المؤلف: محمد رمضان بشندي:
هدفت الدراسة إلى الإجابة عن سؤال رئيس هو: كيف يؤثر نمط العلاقة بين الحركة الاجتماعية والحزب السياسي المنبثق عنها على قدرة الأحزاب السياسية على المأسسة؟ وذلك في إطار المشكلة البحثية التي تمثلت في تفسير المآلات المختلفة لأحزاب الحركة، وتباين قدرتها على التطور المؤسسي، رغم تشابه البيئات المؤسسية التي نشطت في إطارها. وهنا ميزت الدراسة بين متغيرين، الأول هو المتغير المستقل وهو “علاقة الحركة الاجتماعية بالحزب السياسي الجديد المنبثق عنها”، والثاني هو المتغير التابع وهو “قدرة الحزب على المأسسة”، حيث تم الاستدلال على هذه المأسسة من خلال مؤشراتٍ ثلاثة هي: تمايز أحزاب الحركة الفكري والتنظيمي، التماسك الداخلي لأحزاب الحركة، وقدرة أحزاب الحركة على التكيف.
حاولت الدراسة الإجابة عن هذا السؤال من خلال أربعة فصول تضمنت تسعة مباحث.
ناقش الفصل الأول وهو بعنوان “التأصيل النظري لموضوع البحث”، مفهوم الحركة الاجتماعية، ومفهوم حزب الحركة الاجتماعية وسماته، وعوامل إنشاء الحركة لحزب سياسي، وكيفية تأثير الحركة على الحزب الذي أنشأته. وعالج الفصل الثاني وهو بعنوان “تأثير علاقة الحركة بالحزب على تمايز أحزاب الحركة”، الإطار الفكري للحركات والأحزاب محل الدراسة، ومراجعات تقييم الأداء الفكري والتنظيمي، ومدى قدرة أحزاب الحركة على خلق خطاب سياسي مستقل، ومدى تأثير الإطار الفكري للحركة وطريقة نشأة الحزب على خيارات الحزب التنظيمية، ودرجة استقلاليته التنظيمية. أما الفصل الثالث وهو بعنوان “تأثير علاقة الحركة بالحزب على التماسك الداخلي لأحزاب الحركة”، فتناول ممارسات الديمقراطية الداخلية داخل أحزاب الحركة عبر تحليل لوائحها الداخلية وتفاعلاتها خلال فترة الدراسة، فضلًا عن تحليل صراعاتها التنظيمية والأيديولوجية. وتناول الفصل الرابع وهو بعنوان “تأثير علاقة الحركة بالحزب على قدرة أحزاب الحركة على التكيف”، مدى قدرة أحزاب الحركة على التكيف مع مؤسسات الحكم، من خلال دراسة أهدافها وأدواتها في التعامل مع النظام، فضلًا عن قدرتها على التكيف مع هيئات المجتمع المدني، من خلال دراسة قدرتها على المساومة وإقامة التحالفات.
توصلت الدراسة لعدد من النتائج، تتمثل في النقاط التالية:
أولًا: التأصيل لمفهوم حزب الحركة:
أشارت الدراسة إلى وجود نمط من الأحزاب السياسية يمكن تسميته بأحزاب الحركة Movement Party، وبينت أنماطه المختلفة، ومنها نمط التنظيمات الثقافية/ الدينية التي انبثق عنها أحزاب للحركة، وهو النمط الذي انتمت إليه حالات الدراسة الثلاث.
هذا النمط من الأحزاب يتسم بسمة رئيسة وهي أنه ظهر نتيجة لخيار سياسي وتنظيمي لكيان أقدم، وهو هنا الحركة الاجتماعية التي انبثق عنه الحزب. وهذه السمة الفريدة التي نوه عنها ديفرجيه بمفهوم “الأحزاب غير المباشرة” تسببت في اتسام هذا النمط بصفات مميزة، نتيجة وقوعه بين الفضاء المفاهيمي لكل من الحركة الاجتماعية والحزب السياسي، فاتسم هذا النمط بسمات منها:
1. الإطار الفكري المتقلب، ولعل هذا نتيجة حداثة تجربة حزب الحركة، ووقوعه تحت تأثير الحركة الاجتماعية التي أنشأته، لاسيما أن الحركات الاجتماعية قد تمتلك مطالب أيدولوجية واسعة وغير مترابطة، أو تمتلك أجندة تتخطى الحدود المفترضة لنشاط أي حزب سياسي.
