يتحقق فيها حوار الطرشان والعميان.

وتكون النتيجة لونا من الخيانة المسستترة لوطن يستحق منا كل العطاء والتضحية والبذل؛ كي يستطيع زحزحة تلك الصخرة العاتية، التي طالما جثمت فوق صدره وناءت بكلكلها حتى كتمت أنفاسه.

إننا نعيش في ظروف عجيبة نالت من توجهات معظم مثقفينا، فأصبحت توجهاتهم مسخا ممقوتا، يقدمون لأمتهم كلئاّ مسموما أو جرعات من مخدر اسطوري سرى في جسوم الأمة فهمدت ثم خمدت.

فلدينا مثقف السبوبة، وفنان السبوبة، ومفكر السبوبة، وعالم السبوبة، وأكاديمي السبوبة، وإعلامي السبوبة.. ألهذا الحد وصلت بنا الحال ؟!!

هل نملك رفاهية التجريب في الفن والشعر والكتابة الحداثية الملغومة بمصطلحات المادية الغربية التي تلوكها ألسنة دعاة الثقافة العربية؟وهل ذلك هو الدور المنتظر من أولئك الذين يمثلون ضمير الأمة ؟

لقد تُرِكت القصيدة تحت مقصلة مدعي الشعرية العربية النثرية، فما كان من جمهور الشعر إلا الانسحاب من ميادين قراءة هذا الكلام الممجوج، والذي يدعي لنفسه كذبا التجديد والتطوير وكأني بجماهير القراء لا يعرفون اسم شاعر واحد من هذه الجيوش الجرارة من كتبة هذا الكلام المزعوم شعرا.

وهذا ميدان من ميادين الثقافة العربية الأصيلة قد مضى وقضى نحبه وسٌدَّ بذلك طاقة واسعة من طاقة الإشراق النبيل فارتد جمهور القراء إلى اجترار أشعار شوقي وحافظ والجارم ومحمود حسن إسماعيل وأمل دنقل والأبنودي وسيد حجاب عوضا عن هذا الكلام الذي لا معنى له ومنبت عن تراثنا الشعري وتطوره الطبيعي.

وراح كل من يكتب هذا اللون من الكتابة، يقرأ ما يكتبه لأترابه ليس غير ، وتستطيع وبمنتهى السهولة أن تجد أطنانا من هذا اللون من الكتابة ولكنه لا يتجاوز حدود الغرف المغلقة على قلة من أدعياء الشعر.

وتستطيع أيضا أن تقيس عليه ما حدث في القصة والرواية، فلم نعد في زمن الشعر ولا في زمن الرواية، بل نحن في زمن البلاهة والغفلة.

لقد أصبحت الكتابة في قضايا الوطن واجبا لازما ولازبا وفرض عين على كل من يحمل قلما نبيلا يغرس لهذه الأمة غرسا تؤتي ثماره الطيبة في كل حين؛ إذ يجب على كتابنا التخندق في خنادق الجد لا الهزل والعقل لا العبث والصمود لا الخنوع والوضوح لا الغموض والتخطيط لا الفوضى والضمير اليقظ لا الغفلة.

ويتوجب على المثقف العربي أن يعيد حساباته بينه وبين ربه، قبل أن يقف يوم الحساب بين يدي مولاه خالي الوفاض، ليس في كتابه الذي يلقاه منشورا من أعماله إلا كلاما لا يغني ولا يسمن من جوع، فتمتلئ نفسه بالحسرات ويندم ويعض على يديه ندما، ولكن في وقت لن يفيد ذلك الندم صاحبه فقد جفت الأقلام ورفعت الصحف.

وعلى المثقف العربي أن يكون فاعلا في مضمار أمته لا «ببغاء» تردد- بلا وعي- ما تسمعه من صاحبها.. إننا نريد أن تختفي «ثقافة الببغاء».

نحن في عوز وحاجة إلى ثقافة واعية جادة ومغيرة، وأن يضطلع المثقف بدوره الحقيقي، كما خلقه الله، ويعي أن الكلمة مسؤولية عظيمة القدر والقيمة، وعليه أن يحفظ لنفسه كرامته فلا يتشبث بجلباب غيره طمعا في السبوبة، ولايستند إلى أفكار تتعارض مع مقومات النهوض بأمته العريقة بل عليه أن يكونا متجردا من كل هوى إلا هوى دينه وأمته ومستقبلها في خضم ولجج وتلاطم الزمان والأيام.

ولا عيب في أن يراجع المثقف أفكاره أو أن يغير قناعاته الملوثة والمشوشة، ويجب أن يتحلى بالشجاعة ويقظة الضمير، وأن يعترف بأخطائه الماضية، ليكون قدوة صالحة لأبناء أمته، ويعيش في ذاكرة التاريخ أمدا طويلا متى لم يحد عن جادة الطريق القويمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى