فنون

الشاعر السوداني عبد القادر الكتيابي: خلوة القرآن وإيقاعات الأناشيد الصوفية شكلت وعيي

عبد القادر الكتيابى أديب وشاعر سودانى له العديد من الاعمال الأدبية، و يعتبر الكتيابى  من معالم المشهد الشعري المعاصر، حيث تغنى له عمالقة الغناء السودانى وتغنى له الموسيقار يوسف الموصلى، له العديد من دواوين الفصحى “رقصة الهياج” “هى عصاى”و”قامة الشفق” وديوان بالعامية “أغنيات على سفر”.

 

أجرت الحوار : أمنية السيد حجاج

 

– بالنظر إلى جذورك، ما هو تأثير بيئة الخلاوى والقرآن الكريم على منتوجك الأدبي والإبداعي؟ 

لا شك أنه ليس حَمَلة الأقلام وحدهم من تصوغهم البيئة المحيطة فهي علی كل كآئن حي و تُعمل مغازلها علی تلافيف مادة خلقه و يتشرب صلصال الإنسان ، فهو ابن بيئته ، والحمد لله كان قدري أن أنبت حاملاً لوحي بين خلوة القرآن مجللاً بطمي الشاطيء الغربي لنهر النيل وسط عماتي النخل وأصدقائي لوز القطن طويل التيلة والأعشاب العطرية و المانجو و الأطيار الملونة وإيقاعات الأناشد الصوفية وأغاني التمتم و الدليب والدلوكة في قلب الأم – أم درمان لم يكن بملكي أن أنزع من تفاصيل صلصالي خيوط شمسها المتناسجة في عصبي أو أجفف أنداء  قطرات سحائبها من مسامي، هذه هي بيئتي بيتي الذي صبغ منتوجي.

– قدمت مجموعتك الكاملة التي تضمنت دواوين الفصيح “رقصة الهياج” و”هى عصاى” و”قامة الشفق” وهو يأس على حال الأمة الإسلامية وقد أصابها الوهن مستدعيا صحيح السُنة في باب الفتن وأمارات الساعة الكبرى، حدثنا عن هذه المجموعة الكاملة؟

أكثر نصوص هذه المجموعة يرجع إلی تاريخ مبكر ما بين سبعينيات القرن الماضي وتسعينياته منها ما نتج في السودان و منها ما نضح في مصر و منها إبان فترة دراستي هنا  أما الأسی علی حال الأمة وهو كما أشرت سمة غالبة أعزيها (إذا تقمصت دور الناقد المحقق) إلی أثر البيئة أعلاه و تسارع الأحداث بهزائمها المؤسفة في عصرنا هذا وهذا أمر طبيعي في رأيي لكل حامل قلم أنه كثافة من جسد أمته ووطنه وعقيدته – عَيِّنةٌ من جماع مكوناته هذه تحمل آلامها وآمالها و إلا فلا خير فيه و لا في قلمه لأي من تلك المكوِّنات.

– يُثير الانتماء إلى طريقة صوفية معينة نقاشاً حول الهُوِيَّة، حيث يرى البعض أنّه يُمثّل تنازلاً عن الهُوِيَّة الوطنية أو الإسلامية، بينما يرى آخرون أنّه مسألة حرية واختيار لا تُؤثّر على الانتماء الوطني أو الإسلامي ما هو رايك بما انك متصوف؟

هذا السؤال ينبني كما يفيد تركيبه علی التصور السائد عن دلالة كلمة (متصوف) وهو تصور شعبي في رأيي ساد بين العآمة في زماننا هذا وذهب بهم بعيدا جداً عن الأصل بكل أسف ، خاصة ما يعرف بمشيخات الطرق المتوارثة وطقوسها المستحدثة فالجيلاني عبد القادر أو أبو الحسن الشاذلي و تلميذه المرسي أبو العباس و تلميذاه ياقوت العرشي و الإمام البوصيري لم يكن هذا منهجهم في التصوف و لا ابن عربي ولا الإمام الغزالي ، أيّاً من هولآء العلماء العاملين كان يتمتع -فطرةً- بخصائص ذاتية كدرجة الرقّة والإرهاف وعمق التأمل واتساع الرؤية وإخلاص التوجُّه إلی الله سبحانه – وغير تلك من صفات تؤهل و تهييء صاحبها -وحده- لذلك ، وبدهي أنه ليس كل من أخذ عنهم نهجاً للسير علی دربهم – بدهي لا يفترض أن له خصائصهم الخلقية الفطرية تلك التي أهلتهم لذلك فهذه أمور معنوية لا يمكن أن تجمع عشرة أشخاص علی أساسها بالعكس من الأمور المادية التي يمكنك أن تجمع علی أساسها الطوال مثلاً أو القصار ليخلف حاضرُهم غائبَهم  عليه فإن النزوع إلی ما نزع إليه أي من أولئك  السلف -حالة خاصة به وحده- بينه و بين ربِّه لا تتأتي للخلف إلا بشروط نفس الخصائص و فوق ذلك فإن إلحاق الذرية بسلفها الصالح مشروط في القرآن بالإحسان -عن علم طبعاً- وهو إلحاق أخروي ليس دنيوياً يتنافس عليه الأبناء لأجل وجاهة بمسوح الروحانية والتدين عبر التوريث وحسبنا قول الله تعالی – (ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم) وهذا خطاب مباشر موجه إلی المتذرعين بالنسب الشريف. أما التخوف من خطر ذلك علی الانتماء إلی الهوية الوطنية و العقدية فهو تخوفٌ وارد خطره علی العامة من الأتباع في عصرنا هذا الذي ابتعدوا فيه عن جادة الأصل التي كان عليها النبيُّ الكريم ﷺ والتابعين وأولئك العلماء العابدين الذين تقدم ذكرهم. لا أری أنني عرضة لهذا الخطر.

