ملفات

الأصول الاجتماعية للتربية (د.طلعت عبد الحميد-مصر)

 إذا كانت التربية عملية قديمة فإن الدراسة العلمية وفق مقاربات علم اجتماع التربية لم تبدأ إلا مع منتصف القرن العشرين. وعلم اجتماع التربية ينطلق مثل جميع العلوم وفق منطق العلم الذي يقوم على وحدة وتكامل المعرفة والتطبيق العملي لنتائج العلم، مما يتطلب إعداد المناهج الدراسية وفق آليات المنهج التكاملي الذي تعتمده وزارة التعليم في الصفوف الأولى من التعليم الأساسي.

والمفارقة أن الكليات التي تعد المعلمين مازالت تتبع آليات المواد الدراسية المنفصلة وفق رؤية وفلسفة محافظة ترى التغير انحراف في عالم سريع التغير ووفق منطق صوري يبتعد عن الواقع المعاش.

   ولذلك فإن المنهج التكاملي يجعلنا نرى أن الأصول الاجتماعية لا تنفصل عن الأصول الفلسفية والاقتصادية والإدارية والسياسية والأخلاقية والبيئية الأخرى للتربية، ولكن لاعتبارات عملية نتناول الأصول الاجتماعية للتربية في علاقتها بالأصول الأخرى.

     و إذا كانت التربية علم تطبيقي لنتائج ومداخل /مقاربات العلوم الأخرى مثل الزراعة والطب فإن أصول التربية (كمبحث علمي) تشير إلى النشاط الذي يستخدم المنهج العلمي في دراسة التربية في علاقاتها بالأنساق المجتمعية المختلفة مع الاستعانة بالعلوم التي تدرس تلك الأنساق حيث يشكل كل نسق منها أصلا من أصول التربية (أنساق/نظم وعلوم).

 وعلى سبيل المثال، يمكن دراسة عمليات الاستثمار، وآليات العرض والطلب، وتوزيع الناتج المحلي، والإنتاج والاستهلاك والادخار، وتقديرات عدد المواليد في عام معين كفوج يدخل في المنظومة التعليمية باعتباره أحد مدخلات المنظومة التعليمية. ويتم تتبع هذا الفوج للتنبؤ بنوعية نواتج تعلم هؤلاء كمخرجات للمنظومة التعليمية، وكذلك عمل خرائط توزيع الخدمات التعليمية في الدولة. كل هذا يتم من خلال مقاربات/مداخل ونتائج علم الاقتصاد واقتصاديات التعليم، مما يشكل أصل من أصول التربية(أصول اقتصادية).

     وكذلك يكون الحال عندما ندرس نمط وبنية وفلسفة وتوجهات المؤسسة التعليمية في عمليات اتخاذ القرارات و حل المشكلات وإدارة الأزمات وعلاقاتها بنمط الإدارة ومقاربات تكوين العاملين ومدى تمكينهم وتمكنهم الفكري والنفسي والمهاري في القيام بأدوارهم في إدارة التنوع الثقافي أو المنظومة الإدارية. إذ أننا نلجأ للأصول الإدارية للتربية التي ترى الإدارة ليس كعملية فنية فقط وفق علم الإدارة، بل عملية مجتمعية. وبالتالي لا تقف عند حد معرفة عمليات اتخاذ القرارات وإدارة الأزمات بالقوانين والقرارات الصادرة وفق تراتبية وهرمية التنظيم الرسمي بمعزل عن التنظيم غير الرسمي وجماعات الضغط وجماعات المصالح. حتى صناعة القرارات تتطلب معرفة اتجاهات وايدولوجية القائمين على صناعته والسياق المجتمعي بصفة عامة والعادات والأعراف والتقاليد الاجتماعية بصفة خاصة، مما يدل على أن العمليات الإدارية تتشابك وتتداخل في تشكيلها معظم الأبعاد الاقتصادية الاجتماعية الثقافية السياسية.

      وعندما نتناول الأصول الاجتماعية الآن من خلال علم اجتماع التربية فإننا نجد نظريات عديدة مثل البنائية الوظيفية ونظرية رأس المال البشري، ونظرية التطور، وتحليل النظم. و هي نظريات تقوم على الاتفاق العام، وأن المدرسة محايدة بطريقة رشيدة في انتقاء الطلاب وفقا للجدارة والاستحقاق، وتقوم بإعداد القوى العاملة، وتحديث المجتمع.