2. الخيارات التنظيمية الهجينة، فقد تفضل أحزاب الحركة الاحتفاظ بهياكل تنظيمية تجمع ما بين أنشطة الاحتجاج والنشاط السياسي. كما تتباين تلك الأحزاب في النماذج التنظيمية المتبعة، سواء فيما يخص تنظيم السلطة الداخلية بين هيئاتها، أو فيما يخص علاقة الحركة بالحزب الذي أنشأته، وذلك تبعًا لمدى تأثرها بالقيم التنظيمية داخل الحركة.
3. التأثر بإرث تنظيمي سابق على نشأة الحزب، يتمثل في الِبنَى التنظيمية للحركات الاجتماعية التي قد تسهم في توفير موارد تنظيمية مهمة، إلا أنها قد تتسبب في تضييق الخيارات التنظيمية للحزب.
4. تداخل العضوية بين الحركة الاجتماعية وأحزاب الحركة، والتي قد تعزز التنسيق التنظيمي، وتبادل الموارد، ولكنها قد تثقل الحزب بصراعات الفصائل الموجود بالحركة.
ثانيًا: تباين أنماط أحزاب الحركة لتباينها فكريًا وتنظيميًا:
رغم أن أحزاب الحركة محل الدراسة نبعت من حركة اجتماعية دينية تنتمي للإطار الفكري لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن التطور الفكري كان مختلفًا لتباين تعامل كل حركة مع سياقها المحلي، والفرص والقيود الهيكلية داخله، وهو ما أثر بدوره على خياراتها وقيمها التنظيمية بشكل كبير. ويمكن أن يُشار لهذا التباين على النحو التالي:
1. التباين الفكري:
اختلفت الحركات الثلاث في تطورها الفكري وهو ما أثر على قدرة أحزاب الحركة على تفسير الفرص والقيود الموجودة في البيئة المحيطة، وفسر هذا التباين جزءًا من اختلاف مآلات أحزاب الحركة.
تمثل هذا التباين الفكري في ثلاثة مقولات رئيسة، هي:
1. الرؤية للذات: رؤية الحركة أثرت في تفسير كثير من المتغيرات الهيكلية، وعززت خيارات سياسية بعينها لحزب الحركة. هذه الرؤية للذات يمكن أن تنقسم بدورها لمحددين رئيسين، هما:
▪ تمثيل المرجعية: إيمان حركة ما بكونها الممثل الشرعي الوحيد لأيديولوجية أو دين معين يجعل طبيعة علاقة حزب الحركة بالكيانات السياسية الأخرى تميل لفكرة الصراع العَقَدي لا الصراع السياسي. كما أن احتكار تمثيل المرجعية يدفع الحركة لرفض وجود أي كيان ينتمي لمرجعية شبيهة، وبالتالي تصبح علاقة حزب الحركة مع الآخر داخل ذات العائلة الأيديولوجية تميل لمفهوم الاستيعاب لا الشراكة. وهي الحالة التي تمثلها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة في مصر.
وعلى العكس، إيمان الحركة بعدم احتكارها تمثيل تلك الإيديولوجية أو الدين، واعترافها بتعددية الفاعلين، يجعل طبيعة علاقة حزب الحركة بالكيانات السياسية الأخرى تميل للتعاون والتشاركية، فإن كان من صراع فهو صراع سياسي، وليس صراعًا عَقَدِيًّا، وهو ما ينعكس على أدوات إدارة الصراع، وحدود التسويات اللاحقة. وهو ما ظهر في مسلك كل من حزب النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، كنتيجة للمراجعات الفكرية التي أجرتها كل من حركة النهضة وحركة التوحيد والإصلاح.
▪ بشرية المشروع ومصدر الشرعية: إيمان الحركة بإلهية مشروعها، أو تلبسه بطابع فوق بشري، قد يدفع حزب الحركة لعدم تطوير برامج محددة مفصلة، والميل للتمسك بالصور التطبيقية التاريخية وإهمال المقاصد منها، والإيمان بأزليتها، وهو ما يؤثر على قدرة الحزب على التفاعل الإيجابي مع مقتضيات الواقع، فضلًا عن رفض فكرة المراجعة، وتأليه القيم الذاتية، والدفع في اتجاه فرض قيم معينة تتعارض مع الإجماع الاجتماعي العام، لعدم ملاءمتها للواقع. وهي الحالة التي مثلها بوضوح حزب الحرية والعدالة في مصر.
في المقابل، فإن إيمان الحركة ببشرية المشروع يدفع حزب الحركة لمخاطبة مصالح الناس عبر برامج محددة مفصلة، بحيث يتم تجاوز الصور التطبيقية ومحاولة التأصيل لنظم تناسب الواقع. فضلًا عن إدراك حزب الحركة لمسئوليته عن نجاح أو فشل تجربته السياسية، طبقًا لقدرته على التعامل مع معطيات الواقع، والتأصيل لفكرة المراجعة لتجاوز الأخطاء الفكرية والتنظيمية. وهو ما حدث في كل من تونس والمغرب. فالنهضة والعدالة والتنمية كانا أكثر قدرة على التعامل مع الواقع المحيط مقارنة بتجربة حزب الحرية والعدالة في مصر.
