فصل من رواية زين الحسين (بقلم: خالد عبدالسلام- مصر)
ستجري العملية مطلع الأسبوع المقبل..
سأموت حتمًا..
ستنتصر..
في غرفة واسعة تكتسي جدرانها بالأبيض الناصع، وفوق مقعد يفترشه الجلد الأسود، مجاورًا مكتب بني تعتليه روشتات الدكتور زكريا، الذي قرر أن يواجه زين بصعوبة إمكانية نجاح عملية اسئصال الورم الذي يبدد رأسه ويستعجل انقضاء أنفاسه وتوقف نبضاته، ورحيله..
أمسك الدكتور زكريا لحيته البيضاء بسبابته وإبهامه، ثم رفع عينيه في وجه زين المترقب.. عيناه تلمعان بقطيرات من الدموع.. ترقب.. ارتجاف.. الدكتور قرر الحديث..
– ستجري العملية مطلع الأسبوع المقبل.
– وماذا بعد؟
– نسبة النجاح …
– لا تتعدى …
– 5% تقريبًا.
– إذن أنت لا تخبرني بميعاد العملية فحسب؛ أنت تعطني الإذن في توديع الأحبة يا دكتور زكريا.
– وربما لتشحن معنوياتك استعدادًا للقاء.
– للقاء الله.. نفس المعنى!
– أقصد لقاء العدو الذي يحتل رأسك ويعتدي عليه بغاراته المؤلمة، ويؤذيك ويحاول هزيمتك.. استعد للقاء عدوك والقضاء عليه إن أردت يا زين.. نسبة النجاح الضئيلة لا تعني الهزيمة؛ الأمر كحرب بين جيشين يزيد تعداد أحدهما عن الآخر بأضعاف، لكن الجيش الأقل عددًا يتحلى بالحماس والعزيمة وقوة الإرادة، ويتصف الآخر بالغرور والخسة، وينتصر الجيش الأقل عددًا على الآخر.. صدقني يا زين أنت تستطيع هزيمته.
– طمأنك الله يا دكتور. علي أن أرحل الآن للقاء صديق حبيب.
– ألقاك قبل العملية بيومين في المستشفى يا زين. الخميس بإذن الله.
– لنا الله يا دكتور.
همّ زين من فوق المقعد مصافحًا الدكتور بيمناه التي ترتجف قليلًا، ثم خرج من الغرفة إلى صالون العيادة لافتًا انتباه من ينتظرون دورهم.. يتفحص وجوههم، هذا ينتظر موعد لقاء مثله، هل ينتصر؟ أم يقتله السرطان؟ وهذا العجوز ربما يئس من المعركة، لكن إذا يئس ماذا جاء به إلى الطبيب؟ هل مازال متسلحًا بالأمل؟ صاحب وجه غزاه الشيب جاعلًا إياه كقطعة الخشب المجزعة، رأسه الخاوي من الشعر بالتأكيد أنه كان مكتسيًا بالأبيض، وهذا الشاب العشريني النائم في حضرة الانتظار، أسوأ ما في الدنيا هو الانتظار، هل ينتظر دوره في الكشف؟ أم ينتظر خروجه المبكر من الحياة بأسرها؟ يا لك من عدو شرس أيها السرطان، تقتل ضحاياك بدم بارد، تقسو عليهم بلا هوادة، كل هؤلاء الضحايا أنت وحدك جلادهم.
خرج صوب باب العيادة، فاتجه إلى سيارته مشيًا على قدميه مقتحمًا كل الوجوه، إلى أن وصل إلى مكان السيارة التي صفّها بعد بحث دقيق عن مكان لها، زحام مدينة نصر أصبح لا يطاق، لكن كل مآسي الحياة تهون أمام السرطان.
استقل سيارته متجهًا إلى الحسين، في إشارة رابعة العدوية طرق أحدهم زجاج سيارته..
– فكّ الله كربك يا بنيّ وأزاح عنك كل مكروه. ساعدني ولو بجنيه واحد.
– تفضل.
أعطاه عشرة جنيهات وهو يفكر في الدعوة..
عجوز ذو ملامح سبعينية، يرتدي جلباب بني داكن يكتسي بالتراب، لكن لماذا اختار هذا الشحاذ هذه الدعوة بالتحديد؟ هل أرسله الله لطمأنته؟ أم هي دعوة يرددها لكل من يقف في هذه الإشارة؟
أضاءت الإشارة بالأخضر فاتجه مسرعًا إلى وجهته..
