ما بين نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي وفي عقده الأول تحديدا، من ينظر في الواقع العملى لما آل إليه الاقتصاد المصرى؛ يستنتج عدة دلالات مهمة مآلها أن الاقتصاد المصري كان مقيدا بأغلال الاستعمار الأجنبي، سواء كان عثمانيا أو إمبرياليا عالميا، وهذا الأمر كانت ملامحه واضحة منذ ما يقرب من مائتي عام على أقل تقدير.
ومع التطور الحضاري فى أوروبا أصبحنا مستهلكين لتكنولوجيا من صناعة الغرب، وتم وأد أى فكرة للإنتاج أو التصنيع في كنانتنا الغالية.
قس على ذلك فى كل المجالات اللهم إلا بعض المحاولات الحثيثة الفردية، التي كان مآلها عدم الاستمرار بسبب أدوات الغرب واهتمام علمائهم ببحوث التطوير، التى جعلتهم يسبقون مستهلكي هذه التكنولوجيا بمئات السنين، وجعلت من أثرياء هذه الشعوب مناديب ساميين لهذا الاحتلال أو وكلاء له ولمنتجاته، فهم سيطروا على مقدرات الإنتاج من منابعها فى أفريقيا والهند وبلاد الخليج العربى وأمريكا اللاتينية.
وهكذا نجد صناعات بعينها قد سيطر عليها الغرب مثل: صناعة الشاي والعصائر والكاكاو والمنظفات، وصناعات التغليف والتعبئة وإلخ.
واتبع الغرب سياسته الاستعمارية الاقتصادية في السيطرة على مقدرات إنتاجها، وجعل من هذه الشعوب مستهلكه لتكنولوجيا جديدة، على الرغم من امتلاكها خامات هذه الصناعات فهم شريك ضالع فى هذه العملية الإنتاجية، بما حباهم الله من خامات وأدوات إنتاج في أراضيهم والأيدي العاملة المتوفرة لهذه المصانع من هذه البلاد.
حيث يعتمد الغرب على تشغيل أبناء هذه الدول في مراحل الإنتاج اليدوية فقط دونما البحثية أو الإنتاجية الدقيقة، ويحظر ذلك إلا على خبراء أجانب حتى لا تُنقل هذه التكنولوجيا إلى هذه الدول، ناهيك عن شراء الأبحاث الفردية لباحثي هذه الدول حتى ولو كان هذا الباحث غير راغب فى السفر إلى الغرب، فاللغرب أدواته فى السيطرة على هذا الباحث وأخذ ما فى يده بأدوات معطلة فى دولته، من عرقلة تسجيل أبحاثه وتعطيله قدر الإمكان حتى يستسلم أو يقف موقف الحائر، إما أن تُنشر أبحاثه فى الخارج أو أن تظل حبيسة الأدراج فى خزائن وزارة البحث العلمى فى هذه الدول، ونجد أمثلة لتصفية علماء بعينهم عن طريق الحرق أو التفجير لتقيد ضد مجهول.
ونجد بعد هذا الطرح كم كان الغرب مُضللا لراغبي الاستثمار فى هذه الدول للمعادلة الفاشلة التى قالوها، إذا كان معى رأس مال يقدر بعشرة دولارات وجهتُ منها ثمانية للتسويق والإعلان ووجهت اثنين للإنتاج.. هذه معادلة تضليلية لا يعملون بها فهم يوجهون الثمانين فى المائة للبحوث والتطوير، وبعد ذلك يكتبون سيناريو الإنتاج على مدار أربعين سنة قادمة.
من امتلك التكنولوجيا ملك مقدرات العالم شرقا وغربا، فهذه المقولة دس للسم في العسل، وحصر أبناء هذه الشعوب في ثقافة الاستهلاك، وعزل باحثيهم عن أصحاب رؤوس الأموال الذين يبحثون عن عمولات التوكيلات، والمكسب السهل من السمسرة وغيرها من تصقيع الأرض، بعيدا عن ثقافة الإنتاج التى أصبحت سرابا بالنسبة لهم.