2. رؤية الحركة للمجتمع وسبل تغييره: رؤية الحركة للمجتمع وأدوات تغييره وضعت قيودًا على إدراك حزب الحركة لكثير من المتغيرات الهيكلية، لأنها أثرت على إدراكه لطبيعة الصراع، والأدوات الأنجح للتعامل معه، وهو ما يضع على الحزب قيودًا في خياراته السياسية. ويمكن الإشارة إلى محددين متصلين بهذا الجانب، وهما:
▪ طبيعة الصراع: إيمان الحركة بأفكار انعزالية يؤطر طبيعة الصراع بينها وبين النظام، أو بينها وبين الآخر ليصبح ذا طبيعة عقائدية. نفي الصفة السياسية عن الصراع قد يضع حزب الحركة أمام خيارات قليلة في الواقع السياسي، فالصراع العقائدي ذو طابع صفري يقاوم المساومات والحلول الوسط. كما أن الانعزال عن الواقع، وتأطير العلاقة به في علاقة صراع أو استيعاب، يمنع إقامة جسور مع الآخر، وقد يؤثر على جاهزية الحزب حال توليه السلطة.
وهو ما ظهر في تجربة حزب الحرية والعدالة المصري، أثناء فترته في السلطة، وبعد إخراجه من السلطة.
وعلى النقيض، فإن إيمان الحركة بأن الصراع السياسي والاجتماعي يتحدد بناء على خيارات الفاعلين وليس عقائدهم، قد يفتح الباب أمام علاقة غير صفرية مع الآخر، تبدأ من القبول أو التحالف انتهاء بالرفض والصراع، ما يجعلها أكثر مرونة. وبالتالي، فإن هذا قد يزيد من فرص التفاعل الإيجابي لحزب الحركة مع الآخر، ويزيد من مرونته في التعاطي مع البيئات المتغيرة.
وهو ما ظهر في حالتي المغرب وتونس، حيث أظهر الحزبان مرونة كبيرة إزاء كثير من العوائق والإكراهات، مقارنة بحزب الحرية والعدالة المصري.
▪ نطاق التغيير وأدواته: إيمان الحركة بنموذج التغيير النخبوي العنيف، وافتراضها أن تغيير السلطة هو السبيل لتغيير المجتمع، عبر عصبة قليلة العدد يحدد نطاق فعل حزب الحركة، لأنها تحصر نطاق التغيير كونه يتعلق برأس السلطة بالأساس، لا يتطلب مشاركة مع الآخر بل استبعاده أو استيعابه، كما أن عدم استبعاد خيار العنف يؤثر على قبول الفاعلين السياسيين للحزب، ويضع عوائق مسبقة تمنع تفاعله مع مؤسسات النظام السياسي.
وهو ما ظهر في عجز حزب الحرية والعدالة عن إقامة الجسور مع القوى السياسية المختلفة، نتيجة عدم حسم جماعة الإخوان لموقفها من العنف السياسي، وقبولها به مع اشتراط القدرة على تنفيذه.
وعلى العكس من ذلك، فإن تبني الحركة لنموذج التغيير السلمي التشاركي والتغيير الاجتماعي المتدرج، وإيمانها أن تغيير السلطة ليس وسيلة التغيير الوحيدة، وإنما هي جزء من التغيير المجتمعي بمفهومه الشامل، الذي يحتاج لعملية تدرجية طويلة الأجل، يدفع حزب الحركة لالتماس مشاركة الآخر وليس استبعاده، إيمانًا منه بالتدافع الحضاري السلمي، وهو الأمر الذي يسهل قبول الفاعلين السياسيين له، فضلًا عن الإسهام في بناء الثقة مع مؤسسات النظام، وهو ما ظهر في حالتي المغرب وتونس في مواقف مفصلية عدة.
