لم يكن عمدة وشيخ بلدة فقط بل كان حكيم ورمز بلدة الجماملة الطيب أهلها ذات الموقع الجغرافي القريب من دمياط والمطل علي ترعة السلام التي تنتمي لمدينتي المنزلة والمطرية العريقتين في الجغرافيا والتاريخ، في المحافظة بعاصمتها المنصورة دائما.. برحيله فقدنا رمزا فريدا من نوعه، فريدا في تكوينه، في حكمته.
لم يكن والدا وأبا لي ولأشقائي وشقيقاتي بل كان صديقا ودودا وحنونا ومخلصا كانت لديه رؤية لجميع الأمور، بثقافته العميقه الموسوعية التي كانت تمثل عبئا كبيرا عليه، ولطالما طالبت أكثر من مرة أن يسجل مايراه بخطه الجميل المبدع، وضعنا علي دروب الحياة الواسعة، كان يغمرني بكلمات ذات بهجة واسعة.
لم يكن يحمل شهادة، لكن تبدو ثقافته في تلاوته للقرآن بصوته الجميل عندما يتصدر أي صلاة كإمام وفي حديثه التي تكشف مدي تفقه بعلوم الكتاب المجيد وبالسنة والشريعة وبالدين الحنيف.
كان مثالا كبيرا في كل خطوة طوال عمره المديد، خالدا في أعماله، معتزا بنفسه، متفوقا علينا وعلي أقرانه بل علي من هم أكبر سنا، رسم لنا مستقبلنا وفتح أمامنا شواطئ وآفاقا بعيدة قلما تتوافر في أحد.
عاش في قرية صغيرة رغم أنه كان ينتمي للمدينة والحضر وكان يردد دائما حديث المصطفي عليه السلام “خير أمتي في الحضر” مؤصلا لقوله ومرجعا للشرع والسنة المحمدية كمرجعية في أعماله وسلوكه.
لم يكن مجرد واحد من حفظة القرآن الكريم بل كان يلتهم المصحف الشريف التهاما يفوق التهامنا لألذ وأطيب الطعام كان عاشقا لكل آية، يتأمل جميع السور المقدسة، وينظر في مفردات كلمات العلي العظيم، كان مصاحبا وصديقا لإذاعة القرآن الكريم، منصتا لبرامجها، ومستوعبا لما يقول علمائها من كل صوب وحدب.. اللهم ماجعل القرآن شفيعا له، يارب العالمين.
عندما كان في السعودية مرافقا لشقيقتي الكبري، برز بثقافته وتفوق علي من يحملون الشهادات الجامعية فحاز علي اعجاب مديري المدارس ومسئولو التعليم في المملكة، بل تصدر مسابقات المدارس والمعاهد التعليمية، ما أثار علامات استفهام حول عمق معرفته التي جددها دائما بالاطلاع علي امهات الكتب الدينية خاصة سيرة رسول الرحمة وامتعنا كثيرا بها في مجالسه التي كانت جلسات علم وثقافة ودين سنفتقدها طويلا وكثيرا لكن عزاؤنا في تراثه وسمعته التي تملأ الآفاق.
كان الجمال فلسفته، ينحت بخطه الجميل المبدع، كل ما تعشقه عيناه ،تفوق علي من كان يعلن نفسه خطاطا للخط العربي الجميل، كان يرسم بريشته جميع لوحاتنا ونحن صغار، يبدع ويتفوق كعادته في أن يتفوق دائما.
لم يكن مجرد تاجر او صاحب محل بقاله صغير، بل كان ينتمي للرعيل الأول من التجار الكبار في المنزلة والمطرية كشوقي الجميعي والسيد السمبسكاني ودقدق وغيرهم، رفض عروضا عديدة للانتقال للمدينة ليوسع تجارته، لكن عشقه لهدوء القرية ولأسرته العريقه التي وضعت أول رمز وشيخ بلد لها منذ سنوات طويله وهو جدنا أبو سالم أول شيخ بلد.