 وفي المقابل نجد نظريات أخرى مثل نظرية الاقتصاد السياسي التي ترى ان التربية أداة في يد الطبقة المسيطرة وصممت المدارس لخدمة مصالح تلك الطبقة وفقا للمنهج الخفي غير المعلن عنه الذي تجسده العلاقات الهرمية وقيم الطاعة والولاء والمثابرة (وفقا لبولز وجنتس).

      ونجد أيضا نظرية الرأسمال الثقافي التى ترى أن وظيفة المدرسة المحافظة على الوضع القائم الطبقي عن طريق المنهج الخفي/القيم الضمنية غير المعلن عنها، والثقافة السائدة في المدرسة(وفقا لبوردييه،وباسرون).

 أصول التربية كواقع اجتماعي

 يتجسد هذا الواقع في الانساق/النظم المجتمعية المختلفة الاقتصادية/الاجتماعية/ الفلسفية/ البيئية/الإدارية/السياسية/الثقافية/الأخلاقية/العقائدية.

 وندرس هذه الأنساق حاليا من خلال العلوم الأكثر ارتباطا بكل نظام مثل النظام الاجتماعي الذي ندرسه من خلال علم اجتماع التربية، والنظام الاقتصادي الذي ندرسه من خلال اقتصاديات التعليم. وهذا يعني أن الأصول الاجتماعية تدرس علاقة النظم المختلفة بالتربية،كما تدرس القضايا والمشكلات والعمليات داخل المنظومة التربوية ومؤسساتها (الرسميةالنظامية) مثل المدارس والجامعات، و(غير النظامية) مثل دور العبادة والأندية والأحزاب، و(العرضية)مثل الأسرة والإعلام،

ويتفق بعض الباحثين على ضرورة معرفة الإطار التفسيري الفلسفي الذي يمكن تصنيف النظريات وفقا له(برادايم)، ومنهم بولستن الذي يجمع بعض النظريات وفقا لاتجاه محافظ/ وظيفي ،ونظريات أخرى وفقا للاتجاه الراديكالي.

خطوات الدراسة:

أولًا: الدراسة العلمية لتربية الإنسان في المجتمع من خلال علم اجتماع التربية.

ثانيًا: النماذج التفسيرية (Paradigms) القديمة

ثالثًا: أزمة النماذج التفسيرية القديمة

رابعًا: النماذج التفسيرية الجديدة

خامسًا: الخاتمة

أولًا: الدراسة العلمية لتربية الإنسان في المجتمع من خلال علم اجتماع التربية

    على الرغم من أن التربية عملية قديمة قدم الجماعات البشرية، إلا أنها لم تخضع لأساليب المنهج العلمي في الدراسة بصورة دقيقة إلا مع بدايات القرن العشرين، وإن سبقتها محاولات متفرقة قبل ذلك سبقت وجود علم اجتماع التربية.

وأصول التربية كواقع اجتماعي يتجسد في الأنساق الاجتماعي المختلفة (الفلسفي، والإيكولوجي، والاقتصادي، والسياسي، والقرابي، والترويحي، والثقافي والتربوي والعقائدي والضبط الاجتماعي).

أما أصول التربية كمبحث فهي النشاط الذي يستخدم المنهج العلمي في دراسة التربية في علاقتها بالأنساق المجتمعية المختلفة مع الاستعانة بالعلوم المختلفة التي تدرس تلك الأنساق حيث يشكل كل نسق منها أصلًا من أصول التربية . وتجري هذه الدراسة في سياق مبحث الأصول الاجتماعية للتربية من خلال علم اجتماع التربية، وهو فرع من فروع علم الاجتماع حيث تستخدم مقولات النماذج التفسيرية في هذا العلم من أجل الفهم والتحليل والتفسير والتحكم في عملية التربية باعتبارها عملية مجتمعية.

    وقد شهدت الدراسة العلمية للتربية اتجاهات وتيارات عديدة منها ما يرى أن التربية تسهم في استمرار المجتمع من خلال المحافظة على ثقافته ونقلها من جيل إلى آخر، بينما نجد اتجاهًا آخر يدرس التربية باعتبارها هي الحياة وليست مهمتها الإعداد للمستقبل فقط. ومنها من اهتم بدراسة علاقة التربية بالقيم، وآخر يدرس التربية باعتبارها علم تطبيقي من خلال ما عرف بعلم الاجتماع التربوي حيث يدرس المفاهيم الاجتماعية ويستخدم المقاييس النفسية لاكتشاف وتحديد قدرات التلاميذ.