3. رؤية الحركة لطبيعة النظام السياسي المنشود: يؤثر هذا الجانب على مطالبات حزب الحركة، وحدود مساوماته الأيديولوجية، واستبعاده لعدد من الفاعلين أو استيعابهم، ومدى منطقية طرحه السياسي. وهناك محددان رئيسان يتصلان بهذا الجانب، هما:
▪ اعتبار الواقع ونبذ الصور التطبيقية التاريخية: اعتبار الحركة للواقع، واحترامها للكسب الإنساني المتغير يزيد من قدرة حزب الحركة على الانخراط في الواقع السياسي. فعلى سبيل المثال، إيمان جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة بنموذج الدولة الدينية، التي “تدستر” دور الدولة كضامن للمعايير الثقافية والدينية المحافظة، والميل لنموذج الحكم الفردي، والانتقاص من حقوق المواطنة للمرأة والأقليات، قلل من قدرة الحزب على التفاعل الإيجابي مع مكونات مجتمعية مؤثرة، ووصم مشروعه بالطوباوية، ودفع باتجاه دولة تدخلية تنتهك الحريات، وهو ما أثر سلبًا على قدرته على إجراء تفاهمات وتحالفات مع الفاعلين السياسيين، وعمق من شكوك مؤسسات النظام القائمة تجاه الحزب، نظرًا لرغبته في تغيير أسس النظام كلية.
بينما إيمان الحركة بالطبيعة المدنية للدولة، ونبذ مفهوم الدولة الدينية، واعتبار مفاهيم مثل الخلافة صورة تطبيقية تاريخية، واعتبار وظيفة الحاكم سياسية في إطار مؤسسي، ييسر لحزب الحركة كثير من التفاهمات مع الفاعلين السياسيين، ويسهم في إجراءات بناء الثقة معهم. وهو ما تجلى في حالتي النهضة والعدالة والتنمية.
▪ التعددية السياسية: عدم احترام الحركة للتعددية السياسية قد يضع حوافز أقل لحزب الحركة لاستيعاب الآخر، ويزيد من انعدام الثقة بينه وبين الفاعلين السياسيين، وقد يضعه في عزلة، بغض النظر عن شرعيته الانتخابية. كما أن إيمان الحركة بالديمقراطية الإجرائية، والانتقاص من مضمونها، قد يقلل من جاذبية الحزب، ويزيد من عدم الثقة بينه وبين الفاعلين السياسيين الآخرين. وهو ما تظهره تفاعلات حزب الحرية والعدالة مع الفاعلين السياسيين أثناء وقبل وبعد أحداث يناير 2011.
بينما قبول الحركة الإجرائي بالديمقراطية، وإغنائها بالقيم الذاتية، وغلبة منطق التسويات بدلًا من المواقف الأيديولوجية الجامدة، يتيح المزيد من الفرص السياسية لحزب الحركة، وقد يقلل من التهديدات المتصورة والفعلية. فبالرغم من وجود حوافز إقليمية ومحلية معاكسة لحزبَيْ النهضة والعدالة والتنمية في 2013 مثلًا، إلا أن مرونتهما وغلبة منطق التسوية على الصراع أبقى الحزبين جزءًا من المعادلة السياسية، بعكس جماعة الإخوان وحزب الحرية في مصر.
وتبين أنه كلما تم إنتاج شبكات المعاني ومراجعتها في حقب زمنية متتالية كلما كانت قدرة الحركة الفكرية أكثر اعتبارًا للواقع، وملائمة له، بينما كلما كان الإنتاج الفكري رهنًا بفرد أو حقبة زمنية موغلة في القدم، قلت قدرة الحركة على إنتاج معانٍ ملائمة للواقع. وكلما كان الإطار الفكري للحركة بعيدًا عن الواقع كلما قلت قدرة حزب الحركة على المأسسة. ومرد ذلك أنه لا يتم تفسير العوامل الهيكلية، وتصنيفها في خانة الفرص أو خانة التهديدات بمعزل عن شبكة المعاني المهيمنة داخل الحركة وحزبها.
2. تباين النموذج التنظيمي:
قد ترث أحزاب الحركة من الحركة الاجتماعية كثيرًا من سماتها التنظيمية، وقد تنتقل إليها – لاسيما في بدايات تشكل الحزب – ذات الشبكات الموجودة داخل الحركة.
تباينت أحزاب الحركة فيما يخص نوعية الشبكات التنظيمية الداخلية المسيطرة وتوجهاتها، وطبيعة تنظيمها الحزبي، وحدود علاقته مع الحركة التي أنشأت الحزب. ويمكن أن يُشار هنا لمحددين رئيسين يتصلان بهذا الجانب:
1. الشبكات التنظيمية المسيطرة: كلما زادت قدرة الحزب على التوافق مع بيئته، من خلال عدم تحديه للإجماع الاجتماعي أو الثقافي العام، كلما زادت قدرته على المأسسة، وهذا يتأثر بسمات الشبكات التنظيمية الفاعلة داخل حزب الحركة. والتوافق لا يعني تغييب قيم الحركة أو الحزب، وإنما في توقيت وكيفية ووتيرة إنزالها للواقع، وإنباتها تدريجيًا بحيث تصبح جزءًا من الإجماع العام.