– الفن والثقافة كلاهما يوحد الشعب السوداني ، و الفن هو الرسالة التي يجتمع حولها السودانيون، وهو المدخل الأنسب لتحقيق السلام وتمتين البناء الاجتماعي ، هل هذا الكلام صحيح أم أنه أصبح أقرب للنهج الإنشائي الخالي من المضمون؟

أكتفي هنا بالتأكيد علی أن الثقافة من كل أبوابها هي أقصر الطرق إلی السلام إذا أُحسنت إدارة الحقيبة الوزارية الخاصة بها بواسطة وزير من أهل الهم الثقافي ملم بغرافية و تاريخ السودان مدرك لأبعاد التنوع الإثني و القبلي و اللساني فيه وهذا ما افتقدناه منذ الاستقلال حيث عبر علی رأسها مئات الوزراء خلال تعاقب الأنظمة و الإقالات و كثرة التعديلات الوزارية و كل ذلك إنما كان يتم علی أساس الإرضاءات الحزبية والجهوية وشروط الولاء دون النظر إلی الكفاءة،   نستثني من ذلك قلة قليلة جداً عبرت سريعا علی ذلك الكرسي لم تجد الوقت الكافي لوضع بصمااها بسبب الانقلابات والتآمر عليها أحيانا، أكتفي هنا بالتأكيد علی أن الثقافة من كل أبوابها هي أقصر الطرق إلی السلام.

– مؤسف أن تصل البلاد إلى الاحتراب مع وجود المفكرين والسياسيين والفنانين والنخب المثقفة، ومن تغنوا وكتبوا شعراً وطنياً وحلموا بأن يكون للبلاد مشروعا وطنيا يحقق نموذجاً لدولة حضارية لها تاريخ يمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة” حدثنا عن  كيفية الخروج من كارثة الحرب ومهمة المبدعين؟

 الإجابة علی هذا السؤال الحتمي لابد فيها من تفصيل يجلو غموضها و لكن ربما لا يسعه حوار صحفي ، سأحاول لاحقاً أن أفرد لكم مقالاً تفصيليا لرؤيتي حسب مراقبتي الإعلامية اللصيقة -ومتابعتي من الداخل- خاصة وأنني واحد من ملايين المكتوين بنارها مباشرة حيث أخرجت من بيتي و تم نهبه كاملاً و كآفة ممتلكاتي كما  تم اعتقالي و أنا متجه بأسرتي  إلی مصر عند منطقة (قَرِّي) إحدی مرتكزات القوات المتمردة  بينهم بعض الأجانب الأفارقة و كان ذلك تحت تهديد السلاح و قد نجّاني الله منهم له الحمد و الشكر الجزيل.

 أملنا ورجاؤنا في الله القادر علی كل شيء أن يتدارك بلادنا بفرج قريب وانفراج عام وسلام دائم سأقدم لكم في مقالي الموعود إجابة وافية وتحليلاً مفصلاً حول هذه المفارقة التي أشرتم إليها في شأن غياب دور المفكرين والساسة والمبدعين .

– ما هو السبيل لعودة الشعر العربي إلى الواجهة باعتباره ديوان العرب ؟

فلنبحث أولاً عن التوافق الجامع لبلاد (العرب) ومن ثم سيعود الشعر في الواجهة ديوانا .. لقد تراجعت قيمة اللغة والتذوق الأدبي بتراكم الهزائم علی الأجيال المعاصرة أمام المد الجارف المنحدر من الغرب إلی الشرق والذي طال المناهج التعليمية والارتباط بالتراث و مازاد الطين بلة سيول الميديا وعواصفها المتربة التي طالت المنتج حديثا من الآداب والفنون و الله المستعان.