كما ساد اتجاهان رئيسان في علم اجتماع التربية الأول وظيفي بنائي (اتجاه التوازن) والثاني راديكالي (اتجاه الصراع). فالأول يرى أن التعليم هو المحدد الرئيسي لمستوى الوظيفة والدخل والمكانة للفرد بينما الثاني يرى أن التعليم عامل واحد من بين مجموعة من العوامل مثل اللون والجنس وسمات الشخصية والمستوى الاجتماعي الاقتصادي، جميعها تشترك مع التعليم في تحديد مستوى الوظيفة والدخل والمكانة.وبالتالي فإن الاتجاه الأول يرى أن التعليم يؤدي إلى الحراك الاجتماعي بينما يرى الاتجاه الثاني أن التعليم وسيلة لإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية ومن ثم يعمل على تحقيق الثبات الاجتماعي .

    ونتيجة لظهور علم اجتماع التربية الجديد ظهرت اتجاهات مختلفة بعضها نابع من النماذج القديمة ومستمر مع تنويعات بسيطة أو عميقة في التناول وبعضها يعتبر جديدًا في تناول للعلاقة بين التربية والمجتمع. إلا أن هذا وذاك يؤكدان على تراكمية العلم ونسبيته من جهة وتطوره من جهة أخرى وسوف تشير الدراسة إلى النماذج التفسيرية القديمة والجديدة في صفحات قادمة.

ثانيًا: النماذج التفسيرية القديمة

(2 – 1) مدى تبعية التربية لمن يملك السلطة

تركز الماركسية الكلاسيكية على أن قوى الإنتاج وعلاقاته تشكل البناء المادي الذي ينهض عليه البناء الفوقي للمجتمع متمثلًا في التقاليد والأعراف والقوانين والفلسفات والاتجاهات التربوية. وهذا يعني أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي، وأن هذا التحديد ليس ميكانيكيًا لوجود علاقات التأثير والتأثر بينهما.

كما تركز على أن الدولة الحديثة تتدخل لصناعة العقول وتشكيل وضبط وعي الناس ضبطًا يتفق مع مصالح من يملك السلطة، ومن هنا فالتعليم يُعد سلاحًا تقف نتيجته على من يمسك به، وعلى من يضرب به فقد يكون هذا التعليم أداة للقهر أو أداة لتحرير الإنسان. وكان ينظر إلى تعليم الجماهير على أنه يثير القلق والتذمر لذلك كان يظل هؤلاء أميين ضمانًا لسلام من يملك الثروة أو السلطة.

ولكن مع تقدم أساليب الإنتاج احتاجت الدولة الرأسمالية إلى العمالة المتعلمة ضمانًا لإنتاج يتسم بالمهارة العالية مما صاحبه نشر التعليم، ولكن صاحب هذا غرس قيم وصفات الطاعة والانقياد. كما كان نشر التعليم يتم بالقدر الذي يرى الرأسماليون أنه يوائم مصالحهم، فمن الممكن تقليل أعداد المتعلمين طالما أن أبناءهم لن يمسهم هذا التقليل تحت دعوى ربط التعليم باحتياجات سوق العمل مختزلين وظيفة التعليم في الجانب الاقتصادي فقط خاصةً في مراحله العيا مثال (توسع محمد علي في مصر في فتح المدارس لخدمة مشروعاته، ولكن عندما ضرب مشروعه التنموي أغلقت المدارس) وهذا يدل على أن التعليم ليس أداة محايدة بل إنه يوظف في خدمة أصحاب رؤوس الأموال ومن يملكون السلطة. كما يدل أيضًا على أن التعليم في محصلته النهائية عملية سياسية.

ويقول لينين في هذا الصدد “أن التربية التي لا تتصل بالسياسة تعد أكذوبة”، وهنا يتكامل عمل التعليم النظامي مع التعليم غير النظامي ووسائطه المختلفة حيث التكامل والتوجية الإيديولوجي في كافة الوسائط التربوية، فما يتم من تلقينه من قيم في المدرسة يتم نشره في وسائل الإعلام.