كلما كانت هذه الشبكات المسيطرة أكثر قدرة على التعامل مع الواقع السياسي، بتقديم البرجماتية أحيانًا على الاعتبارات الذاتية الجامدة، كلما كانت فرص حزب الحركة في المأسسة أكبر، وهو ما يظهر في حالتي المغرب وتونس. وكلما كانت هذه الشبكات محافظة وتنزع إلى تغييب الحلول الوسط في اتجاه المناداة بمواقف لا مساومة فيها، كلما كانت قدرة الحزب على المأسسة أقل، لانخفاض قدرته على التعامل مع مخاوف ورغبات الفاعلين السياسيين الآخرين، وهو ما يظهر في حالة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة في مصر.
2. طبيعة التنظيم الحزبي: قد تقل قدرة حزب الحركة على المأسسة حال اتبعت الحركة أثناء إنشائها للحزب نموذج التنظيم الشامل، الذي يجمع ما بين الأنشطة الاحتجاجية والاجتماعية والسياسية، ووحدة المرجعية والمواقف والبرامج، وهو ما قد يقلل من قدرة الحزب على تبني موقف مستقل عن الحركة، بسبب تبعيته لقاعدة موارد الحركة، وتداخل قيادات الحركة والحزب، وتدخل الحركة في اختيار قيادات الحزب. وهو ما ظهر في حالة حزب الحرية والعدالة أثناء تفاعله مع جماعة الإخوان، التي سيطرت على حزبها كليًا.
بينما قد تزيد قدرة الحزب على المأسسة جراء زيادة مرونته في التعامل مع بيئته حال اتباع الحركة في إنشائها للحزب نموذج التباين الوظيفي، الذي يسمح بوحدة المرجعية واختلاف المواقف والبرامج. وبالتالي، توجد مساحة للاختلاف بين الحركة والحزب، نظرًا لاستقلالية الكيانات التنظيمية الحزبية والبرلمانية تدريجيًا عن الحركة في التفاعلات السياسية اليومية، علاوة على حيازة الحزب لموارد مادية وبشرية مستقلة، وعدم تداخل القيادات بين الحزب والحركة. وهو ما ظهر في حالة حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية في المغرب، بينما اتبعت النهضة خيار دمج الحركة داخل الحزب.
3. تباين القيم التنظيمية الداخلية:
قدرة حزب الحركة على التماسك قد تكون رهنًا بقدرته على استيعاب أعضائه داخليًا من خلال بِنَى تنظيمية تناسب الأعضاء الأكثر جدارة. فكلما كانت طبيعة تفاعلات حزب الحركة الداخلية يغلب عليها التوفيق والإجماع عبر مناقشات تُمثل فيها مختلف أبنيته الحزبية، وكلما كانت معايير الترقي التنظيمي معلنة عبر إجراءات دورية منتظمة محددة بشكل رسمي، كلما قلت حدة الصراعات التنظيمية، وازداد التماسك الداخلي، وازدادت قدرة حزب الحركة على الحفاظ على موارده الداخلية من التشتت والانقسام، وازدادت قدرته على المأسسة. وهو ما ظهر في قدرة حزب النهضة وحزب العدالة على استيعاب أعضائهما في كثير من المواقف الجدلية.
والعكس قد يكون صحيحًا. فكلما كانت بِنَى التنظيم أكثر مركزية ونخبوية كلما كان حزب الحركة أكثر انغلاقًا، ولسادت فيه المعايير غير الرسمية غير المعلنة التي تؤثر على معايير الترقي التنظيمي، وهو ما قد يؤثر سلبًا على قدرة حزب الحركة على استيعاب أعضائه، وازدياد فرص انقسامه وتشتت موارده، وهو ما تجلى في حالة جماعة الإخوان المسلمين بعد أحداث يناير، حيث عجزت عن استيعاب فصيل مهم بداخلها.
ويمكن الإشارة هنا لمحددين رئيسين يتصلان بهذا الجانب، على النحو التالي:
1- نمط العلاقات الداخلية: كلما تماهى الحزب مع قيم الحركة التنظيمية التي تثمن عدم وجود تداول قيادي، وتضخم دور وحجم القيادة، وتثمن تركيز السلطة، وعدم تفويضها للمستويات الأدنى، وسيطرة الجناح التنفيذي على الهيئة التشريعية، وعدم وجود هيئات تقاضٍ داخلي، واتباع نظم العضوية الحصرية التراتبية، وعدم تمثيل الشباب والمرأة، فضلًا عن وجود تنظيمات سرية، كلما قلت قدرة الحزب على استيعاب أعضائه، وزادت معدلات الاغتراب الداخلي، فضلًا عن تضاؤل قدرة الحزب على استيعاب وتمثيل شرائح اجتماعية إضافية، وهي العوامل التي تقلل من قدرة الحزب على التماسك.