– كيف ترى الساحة النقدية في السودان هل ثمة نقاد  فاعلون يفرزون ما يصدر من أعمال أدبية أم أن شيئا من القصور وربما العجز أصاب الحركة النقدي .

المشهد الأدبي في السودان كغيره من ساحات الأدب العربي المعاصرة لا يخلو من قصور في الحركة النقدية المتخصصة فالنقد -بدهياً- عربة في قاطرة المنتج الأدبي الجاد الذي يستحق الجهد النقدي و هناك شح واضح في ذلك .

– هل آذى ما يمكن وصفه بالنشر الهمجي للإبداع وأشباهه في مواقع التواصل الاجتماعي المبدعين الحقيقيين ، حيث ظهرت حركات وجماعات إبداعية موازية للواقع تعتمد أدوات النشر السريع والدعم السريع ،للوصول إلى جمهور غامض من مرتادي هذه المواقع ، أم أن ما يجري ظاهرة إيجابية؟

لن يكون تجنيّاً إذا قلنا إن تسعين بالمائة من ما يضطرب في أثير برامج التواصل الاجتماعي باعتباره كتابات إبداعية -لا يعدو أن يكون سوی (تسلق) محموم إلی نجومية متوهَّمة في مجالات الشعر و الرواية والأغنية والتشكيل ، وزبد سرعان ما يذوي مهنا بالغ أصدقاء صفحة الواحد منهم في إيهامه بالاستحسان ومهما استخدم من وسآئل صناعة النجومية بل حتی إذا كان الحزب أو السلطان له ظهيرا ، لذلك فلا ينزعجن مبدع حقيقي من ما يحدث هؤلاء من جلبة وضوضآء. فللتاريخ غرباله الواسع الثقوب تتحات منه مع مرور الزمن كل سذاجات الأدعياء وفاقدي الاستعداد الفطري لخاصية الإبداع فانظري كم كان حول المتبي في زمانه من الشعراء وكم كان مع شوقي وحافظ والتيجاني يوسف بشير وجمّاع وكم عاصر أم كلثوم و عبد الوهاب والسنباطي وأغنيات الحقيبة السودانية المدائح النبوية وكم أنتجت العرب من مصنفات اندثرت وما بقي في ذاكرة التاريخ إلا قِلةٌ من العناوين والأشعار والأسماء والأفلام والأعمال المسرحية القديمة  لا تزال الأجيال تستعيد مناخاتها الإبداعية ولا تزال أصداؤها تدوي في محتوی الإبداعي الإنتاج الإبداعي الحديث.

فليطمئن أصحاب الملكات والمواهب الأصيلة أنه لن يبقی علی الأرضية التاريخية إلا ما يساير الحس المعافی وهو ما ينفع الوجدان الإنساني وأما الزبد فيذهب جفاءً وهذه سُنَّة كونية ، علی المبدع الأصيل أن يؤدي رسالته بينه وبين نفسه حتی لا ينصرف عن مناخ الحالة الإبداعية الصادقة فالخيل الأصيلة يوضع علی جنبات عيونها في السباقات ما يكف انحراف بصرها عن جادة المضمار حتی لا تنشغل به عن مفازة الوصول.

كلمة في الختام:

هي أبيات لشاعرنا العبقري الراحل التيجاني يوسف بشير المتوفّیٰ و هو في الخامسة والعشرين من العمر  1912 – 1937 قد منعه المستعمر من دخول مصر وأعاده إلی أم درمان من معبر حلفا – يقول فيها:

إنَّما مِصرُ والشقيقُ الأخُ السودانُ

كانا لِخافِقِ النيلِ صَدْرا

حَفِظا عهدَهُ القديمَ وشَادا

مِنه صِيتاً ورَفَّعا مِنهُ ذِكرا

فسلوا النيلَ عن كرائمَ

أوسعنا دَرارِيَّها احتِفاظاً وقَدْرا

كيف يا قومَنا نُباعِدُ مِن

فِكرَين شَدَّا وساندا البعضَ أزرا

يا ابْن مِصرٍ وعندنا لك ما نأمُلُ

تبليغَه مِن الخيرِ مِصرا

قُل لها في صراحة الحَقِّ

والحقُّ بأنْ يُؤثَرَ الصراحةَأحرىٰ

وَثِّقي من عَلائقِ الأدبِ الباقي

ولا تحفَلي بأشياءَ أُخرىٰ

كُلُّ ما في الورىٰ عَدا العلم

لا يُكبِّر شَعباً ولا يُمجِّدُ قُطرا

أمَلي في الزّمانِ مصرَ فحيّا

اللهُ مستودعَ الثقافة مِصرا

نَضَّرَ اللهُ وجهَها فَهْيَ ما تَزْ

دادُ إلا بعداً علَيَّ و عُسرا

 كلَّما أنكروا ثقافةَ مصرٍ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى