بقلم: د. خالد محسن
__________________________________
الفكر العربي المعاصر أصبح، وأمسي في مرمي سهام التغريبين والمغرضين، ويتعرض لتحديات جمة وعوائق فكرية متنوعة، وتأتي هذه الدراسة العلمية الجادة للدكتورة أميرة عبدالفتاح سرحان، كمحاولة فكرية عميقة للبحث عن ذات فكرية عربية مبدعة ومتجددة، والتصدي لمحاولات غربنة العلم وتحجيم وتهميش العقل العربي ومساعيه المحمومه لبتر فكره الإبداع والتميز المستمد من المخزون الثقافي الأصيل، وروح الحضارية العربية العريقة.
الدراسة صدرت مؤخرا في كتاب عن دار الكتب والوثائق القومية، تحت عنوان (المنهجية العلمية في الفكر العربي المعاصر .. عبد الحميد صبرة وأحمد فؤاد باشا، نموذجان)، وقد حصلت الباحثة عن هذه الدراسة علي درجة الدكتوراه العام الماضي من كلية الآداب ،قسم الفلسفة،جامعة قناة السويس.
وتري د. أميرة في مقدمتها التمهيديه أن حضارات الأمم تقاس بمقدار تقدمها في ميادين العلوم والفنون وسائر مجالات الفكر الإنساني، وتستمد الأمم العريقة تقدمها من النظر في تاريخها وتراثها؛ فدراسة الماضي تساعد علي إبداع ذات جديدة ، ولا يمكن البدء بخطوة إلي الأمام دون النظر إلي الوراء، وأصبحت المواجهة التي تشغل الثقافة العربية، ليست فقط مواجهـة الإنسـان بعقله للطبيـعة بخصائصـها ابتغاء الوصـول إلي قوانين العلـوم الطبيعية، وإنما هي مواجـهة الإنسـان بإرادتـه للمجتمع الإنساني في فاعليته، وأوجه نشاطه، ابتغاء المشـاركة في فعل موحد يوصل إلي أهداف ترضي عنها القيم العليا.
وأكدت الباحثة أن العلوم المختلفة نشأت، استجابة لحاجة الإنسان إلي الارتباط بواقعه المعيش باعتباره موضوع النشاط الإنساني ومصدر كل ضروريات الحياة البشرية، ومن خلال مجموع المعارف التي حصل عليها الإنسان عن عالمه الداخلي والخارجي، واستطاع أن يكون ثقافته التي تفرعت عنها أغصان الحضارة علي مراحل تاريخية متعاقبة، وازداد الاهتمام بإعادة اكتشاف الفرد، وصياغة قيم ومعايير إنسانية جديدة تحت مظلة العلم عند المرحلة التي يبلغها من تطوره، وانشغل الإنسان بقضايا تطبيق العلم وتقنيته لخدمة أغراضه ومصالحه الذاتية.
وعلي التوالي عاشت الإنسانية تطبيقات ما أنتجته عقول المفكرين والعلماء علي مر العصور ، وأنتجت ما يعرف باسم “الحضارات”، فسنة الله اقتضت أن يكون لبعض الحضارات المزيد من التقدم في مقابل جمود أو تراجع البعض الآخر ، وذلك لفترات زمانية محددة ، ثم تتبدل الأدوار، وهكذا، وذلك من أجل أن تكون الحضارة الإنسانية في مجملها سلسلة متصلة الحلقات بين الأمم، بحيث تحمل كل حضارة بين طياتها مبدأ الأخذ من سابقتها ، والعطاء للاحقتها، وبذلك تتحقق منظومة التكامل الإنسانية.
في هذا الإطار تأتي الدراسة تفعيلاً لدور العلم والمنهجية العلمية في الفكر العربي المعاصر ، حيث تتمثل الإشكالية في محاولة الإجابة علي التساؤل المهم حول دور العلم في حياتنا المعاصرة وما قدمته المذاهب المعاصرة من رؤي كونية متميزة ، وقد وقع اختيار الباحثة على أنموذجين يمثلان وفقا لرؤيتها الاتجاه العلمي الوسطي في الواقع العربي المعيش ، وهما (عبد الحميد صبرة وأحمد فؤاد باشا).
وأكدت الباحثة أن مشكلة المنهجـية العلمية احتلت مكان الصدارة في الوعي المعرفي المعاصر ، وذلك لعدة أسباب منها: الاهتمام المتزايد نحو توطين المنهجية العلمية وبناء نسق كلي شامل للعلم ،وبالتالي تظهر ثمار هذا الاهتمام من خلال التصدي للمحاولات القائمة علي غربنة العلم ، ومعالجة التهميش القائم علي محاولة تراجع العقل العربي وإحجامه عن الإبداع ، وغياب المنهجية العلمية.
ونجد أن المنهجية العلمية كموضوع تصدر الواجهة لذا نجد أن أهم ما كتب فيها ما ذهب إليه العديد من المؤرخين والمفكرين ومن بينهم عبدالحميد صبرة وأحمد فؤاد باشا.
وطرحت الدراسة نموذجين فلسفيين في إطار إشكالية المنهجية العلمية وهما : عبد الحميد صبرة، أحمد فؤاد باشا. النموذجان مفكران قدما إسهاماً نظرياً وبحثياً وفلسفيا في مجالات الفكر المعاصر وتنوعت مصادرهما واستلهامهما لكنهما اتفقا علي أهمية إبراز دور العلم وكيفية تاثيره في حياة المجتمعات الإنسانية.
وتؤكد الباحثة أن الإشكالية التي نعانيها نحن في الشرق غياب منهجية العلم عند التطبيق العلمي للفكر، هذا بالإضافة إلي إشكالية التواصل الفكري والثقافي وغياب العقلانية في تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية خاصة وأن هذه الإشكالية هي التي أثارت بالفعل إهتمامعبد الحميد صبرة وأحمد فؤاد باشا وهما نموذجا الدراسة وما قدماه لنا من آراء وأفكار علمية وعملية قد تسهم بالفعل في تفسير ومواجهة بعض الإشكاليات التي أثارتها الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
ومن هنا يأتي التساؤل الجوهري في هذه الدراسة ألا وهو: هل قدم علماء الحضارة العربية ابتكارات وإضافات أصيلة في العلوم التي بحثوا فيها عملت علي تأسيسها وتطورها حتي أفادوا بها العلم الحديث والمعاصر؟
كما أن عبد الحميد صبرة وأحمد فؤاد باشا يعتبران العلم حالة فكرية لها إطارها ورصيدها الحضاري، ولا يهدفان من هذه الرؤية للعلم إلي فلسفة نظرية فحسب بل إن الهدف الأساسي منها هو التطبيق العملي من أجل إصلاح المجتمع.
كما كان عبد الحميد صبرة علي وعي بأن دراسة تاريخ العلم يفيد العلم ذاته من جهة ويفيد المجتمع من جهة أخري، وذلك لما يحمله العلم من رسالة إنسانية تهدف إلي تحقيق عالم يستند علي المنهج العلمي، وكان من واجب الإنسان أن يسعي وراء المعرفة ، وأن يفتح صدره وقلبه لجميع الأسرار والخفايا المحيطة به ، فالعلم الذي يمثل الآن روح العصر، هو منهج في فهم الواقع ودراسته اعتماداً علي العقل الناقد بهدف التدخل التجريبي للتغيير، ولهذا هو مؤسسة اجتماعية وركيزة للبناء الحضاري.
ومن أهم الموضوعات التي عالجها صبرة معالجته للعلم العربي في الحضارة الإسلامية، واهتمامه بسبل إنتقال الثقافة العلمية عبر الحضارات الإنسانية بما اسهمت به الحضارة الإسلامية من دور فعال في صنع النهضة الأوروبية، كما ناشد بضرورة أخذ فلاسفة العلم التطور التاريخي للعلم بجدية وعناية، فضلاً عن الأخــذ بعين الاعتبار العــلاقة التاريخية المتداخلة بين تاريـخ العلـم وتاريـخ الفلسفة.