وعلى النقيض، كلما تماهى الحزب مع قيم الحركة التنظيمية التي تثمن التداول القيادي، والتوازن في عملية صنع القرار بين الهيئات الحزبية المختلفة، وتعزيز دور هيئات التشريع مقابل الهيئات التنفيذية، وتمكين هيئات تقاضٍ داخلي، واتباع نظم العضوية المباشرة، وتمثيل الشباب والمرأة، وعدم وجود تنظيمات سرية، كلما زادت قدرة الحزب على استيعاب وتمثيل شرائح اجتماعية إضافية، فضلًا عن استيعاب أعضائه، وزيادة معدلات المشاركة، التي تزيد من قدرة الحزب على التماسك.
2- نمط إدارة الصراع: كلما تماهى حزب الحركة مع إيثار الحركة لتأجيل حسم الصراعات الداخلية، ورفض المراجعات الفكرية والتنظيمية، وتفضيل القيم التنظيمية غير الرسمية وغير المكتوبة، رغبة منها في عدم إثارة القلاقل الداخلية، كلما قلت قدرة حزب الحركة على حل الصراعات، وقلت قدرته على المأسسة لسببين: أولهما هو عدم تجانس عضويته الداخلية، والثاني هو عدم قدرة الحزب على حل هذه الصراعات حال تغير وضعه السياسي، ففي أوقات حيازته للسلطة مثلًا، وفي ظل إكراهات سياقية مختلفة، لن يستطيع الحزب خوض هذه المراجعات.
وعلى النقيض، فإن الحسم المبكر في إدارة الصراعات الداخلية عبر المراجعات الفكرية والتنظيمية، وتنظيم عمليات فض النزاع مؤسسيًا، يزيد من قدرة الحزب على التماسك والمأسسة.
ثالثًا: تباين قدرة أحزاب الحركة على بناء التحالفات:
كلما ازدادت قدرة حزب الحركة على تقليل وتيرة الصراعات مع مؤسسات النظام، والفاعلين غير المنتخبين فيه، والفاعلين السياسيين، ودفعها في اتجاه التوافق لا الصراع الصفري، كلما ازدادت قدرته على المأسسة.
ويمكن الإشارة لمحددين رئيسين يتصلان بهذا الجانب، وهما:
1. الهدف من التسوية مع النظام: الهدف من التسوية مع النظام قد يؤثر على القدرة على المأسسة. فكلما مالت الحركة لنموذج التسوية طويلة الأجل، بهدف دمج الحركة في النظام السياسي القائم، وتعديل بعض سماته تدريجيًا من الداخل، والاعتراف بشرعية النظام، وعدم الرغبة في إحلاله بنظام جديد كليًا، كلما ازدادت قدرة حزب الحركة على التفاعل مع مؤسسات النظام، وقلت وتيرة الصراعات الوجودية معها، وكلما ازدادت قدرته على المأسسة، وهو ما يظهر في حالتي تونس والمغرب.
وعلى العكس، كلما فضلت الحركة نموذج التسويات التكتيكية قصيرة الأجل، بهدف إسقاط النظام السياسي وبناء نموذج سياسي جديد كليًا، انطلاقًا من عدم الاعتراف بشرعية النظام، كلما ارتفعت وتيرة الشكوك المتبادلة، وازدادت الصراعات الوجودية بين النظام وبين حزب الحركة، وقلت قدرة الأخير على التفاعل مع مؤسسات النظام، وتأثرت سلبًا قدرته على المأسسة، كحالة جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة في مصر.
2. أدوات التسوية: إذا مالت الحركة لعدم استبعاد العنف كوسيلة للتغيير، نتيجة قيادتها بواسطة شبكات داخلية ترفض المساومة والتحالفات، تميل لاستخدام القوة التنظيمية الذاتية بشكل عنيف، أو تحتفظ بفصيل مسلح يستخدم ضد الخصوم السياسيين، كلما قلت قدرة حزب الحركة على المأسسة. ومرد ذلك إلى أن عدم استبعاد العنف كوسيلة تغييرية ينزع عن الحزب صفته السياسية، ويقربه من التنظيمات المسلحة، ويجعل أدوات التعامل معه غير سياسية، وتميل للتحييد والاستبعاد انتهاءً بالقمع، وهو ما ظهر في حالة الإخوان المسلمين بعد 30 يونيو 2013.