ولنأخذ الاقتصاد المصري وما آل إليه في المرحلة الأخيرة مما ذكرناه سالفا، سنجد كم كان عينة بحث جيدة لما قدمناه، وكيف فرَغ الغرب هذا الاقتصاد من مضمونه.. فلقد تخبط هذا الاقتصاد على مدار عشرات السنين، من بداية الثورة الصناعية فى أوروبا ومحاولة السيطرة على هذه الدولة بشتى الطرق ومحاولة بعض أبناء مصر بناء اقتصاد زراعي في عهد محمد على أو زراعي صناعي مثل مشروع طلعت حرب وعبد الناصر، ولكن للأسف لم يكتمل هذا الحلم بأدوات الغرب، وليس حديثنا اليوم شرح أمثلة لهذه المحاولات السابقة.
فلقد عانت مصر وعلى مدار تلك الفترات، من غياب المشروع الجماعي لبناء حضارة على ضفتي النيل الخالد، الذى كان مهد كل الحضارات السابقة إلى أن آل بنا الحال في العصر الحديث أن يشغلوا عقولنا ببعض المصطلحات الخداعة، أمثلة الانفتاح والاستيراد وأرخص من الإنتاج.
لقد صارت الأمثلة الشعبية أكثر تعبيرا عن واقعنا (شراء العبد ولا تربيته)، ومن يدافع عن الإنتاج يجد نفسه فى عاصفة اتهامات وتصنيف أنه رجعي شمولي، لأن الفترة تلك من يتحدث بالإنتاج حديثه حديث الغرباء، فنحن نتجه أن نعيش حالة من المعونات الاقتصادية الأمريكية وعلى لسان حال السلطة فى ذلك الوقت هناكل فى معالق دهب !!
وصار هذا المجتمع بين مشروعين من ذيول الاقتصاد العثمانى واقتصاد الإمبريالية العالمية والشركات المالتي ناشيونال متعددة الجنسيات، وطريقة عملها فى دول العالم الثالث كما أسلفنا ذكره ما جعل هذا الاقتصاد بين شقي رحى يهرب من هذا إلى ذاك، وكان ذلك واضحا من الفترة من 1992 ودخول شركات متعددة الجنسيات مصر في إحدى الحكومات غير الرشيدة، واضطرارها لإدخال استثمارات أجنبية تحت ضغط عدم وجود دولار بالبلد، وهو لا يعلم كم كان هذا وبالا على شركات الدولة وضياع شركات القطاع العام، وليس علاج الفساد في الشركات العامة هو هدمه أو تحطيمها بدخول شركات متعددة الجنسيات، وسيطرة هذه الإمبريالية العالمية على القرار الاقتصادي لتصبح الدولة في عجز من الاعتمادية الذاتية على نفسها.
وما نبع عن ذلك من بيع حصص الدولة فى القطاع العام الى حفنة من طبقة قد صنعتها هذه الحقبة من الانفتاح المزعوم، ليكونوا أيضا تحت سيطرة هذه الشركات الامبريالية العالمية إما موردين أو مستخدمين لها فى إحدى مراحل الانتاج.
ومرت الأيام من بيع وخصخصة لاموال الشعب حتى جاء العام 2005 وبدأت الاستثمارات التركية تهب رياحها الأوروبية الشتوية، لتمتلك مناطق صناعية داخل هذا الوطن الغالى وتمتلك صناعات بعينها لتصنع مشهد عبثىَ، بأن البديل لسيطرة الخواجه الأوربي الغربي على الاقتصاد هو التركي الأوروبى الشرقى، وعلى هذا الحال يصير الاقتصاد المصرى فى صناعات ملوثة للبيئة أمثلة السيراميك والأسمنت، وغيرها من الصناعات التى طُردت من أوروبا ليكون جنوب المتوسط هو الموطن الرئيس لهذه الصناعات المدمرة لصحة المواطنين.
وقد نظل على هذا الحال طالما لم تولد إرادة حقيقية لبناء اقتصاد يعتمد على مقدراته، بعيدا عن هذا المشهد العبثي الذى ظللنا فى غياهبه على مدار عشرات السنين، وكنا في متاهة ندور في فلك واحد كالذي يدور في دوائر مغلقة لا نحيد عنها أبدا، قد حيكت لنا كالذي يدور فى رحى، ومن وقع تحت الرحى طحنته طحنا كما يطحن الدقيق.
زر الذهاب إلى الأعلى