كما ناقش فؤاد باشا العديد من الموضوعات وكان أهم هذه الموضوعات لديه هو نظرية العلم الإسلامية بما تشمله من الجمع بين العلوم الدينية والاجتماعية والإنسانية، حيث أكد علي أن تحقيق ارتباط العلم والتفكير العلمي بتنمية المجتمع يتطلب الفهم الواعي لطبيعة العلاقة بين العلوم الأساسية من جهة، والعلوم التطبيقية والتقنية من جهة أخري، والعمل علي تحقيق التلاحم والإنسجام بينهما حتي يؤتيا ثمارها في تلبية احتياجات المجتمع، ذلك أن المعرفة العلمية لا تفرق بين بحث نظري وبحث عملي، وهي لا تفرق بين كشف في مجال الفيزياء النظرية أو الرياضية، وبين ابتكار لمنتجات صناعية، فالعلم ممارسة إنسانية وفعالية حية نامية ومتطورة دائماً ومهما أنجز العلم من تقدم، فسوف يظل هذا الإنجاز يحمل في صلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد ، فكل إجابة تكون مثمرة بقدر ما تطرح أسئلة أبعد، وكل نظرية تكون ناجحة بقدر ما تفتح الطريق لنظريات أخري أكفأ وأقدر.
وقد عالجت هذه الإشكالية من خلال إبراز جوانب الإتفاق والإختلاف بين صبره وباشا، حيث وجدت رغم الإختلاف بينهمافي التناول المعرفي للمنهجية العلمية المتمثل في التوظيف العلمي إلا أنهما متفقان في نشأة العلم والمنهج العلمي إذ نجد أن نقطة التلاقي عندهم تتمثل في التراث العلمي ومحاولة التأريخ الصحيح لفلسفة العلم، ومحاولة تصحيح الأخطاء التي تتردد لدي الأذهـان عن غياب العقلانية وغربـة العلم التي اطـاحة بالعقل العربي وإحجامه عن المشاركة الفعالة في الإبداع الفكري والثقافي، فقد دعا كلٌ منهما لضرورة التطبيق العلمي العملي في المجتمع؛ وذلك لأن فلسفة العلم معنية بتتبع نمو المشكلات العلمية وتطورها.
أما بالنسبة لنقطة الاختلاف بين عبدالحميد صبرة و أحمد فؤاد باشا فتتمثل في التوجيه العلمي إذ قام صبرة بمعالجة العلم ووضعه من خلال السياق التاريخي . بينما نجد فؤاد باشا قد عالج موضوع العلم من خلال الجانب الإسلامي.
ويري صبرة ضرورة المحاولة الجادة لتأريـخ العلم العربي في الحضارة الإسلامية التي تؤكـد علي التـناول المعرفي والمنهجي للعلـم العربي والإسـلامي ، كمـا يري أن الدين الإسـلامي أدخل ايديولوجـية جديدة بمطـالبات شاملة وعالمية وذلك ظهر خلال التوسع السريع للفتوحات الإسلامية والتي ظهرت نتائجه خلال التضخم الفكري الذي تركز في العديد من المراكز الثقافية، والتي عملت علي نشر الثقافة العلمـية ، كل هذا من أجل تنمية الفكر الثقافي والعلمي للمجتمع العربي الإسـلامي ، الذي يحـمل لنا إنتـاج غزير ومتنوع للعلم وذلك عبر الزمان من خلال العديد من الشروح والترجمات التي جعلت العربي يخطو خطوات إيجابية بفعل الإنجازات العلمية التي وضعت العلم منذ البداية في الطريق السليم نحو الهدف الكبير لفهم ظواهر الطبيعة.
وتنبع أهمية الموضوع من خلال: إدراك الأهمية القصوي للعلم في حياتنا وبناء حضارتنا المعاصرة ومعرفة الدراسـات التي تبصـرنا باستخــدام العلـم ومنهجـه في حيـز الإنسـانية خاصـة وإن الفلسفات والاتجـاهات الفكرية المتناقضة قد تتباين اليوم كما كانت بالأمس للتصور الفكري لمفهوم العلم .كما أن العلوم هي أكثر الظواهر تمثيلاً لحضور الإنسان كوجود عاقل في هذا الكون بأسره ، وهذه العلوم انتجت فكراً تقدمياً حضارياً علي مر العصور.
كما تكمن أهمية هذه الدراسة في توضيح أن المنهجية العلمية هي الحلقة المفقودة أو بمعني أدق هي الحلقة الباهتة التي يجب البحث عنها وإعادة ترميمها لكي تنبض لنا بالإشراق .و من هنا يبدو بيان مدي أهمية تطبيق نظرية للعلم نعيد بها تفسير محتواه المعرفي ، وإبراز قيمة وأهمية العلم في صنع الحضارة ومن أجل نهضة علمية مستقبلية يحمل لواءها أعلام العرب المعاصرين ومنهم عبدالحميد صبرة وأحمد فؤاد باشا وبيان محاولتهما عرض وتحليل لرؤية بعض رجال الفكر العربي المعاصر للعلم ومناهجه وأهدافه.