بينما إذا مالت الحركة لاستبعاد العنف مبدئيًا، وتأثرت بشبكات داخلية تنزع للمساومة والالتزام بالتحالفات المبدئية، وتدفع باتجاه تسوية طويلة الأجل مع النظام لاكتساب الشرعية القانونية، كلما ازدادت قدرة حزب الحركة على المأسسة، وهو ما ظهر في حالتي المغرب وتونس.
كما قد تزداد قدرة الحزب على المأسسة كلما استطاع إقامة تحالفات مبدئية مع الفاعلين السياسيين، بينما رفض التفاهمات المبدئية، والاستعلاء بمعيار القوة الانتخابية، مع تفضيل التفاهمات التكتيكية المؤقتة أو الترتيبات التعاونية العرضية يقلل من قدرته على المأسسة، لأن مصداقيته كفاعل سياسي قد تقل.
رابعًا: العوامل المفسرة لمآلات أحزاب الحركة:
لتفسير كيفية تأثير العلاقة بين الحركة الاجتماعية والحزب السياسي المنبثق عنها على قدرة الأحزاب السياسية على المأسسة، تقترح الدراسة مجموعة من العوامل التي قد تسهم في تفسير كيفية إدراك حزب الحركة للمدخلات الهيكلية، اعتمادًا على مقولة رئيسة، وهي أن تطور الحزب الأيديولوجي والتنظيمي رهن بقدرة الحركة المبكرة على الاعتدال، وقدرتها على التطور التنظيمي، وأن التطور الأيديولوجي والتنظيمي لحزب الحركة هو مجرد استكمال لصيرورة تاريخية سابقة، حتى وإن زادت استقلالية حزب الحركة عن الحركة في المستقبل، فإن هذا التطور هو فعل مؤسس له تاريخيًا بشكل مسبق.
وبناءً عليه، تفترض الدراسة أن القدرة على المأسسة رهن بعدة محددات تعمل بشكل متزامن، تتمثل في:
1. شبكات المعاني المهيمنة: أي الإطار الفكري للحركة والذي ينتقل إلى حزبها بشكل طبيعي لاسيما في المراحل الأولى لنشاط الحزب، ومدى اعتراف هذا الإطار بتباين الإطار السياسي والاجتماعي لكل من الحركة والحزب، ومدى تسامحه مع تمايز الحزب الفكري عن أُطُر الحركة، التي تخاطب بطبيعتها جمهورًا مختلفًا بأدوات مختلفة عن أدوات الحزب.
2. النموذج التنظيمي المتبع والقيم التنظيمية المهيمنة داخل الحركة والتي تنتقل إلى حزب الحركة، ومدى تسامح الحركة مع فكرة الفصل الوظيفي أو التخصص الوظيفي، بحيث تنتقل علاقتها مع الحزب من الاحتضان الكامل إلى التمايز الوظيفي، الذي يسمح بقدر من الاختلاف والاستقلالية في إدارة الشأن الحزبي.
3. أدوات وأهداف التسوية مع الآخر، ومدى تسامح الحركة مع نبذ العنف السياسي، ومدى تفضيلها لنموذج التسوية طويلة الأجل سواء مع النظام السياسي أو الفاعلين داخله، فكلما أتاحت لحزب الحركة مرونة أكبر في التعامل مع النظام وفاعليه، كلما ازدادت قدرته على المأسسة وعلى جذب شرائح اجتماعية مختلفة.
وبناءً على ما سبق، يتبين أن المتغيرات الذاتية داخل الحركة قد تفسر التباين في مآلات أحزاب الحركة، لأن وجود المتغيرات الهيكلية في حد ذاته يحتاج نوعًا من الإدراك أو التفسير من قبل الحركة لوجوده، فذات المتغيرات الهيكلية يمكنها أن تُفسر بشكل مختلف من قبل أكثر من حركة اجتماعية، وما قد يعتبر فرصة سياسية للبعض، قد يعتبر تهديدًا في منظور البعض الآخر.
وبالتالي، فإن شبكة الأفكار المشكلة للإطار الأيديولوجي لحزب الحركة، وطبيعة الشبكات المسيطرة على الإنتاج الرمزي داخل الحزب، والثقافة التنظيمية له، وشبكات الولاء النشطة بداخله، قد تعطي تفسيرات مفيدة في هذا الإطار.
وقد أثبتت الدراسة أن نمط العلاقة بين الحركة الاجتماعية والحزب السياسي المنبثق عنها قد يؤثر على الإنتاج الرمزي والطابع التنظيمي لأحزاب الحركة، وقد يضع حدودًا أو يتيح محفزات على المأسسة.