صف سيارته في جراج الدراسة، ليتجه إلى ساحة الحسين ومسجده مشيًا على قدميه..
يا ربي ما هذا الزحام! لقد انتهت صلاة العشاء منذ ما يزيد عن ساعة، هل كل هؤلاء أصدقاء الحسين؟ ظننته صديقي أنا فقط، أشكوه كلما ضاقت بي الدنيا، ويرتاح قلبي كلما أبوح إليه.
بسم الله.. اللهم افتح لي أبواب رحمتك…
خلع حذاءه الأسود الذي يرتديه للمرة الأولى منذ أن أهدته إليه حلم، ثم عبر داخل المسجد نحو دورة المياه، روح الحسين تحيي مسجده، هذه الروح التي تلفحه كلما وطأ هذا المكان المقدس، رائحة البخور التي تلتصق بكل عمدانه كل جمعة، وصوت الهمهمات التي تجمع من يقرأ القرآن بمن يعطي درسًا دينيًا لجمع من الأطفال بمن يتقمص دور المرشد السياحي شارحًا عبق هذا النبع الروحي.. وصل إلى دورة المياه ليشمر أكمام قميصه الرمادي وأطراف بنطاله الأسود..
انتهى من وضوئه، في حسرة على لحيته التي كان يسرحها حينما تبتل بعد الوضوء، وعلى شعره الذي كان يقطر فوق ملابسه.. لامس سجاد المسجد بقدميه مجددًا، توجه إلى المنبر المجاور لمقام الحسين، وعزم على صلاة العشاء بجانبه، نوى ثم كبر ثم صلى ثم توجه صوب المقام.
كعادته قرأ الفاتحة ثم قبل كفيه ثم مسحهما على النحاس الذي يسور الغرفة الصغيرة المشعة بالضوء الأخضر حاوية مصحفًا بداخلها، ثم اتجه إلى المحراب داخل غرفة المقام وقعد في حيزه المقعر، ربّع قدميه ثم صوب عينيه البنيتين إلى غرفة الحسين، ممطرة دموعه على صدغيه، ليبوح لصديقه..
يا حسين.. يا إمامي وصديقي.. هل هذه هي النهاية؟ إذا كنت سأموت حتمًا، فلماذا أجري عملية تجعل الرحيل في ميعاد معلوم؟ لماذا لا أتجنبها لأعيش أيامًا أكثر؟ لأستمتع بما تبقى كما ينبغي، لأودع أحبابي كما يروق لي ولهم، لأرحمهم من التوتر وقتما أجري العملية في انتظار النتيجة التي ستنتصر للسرطان؟ الآن وأنا على يقين بأنني ميت لا محاله جراء هذه العملية، أوليس هذا بمثابة الانتحار؟ السرطان اختار أن يلحقني بأمي في قائمة ضحاياه..
أنا الذي اقتربت من الموت مرارًا ونأى هو عني بنفسه.. أنا الذي عبرت إلى القدس في حصار سرطان الاحتلال ولم يرافقني الموت.. وأنا الذي هرب الموت مني جراء همجية العدو بزخائره في القدس.. نعم أنا الذي حقق حلمه بالسجود داخل المسجد الأقصا ثم عاد سالمًا.. هل ندم الموت على ما فاته من فرص للظفر بي؟ هل ينتقم سرطان الجسد لسرطان الاحتلال الذي عجز عن قتلي؟
ظل هكذا في قعدته التي تشبه شكل الجنين في رحم أمه على شاشة السونار، وعلى بعد خطوتين منه ستة شباب ورجل عجوز يرتدون العباءات البيضاء والعمامات الخضراء، يلوّحون برؤوسهم يمينًا ويسارًا ويبتهلون وينشدون..
نحن في ساحة الحسين نزلنا
في حمى الله من أتى لحسينا..
هي حَضرة…
سمع صوتهم لترتسم نصف ابتسامة على وجهه، مصوبًا نظره إليهم، ليلمحه العجوز مقتربًا منه..
بوجه أسمر به من تجاعيد الزمان ما يجعله ثمانينيًا، وبعينين فاتح بنّيها، وبأنف به من الحمرة ما يوحي بالتعرض للحريق من قبل، وبمسبحة من الأحجار الكريمة الزرقاء في يمناه، بادر العجوز في الكلام..
– ماذا بك يا …
– زين يا جد.