ولد في بورفؤاد أجمل ضواحي المدينة الباسلة وانتظم في صفوف مدرسة العصفوري بحي العرب، أعرق المدارس التي شهدت من بين طلابها من هم كان نخبة ورواد بورسعيد.
لكن أتت رياح الحرب العالمية الثانية بما لم تشتهي السفن، فقد كانت وفاة عمي الذي أصيب بأزمة عصيبة حزنا علي مقتل صديقه بقذيفة صاروخية نهاية للبقاء والرحيل القسري السريع، حيث أصر جدي أبو سالم علي مغادرة المدينة الباسلة بعد قدم صفيحة قشطة لمدير المدرسة الانجليزي الذي تمسك ببقاء التلميذ النجيب حرصا علي مستقبله الواعد، ليعود إلي الجماملة كواحد من الأطفال الذين عليهم حفظ القرآن مع شقيقه الأكبر نصر، الفنان الرسام المبدع صاحب الموهبه الفريده في رسم بورتريهات الأشخاص.
ومع عمل جميع أقرانه في الصيد ببحيرة المنزلة، اتجه صوب الشواطئ الزرقاء ،وبدأ رحلة طويله برز خلالها دوره كقائدوكريس مركب وكرائد صيد وصيادين وليس مجرد عامل وصياد، فقد كان واحدا من قبطان وأصحاب المراكب رغم أنه كان الأصغر سنا وسط من أهم أكبر عمرا لكن فرض نفسه بخبرته بدروب الأسماك والكائنات البحرية وبمواطن دقائق وأعماق البحار والمياه العميقة، كان مولعا بكشف تلك الدروب يشير للجميع بأن يحطوا رحالهم ويبدأوا علي وجه السرعة عملهم لمحاصرة تلك الكائنات التي كانت مصدر للخير والرخاء والعيش برخاء ونعيم.
لكن بنظرته البعيد والثاقبه، رفض أن يواصل العمل في الصيد والمياه الزرقاء واختار أن يكون واحد من التجار لكن حدود القرية الصغيرة وضعت قيودا كبيرة عليه؛ كان تاجرا ماهرا يعرف من أن يأتي بالربح والمال الكثير بأقل قدر من المال من خلال شطارته وأمانته التي تمثل أساسا للتاجر فليس المكسب سمة لمن يمتهن مهنة الرسول المصطفي عليه السلام، بل الأمانة التي جعلته مميزا بين شباب قريش خاصة في رحلتي الشتاء والصيف.
بنظرته، أدرك أن الاستقرار في اليابس واليابسه وليس في المياه المحدود عالمها، وظهر ذلك في رده علي سؤالي، لماذا لم يستوطن البحيرة مثل الجميع ؟ حيث أشاح بيده بالرفض مستدركا أن عليه ان يتوقف ويتجه صوب مهنة أخري، وماحدث اخيرا من تطورات في البحيرة جسد عمق وصواب رؤيته العميقه ذات البصيرة الحاده والثاقبة.
برحيله نفقد واحدا ممن وضع بصمة كبيرة علي البلدة العريقة التي تتفوق علي أي مدينة في طموح وحيوية أهلها، بفقده نفقد القدوة والمثال الطموح، نفقد تلك الخبرة والبصيرة والثقافة الموسوعية العميقة.
من سيكون بديلا، في مكانه، في قراءته للقرآن، في ولعه الشديد بالمصحف المقدس، في جلسته التاريخيه، هل يكون أبو الجسور؟؟.
يحتاج المرء لصفحات طويله لرصد ملامح حياته المديده التي تعدت عقودا تسعة، وسأفتقد أبا عظيما، سأفتقد كثيرا وللأبد،من كان يستقبلني ببشاشته وابتسامته العريضة، ومن كان يحتضني بحنان، رحل من كان يسعدني ويكرمني ويغمرني بوده وحنانه وحبه، رحل الصديق العظيم الكريم، رحل من لم يمكن تعويضه، دعائي له ولوالدتي العزيزة بالفردوس الأعلي. وبأهل لهما أفضل من أهلنا وبالثبات عند السؤال وبالرحمة والمغفرة، أنك سميع مجيب الدعوات.