وبهذا تكون الدراسة قد أثبتت صحة الفروض التالية:
1. ثبتت صحة الفرض القائل أنه كلما زادت استقلالية حزب الحركة فكريًا وتنظيميًا عن أطر الحركة الفكرية والتنظيمية كلما زادت فرص مأسسته. فالأحزاب التي أسست لدرجة من الاستقلالية الفكرية والتنظيمية بمعزل عن الإطار الفكري للحركة الاجتماعية، والتراث التنظيمي السائد فيها، كانوا أكثر قدرة على المأسسة من تلك الأحزاب التي استنسخت الإطار الفكري والتنظيمي للحركة. ولعل مرد ذلك إلى أن السياقات التي تعمل فيها الأحزاب، وتقلدها للسلطة السياسية، يحتاجان لأطر فكرية أكثر مرونة، وأطر تنظيمية أكثر شمولًا وبعدًا عن الانغلاق.
2. كما ثبتت صحة الفرضية الثانية، فكلما ازداد التماسك الداخلي لحزب الحركة نتيجة ترسخ الديمقراطية الداخلية، وازدياد قدرته على احتواء الصراعات مؤسسيًا، كلما زادت فرص مأسسته.
فالأحزاب التي ترسخ القيم التشاركية في إدارة الشأن الحزبي، وتضمن التداول القيادي، وتمكين البِنَى التنظيمية الأدنى، لديها قدرة أكبر على النمو، وعلى جذب فئات أوسع لقاعدة عضويتها، وتصبح أكثر قدرة على إنتاج رمزي يمثل الحيوية الداخلية للتنظيم ومطالبه، كما أن الطابع التشاركي يزيد من جاذبية الحزب أمام الناخبين.
بينما الأحزاب التي يسود فيها قيم العمل السري ومركزية اتخاذ القرار، ويقل فيها التداول القيادي، تفقد كثيرًا من حيويتها وقدرتها على الإنتاج الرمزي والتطور التنظيمي، وتقل مرونتها في التعامل مع إكراهات الواقع السياسي، لإصرارها على تطبيق ذات الأطر الفكرية والتنظيمية للحركة على واقع سياسي مختلف يدفع باتجاه المزيد من المرونة، فتقل قدرتها على المأسسة.
علاوة على ذلك، فإن الطابع التشاركي يقلل من الصراعات الداخلية، ويجعل التعامل معها أسهل عبر وجود قنوات مؤسسية داخلية لحسم النزاعات، مما يقلل من حجم الانشقاقات التي قد تحدث. وعلى العكس، فإن غياب الديمقراطية الداخلية يزيد من الانشقاقات لاسيما في أوقات التغير السياسي، ووجود بدائل تنظيمية للحركة وحزبها.
3. كذلك ثبتت صحة الفرض الثالث، فكلما ازدادت قدرة حزب الحركة على التكيف مع مؤسسات النظام، ومع هيئات المجتمع المدني، كلما زادت قدرته على المأسسة.
قدرة حزب الحركة على التكيف مع مؤسسات النظام، لاسيما مؤسسات النظام غير المنتخبة لها تأثير على قدرته على المأسسة. حيث لا يملك حزب الحركة وسيلة للتغلب على إكراهات النظام السياسي سوى بالتكيف، ومحاولة الاستيعاب على الأجل الطويل، فالحزب لا يملك التأثير المباشر على مؤسسات النظام غير المنتخبة عبر الانتخابات أو التعبئة المستمرة.
كما أن قدرة الحزب على استيعاب مخاوف منظمات المجتمع المدني، ومحاولة التحالف معها أو تحييدها، أو الاستفادة منها كوسيط أو شريك ائتلافي، له تأثير على قدرة الحزب على المأسسة. فهذه القوى قد يستطيع الحزب هزيمتها انتخابيًا، ولكنه لا يستطيع تجاهل مطالباتها كلية، لاسيما أنه قد يعجز عن إيقاف تحالفات تلك القوى مع المؤسسات غير المنتخبة.
إجمالًا، لا تعد مهمة أحزاب الحركة الاجتماعية في المأسسة رهنًا فقط بالمتغيرات الهيكلية التي تخص النظام السياسي. فهناك أحزاب لم تتأثر بالإقصاء السياسي، وقامت بوازع ذاتي بتحولات أيديولوجية وتنظيمية في اتجاه مزيد من المأسسة. وعلى الجانب الآخر، هناك أحزاب استطاعت ممارسة النشاط السياسي داخل النظام السياسي في ظل قدر أكبر من التسامح، ولكنها احتفظت بأدبيات تحرض على العنف، وتبنت أنماطًا تنظيمية مغلقة وغير ديمقراطية. وبالتالي ربما تسمح دراسة المحددات الداخلية لأحزاب الحركة بتفسير أكثر دقة لعمليات التحول التنظيمي والأيديولوجي للحركة وأحزاب الحركة.