إذا سألت أي مواطن مصري عاقل واع في لحظتنا الحضارية الآنية والفارقة: أي ثورة نفتقر إليها الآن ؟فيجيبك على الفور: ثورة تغيير أخلاقنا التي تردت من علٍ، فبدون تغيير ملموس في أخلاقنا الاجتماعية سنظل نيمم وجهنا نحو مستقبل يلفه ظلام الشك والغموض والخوف والقلق.
الأخلاق الكريمة هي الطريق الوحيدة للنهوض، فبناء البشر قبل بناء الحجر، فتاريخ الظاهرة الحضارية يعلن عن ذلك في كل سطر من سطوره، ولاسيما المجتمعات الإسلامية، وبأي معيار أو على اي مقياس أو خط بياني تجد نفسك أمام معادلة تاريخية لا تخطئ أبدا.
فكلما ارتفع وسما أي مجتمع بأخلاقه الكريمة ارتفعت معه وسمت ظاهرته الحضارية، والعكس صحيح، وأقول (الظاهرة الحضارية بمعناها الواسع )، وليس جانبها المادي المعروف بحضارة الأشياء والأداتية، إذ أن الأخيرة تحمل بين طياتها جرثومة سقوطها الحتمي مهما طال أمدها في الزمان.
وهي سنة من السنن الربانية التي لامحيص عنها، فكم من أمم وحضارات طويت وغابت وصارت أثرا بعد عين بعد أن تآكلت إنسانيتها، وانحطت اخلاقها، ومهما قدم لنا منظرو المادية الغربية من أطروحات ضخمة تتجاهل هذه الحقيقة، تبقى مجرد أطروحات حائرة مشوشة فيها دخن، مهما لاكتها السن اولئك النفر من اساطين الفلسفة المادية الغربية أو من لف لفهم وسكر بأفكارهم من تابعيهم في بلاد المسلمين.
ولعلني أعني مجتمعنا المصري بالتغيير الأخلاقي بخاصة ، على اعتبار أن مصر دائما هي الحاضنة الأساسية لأي تغيير يمتد أثره إلى أشقائنا في البلدان العربية (وليس ذلك تفاخرا أو تيها) وإنما حقائق الجغرافية والتاريخ تفرض نفسها وكذلك الواقع، مهما أحيطت هذه الحقيقة برذاذ اولئك الذين يتعامون عن الحقائق، ويجتهدون -عبثا -في تشويهها.
وعلينا أن نفرق بدقة بين مفهومين يختلط الدراية بهما لدى البعض فيعتقد أنهما مفردتان مترادفتان، فيترتب على ذلك الخلط وعدم التمييز، ألا وهما مفهوما «التغير»، و«التغيير»، فالمفهوم الأول من الفعل (تغيَّر ) أما المفهوم الثاني من الفعل (غيٌَر).
إن التغير عملية داخلية «جوانية» والتي تظهر فيما يقع من المجتمع من سلوك مرئي وعادات وسعي هنا وهناك ويظهر هذا التغير في صورة أحداث متتابعة تنمو على مهل شديد وينبع من أفراد المجتمع بصورة عفوية تلقائية، ومن ثم يصعب رصده ومراقبته وتسجيله أولا بأول إلا في حالات نادرة.
وعندما يتم تراكم التغيرات وعند نقطة مكثفة يدرك أبناء المجتمع، وبخاصة الباحثون مداه وحجمه ويكون حينئذ تحقق له التوسع والانتشار والطغيان.
ولاشك أنه عملية انسياقية تختفي فيها إرادات الشعوب التي تتفاجأ في لحظة زمنية فارقة بأن تغيرات قد وقعت بالفعل ، ولم يعد هناك سبيل لإخفائها بعد أن تفاقمت.
ومن هنا فقط تنتبه الشعوب إلى حاجتها (للتغيير ) بعد تحليل وتفسير مظاهر التغير، فالدواء حينئذ هو التغيير والذي يوصف بأنه فعل إنساني خارجي واع ومقصود وإرادي تقوم به المجتمعات بعد دراستها لواقعها وفهمها وتحليلها وتفسيرها له بهدف وضع الاستراتيجيات الملائمة لإحداث تغيير إيجابي ترجوه لتصحيح سيرها نحو المستقبل المأمول.
وينهض بهذا الدور طلائع المجتمع، الذين يرصدون بدقة تلك التغيرات وتحديد وسائل وأدوات ومعايير التغيير، التي من شأنها إحداث التغيير الحقيقي نحو الأفضل، وتغيير الأخلاق إلى الأفضل أو إلى صورتها المثلى ليست بالأمر السهل وإن كانت ليست بالأمر المستحيل، وخاصة أن ميادين التغيير الأخلاقي يشمل طوائف وطبقات وشرائح عدة، لا يمكن تغييرها بين يوم وليلة أو بين عشية وضحاها.
إن تلك المهمة النبيلة ينبغي أن يتوفر عليها علماء المجتمع ومفكروه ومؤسساته المعنية، شريطة أن يتوفر لها الجهد العظيم الذي يليق بها، والذي يعطي الأمل في مستقبل مشرق للوطن ترنو إليه عيون المصريين الشرفاء في كل مكان.