– جد! إلى هذا الحد أبدو عجوزًا! لكن أعجبني ذلك يا … زين.. أنا الجد حيدر يا ولد
– أيمكنني مشاركتكم؟
– بالطبع.. لكن إذا قلت لي
– ماذا أقول؟
– ما تقوله للحسين!
– كل ما يمكن قوله إنني ذاهب إلى الموت في وقت سريع.. أنا يا جدّاه مريض بالسرطان، علمت بذلك منذ ثلاثة أشهر …
– ثم ماذا؟
– أخبرني الطبيب بموعد العملية.. السبت المقبل.
– إذن لماذا تخاف يا ولد؟
– نسبة نجاح العملية لا تتجاوز الـ5%.. أي أنني ذاهب إلى الموت بخطى ثابته، وأنا قلق حيال كون هذا بالانتحار، لماذا لا أموت في هدوء؟ بلا عملية وبلا قلق وبلا ترقب …
– كون هناك نسبة للنجاح حتى لو لم تتخط الـ1% يعطي أملًا ويقينًا للنجاح، وإلا ما أجروها ولا قالوا إنها أكثر من صفر.. الـ5% هي رقم طبي خالص لا دخل لك فيه، ربما يهبط دركة فأخرى حتى يجاور الصفر إذا يئست، وربما يرتقي إلى 100% إذا تيقنت من النجاح، إذا ارتميت إلى رحمة الله، إذا آمنت بقدرتك على الانتصار.. تيقن أنك ستنتصر يا زين وستنتصر.. ربما إذا نظرت إلى حياتك ستجد مرات ومرات نحاك الله فيه عن الموت، وتيقن أن الله قادر على أن ينحيك مجددًا إن أردت ذلك. تعال يا بني فلتطهر روحك معنا في حضرة ساحة الحسين.
تبسّم وأضاء شعاع من الأمل وجهه، ثم زحف زين مع الجد حيدر خطوتين ليجاور الشباب الستة..
من يزور الإمام أتته عنايا
إن أصل ساحة يتم هنايا
قد أتيناك والركاب حنايا
يا ابن خير الأنام نظرة إلينا
نحن في ساحة الحسين نزلنا
في حمى الله من أتى لحسينا..
تصوّف بذهنه تمامًا حتى حان موعد الفجر.. وقف مرددًا مع المؤذن، ثم انتقل إلى الصف الأول خلف محراب المسجد، شرد تمامًا في مصيره الذي يمضي إلى مفترق بين الحياة والموت، ما الذي سيصيب حلم بعد رحيله؟ حبيبته التي أقسم على البقاء معها. كيف يعيش أبوه؟ الذي تمنى ألا يدفنه كما دفن أمه قبل واحد وعشرين عامًا. كيف يمر رحيله النهائي على أصدقائه؟ هل يشعرون بما شعر به حيال أحمد مطر الذي راح قبل نحو شهرين؟ كيف تخلد ذكراه كما تمنى طوال عمره؟
قطعته عن شروده يد ربتت على كتفه، ليميل برأسه إلى الأعلى.. ها هو الأب.. يال المفاجأة! جاء أبوه من المغرب قبل موعد قدومه بأربعة أيام.. إلى مسجد الحسين فجأة! كيف علم بوجوده هنا الآن؟ هل سأل الدكتور زكريا؟ لكنه أخبره بأنه ذاهب للقاء صديق عزيز؟ ربما عرف الأب أن هذا الصديق هو سيدنا الحسين؛ هو الذي رباه على حب الحسين، والتصوف في حضرة ساحة الحسين، والبوح بالهموم لله في رحاب الحسين.. وكيف يترك عمله مسافرًا من الرباط إلى هنا فجأة؟ هل راسله الدكتور قبل لقاء اليوم؟ ربما يشعر بالخطورة عليه؟ قلب الأب! على كل حال فالسيد حسين العربي يقف ببدلته السوداء كالعادة وقامته التي تضاهي المترين، حالقًا شعره ولحيته تضامنًا مع ابنه، ناظرًا إليه في قعوده بوجهين، واحد باكي ألمًا على آخر ما تبقى له من الحياة، وآخر يشع تحفيزًا وصبرًا على البلاء..
هل جاء الأب لتوديعه قبل الرحيل؟ أم للشد من أزره قبل المعركة الأكبر؟
وقف زين من قعوده معانقًا أباه، ودموعه جعلت وجهه كله لامعًا، لم ينطق بكلمة واحدة، فقط نظر صوب عينين الأب الذي تبسّم قائلًا..
– ستنتصر يا زين!