(2 – 2) مدى إسهام التعليم في الحراك الاجتماعي

تهدف البنائية الوظيفية إلى الكشف عن الدور الذي يؤديه الجزء في البنية الاجتماعية. والكشف عن كيفية إسهام أجزاء النسق في تحقيق استمرارية وتكامل النسق الأكبر (التربية نسق فرعي Subsystem للنسق الكبير المجتمع).

ولكي تعمل الأنساق الفرعية في تواؤم وانسجام تحقيقًا للتوازن ودرءًا للصراع؛ فإنه يجب أن يتم الاتفاق العام بين الأفراد في المجتمع مؤسسًا على معايير ومصالح عامة لجميع أفراد المجتمع وإذا فشل النظام التعليمي أو النظام الاقتصادي فإن هذا يؤثر في وجود النسق الكبير (المجتمع). وهذا الفشل يرجع إلى فشل الأفراد وعدم تكيفهم أثناء القيام بأدوارهم أو نتيجة لتصدع القيم Anomy الذي يرجع بدوره إلى افتقار الضبط الفعال لسلوك الجماعات ولا يرجع إلى الأسس التي يقوم عليها المجتمع أو وجهته الإيديولوجية.

ونظرًا لأن التضامن والإجماع القيمي هما ما يستظل بهما المجتمع من أجل تحقيق توازنه، فإن الدولة تقوم من أجل تحقيق المصالح المشتركة لأفرادها بإصدار القواعد القانونية التي تضمن خضوع الأفراد لتلك القواعد للوفاء بمقتضيات المصالح المشتركة بين أفراد المجتمع وهنا يكون القبول طوعًا من جانب الأفراد، فيتحتم على أولياء الأمور قبول معايير الاختيار والتصنيف والاستبعاد من المدارس لأبنائهم نظرًا لكون هذه المعايير مقبولة طوعًا لا قهرًا. و بذلك فإن أبناءهم المستبعدين قد تم استبعادهم نتيجة لفشلهم الفردي على أسس موضوعية علمية كالامتحانات ومعايير القبول المنحازة أو المناهج، وما تحمله من قيم صريحة أو مستترة أو المعاملات والعلاقات التي تتم داخل المدرسة أو ظروفهم وموقعهم الطبقي الذي يحكم عليهم بهذا الاستبعاد مثل الدروس الخصوصية التي لا يقدر عليها إلا من يملك الثروة وليست القدرة والاستعداد العقلي.

إذن و وفقًا لهذا المنظور، فالدولة ومؤسساتها (مثل المدارس) تعمل على تحقيق المصالح المشتركة؛ وبالتالي فإن التربية تعد عملية محايدة وهى عبارة عن التأثير الذي تمارسه الأجيال الأكبر سنًا على الأصغر سنًا بهدف إيقاظ وتنمية كافة القدرات لإعداد الصغير للحياة في المجتمع، وعلى الفرد ألا يفشل في الحصول على الفرص التعليمية المتاحة حتى يتسنى له الترقي والحراك الاجتماعي من طبقته إلى الطبقة الأعلى بقدر ما يحصل عليه من سنوات التعليم (التمدرس Schooling)، ذلك لأن التعليم يزيد من دخله وهذا بدوره يجعله يتمتع بمكانة عالية في المجتمع .

وبناء على ذلك فالتعليم يعمل على ترقي الأفراد وترقية المجتمع، إذن فالتعليم يقود المجتمع إلى التقدم حيث تسود معايير الجدارة والاستحقاق وليست معايير التمييز على أساس الدين أو الجنس أو المستوى (الاجتماعي الاقتصادي). و بذلك فالقدرات العقلية هي التي تجعل الفرد جديرًا ومستحقًا لدخله ومكانته في السلم الاجتماعي، وبناء على ذلك يتقبل الأفراد تميزهم أو فشلهم طوعًا لذلك لأن الفشل أو النجاح مسئولية فردية.

ثالثًا: أزمة النماذج التفسيرية القديمة

(3 – 1) ووفقًا لما سبق فإن الماركسيين عندما يؤكدون على تبعية التربية لمن يملك السلطة في المجتمع؛ فإن هذا يعني أنهم إذا أرادوا جعل التربية أداة للتقدم والحراك الاجتماعي وللتحرر لفعلوا، وإن أرادوا العكس لفعلوا.