وجاءت أهم النتائج التي توصلت إليها الباحثة علي النحو التالي:
1ــ منهج العلم واحد بالنسبة لجميع العلوم ـ علي أساس أن كل ما يقبل التكذيب والإختبار والتفنيد علماً ،وهذا المنهج هو منهج المحاولة والخطأ.
2 ــ أكد صبرة علي أنه إذا كان منهج العلم واحد ، فإن هذا لا يعني عدم وجود فروق بين هذا العلم أو ذاك، ولكن يعني أنه يجب أن يكون هناك إتفاق حول الطريقة التي نتناول بها المشكلة.
3 ــ إن القول بوحدة المنهج بين علوم الطبيعة وعلم المجتمع لا يلغي خصوصية الظاهرة الإنسانية، ويجب الإعتراف بأن الإنسان كظاهرة ينبغي أن يكون لها علومها كأي ظاهرة موجودة في الكون، ولكن ينبغي في الوقت نفسه أن نعترف بخصوصية هذه الظاهرة حتي لا ننزلق في مستنقع النزعة العلمية المتطرفة، وهذه الخصوصية لا تمنع إمكانية تطبيق مناهج علوم الطبيعة علي علوم المجتمع.
4 ــ الحقيقة العلمية تفرض نفسها علي العقل، في أي مكان أو زمان بقوة المنطق والبرهان وحدها، أي أن هذه الحقيقة بطبيعتها عالمية، ولا مجال فيها للتفرقة القائمة علي أسس قومية.
5 ــ إن الكشوف الثورية هي التي تغير نظرة الإنسان إلي العالم، وإن كانت تقوم علي أنقاض النظريات القديمة، فهناك إذن عملية تصحيح مستمر لمسار المعرفة العلمية تتم بتكافل جهود العلماء وتنافسهم في السبق إلي كشوف علمية جديدة.
6 ــ لقد أثبت صبره أن أي حدث تاريخي سواء علي المستوي المكاني أو الزماني إلا وشغل موضعاً أو مركزاً خاصاً به، وفقاً للمعني الذي نعطيه للمعرفة العلمية التي نتوصل لها . وذلك من خلال نظرة المؤرخ للظروف والمعطيات التي تكسب الأحداث والوقائع التاريخية سمة محددة ،مع ملاحظة أن هذا الحدث أو تلك الواقعة محكومة بجهد الإنسان.
7ــ توصل أحمد فؤاد باشا من خلال نظرية العلم التي دعا إليها إلي بناء نسق كلي شامل يحفظ للعلوم الطبيعية موضوعيتها ، وتقدم نموذجاً شامل وأمثل بمطالب العلم المتجددة، وتعيد للتفكير العلمي طبيعته الحقه بوصفه بحثاً موضوعياً عن الحقيقة أينما وجدت.
8ــ المنهجية العلمية هي الهوية الحضارية والتمثيل العيني للإطار الثقافي العام المعني، فهي قابلة دوماً للتطوير تهدف إلي الوصول إلي معرفة علمية جديدة يستفيد منها الإنسان وتأتي لخدمة أغراضه.
وبناءً علي ما تقدم أمكن القول أن عبد الحميد صبـرة وأحمد فؤاد باشا بآرائهـما وأفكارهما يعـبران خــير تعبير عن فكر هذا العصر ، فقد اعـادوا للفلسفة دورها المنشـود الذي ينبغي عليها أن تقوم به، بعد أن ظن البعض أن الفلسفة والعلم لم يعد لهم دوراً في إصلاح المجتمع، ولكن ما أوضحه صبرة وباشا جدير بأن يؤكد لنا أن العلم والفلسفة سيظلان مقترنين بالإنسان وجوداً وعدماً.
وفي الختام؛ ما أحوجنا لمثل هذه الدراسات الفلسفية القيمة التي تصحح المفاهيم الخاطئة، وتضع النقاط علي الحروف، وتسهم في إثراء العقل والوجدان والفكر العربي وتدعم روافده الأصيله كما تسهم بفعالية في تغيير الواقع، وصنع مستقبل أفضل.
______________________
بقلم: د. خالد محسن
(نائب رئيس تحرير جريدة المساء)