وفي المقابل نجد أنصار البنائية الوظيفية من خلال نظرتهم للدولة باعتبارها كيانًا يمثل كافة المصالح، يعتبرون أنه من المنطقي أن تعكس التربية المدرسية أ مجمل المصالح، ومن ثم فهي في موقع حيادي تابع لطبيعة الدولة المحايدة بين مختلف المصالح، وبالتالي فإنها تعمل على تدعيم العقل الجمعي والضمير الجمعي.

(3 – 2) إن كلا التجاهين (التوازن والصراع)، أو أنصار البنائية الوظيفية والماركسيون تناولوا التربية بصفة عامة، والنظامية منها بصفة خاصة، باعتبارها صندوقُا أسود لا يتطرق النظر إلى ما بداخله بشكل جوهري أي أنها لم تتطرق لدراسة محتوى المناهج الظاهر منها والمستتر بشكل تفصيلي وما يتضمنه من قيم واتجاهات، كما أن الماركسيين القدامى، وإن كانوا يعتقدون في حتمية تأثير بنية اللاقات الاجتماعية والاقتصادية ونمط الإنتاج وعلاقاته والملكية على وعي الأفراد، فإنهم لم يدرسوا بشكل موسع تأثير الرأسمال الثقافي (والتعليم مكون أساسي منه) على فرص الحصول على الرأسمال الاقتصادي، كما أن كلا الاتجاهين (الصراع والتوازن) افترضا الأثر الإيجابي للتعليم على المتعلمين والقبول والإذعان لما تقدمه المدارس كما إنهما لم يدرسا بشكل مفصل تأثير الثقافات الفرعية والقوى المعارضة للهيمنة التي تفرضها المدرسة بأساليبها معاملاتها.

(3 – 3) كان هناك ثمة إغفال للبعد العالمي المتسلل لفلسفة وسياسات التعليم المتجاوز للمجتمع المحلي.

(3 – 4) وفي الغرب الرأسمالي، حيث الاتجاه الوظيفي الذي يعتبر العلم الطبيعي هو النموذج الذي يجب أن يحتذى به في العلوم الإنسانية، يؤدي استخدام الملاحظة والإحصاء إلى تسييد الاتجاه الكمي في دراسة الظواهر الاجتماعية، والتي تضمن الحياد والموضوعية المنزهة عن الذاتية حيث دعمت هذا الاتجاه الهيئات والمؤسسات الدولية العالمية، وكذلك رجال الصناعة.

ومنذ الخمسينيات والستينيات حيث تقدم الصناعة وتنوع مؤسسات المجتمع وظهور مشكلات اجتماعية وتربوية وعلمية، هيمن الاتجاه الوظيفي بمناهجه الوضعية وارتبطت هيمنته بالرأسمالية، مع تفجر الحركات الطلابية والجماهيرية في الستينيات مثل حركة الحقوق المدنية التي طالبت بالمساواة وأزمة الصواريخ الكوبية، والحرب الباردة، وحرب فيتنام وما أثارته من حركات مناهضة للتدخل الأمريكي ومشروع “كامليوت” وتفوق السوفيت في إطلاق أول قمر صناعي في العالم . كل هذا ساهم في تفجير صراع اجتماعي، وباتت حقيقة التغير والصراع تقاوم تنظيرات ومسلمات الوظيفية ذات المناهج الوضعية، وهذا أثار وعيًا جديدًا في المجال التربوي بمشكلات الفقر والبطالة والعنصرية والاغتراب والجريمة وتشككًا في إدعاءات الإصلاح التربوي بتحقيق العدل الاجتماعي والإصلاح الاقتصادي.

وبدأت أبحاث إمبريقية تشير إلى العلاقات بين التربية المدرسية ومستوى أداء العمل و هي علاقات غير وطيدة وذلك على عكس ما تدعيه الوظيفية. كما و أن التدريب والتعليم يستفاد منهما في خبرة العمل أكثر مما يستفاد منهما من خلال التعليم المدرسي. كما وأن الخلفية الاجتماعية الاقتصادية لها أثر واضح في التحصيل المدرسي، وليست المسألة خالصة وخاصة بالقدرات العقلية فقط، بل إن التربية عملية فنية واجتماعية . هذا أسهم في ظهور اتجاهات جديدة في علم اجتماع التربية في الغرب تعالج قضايا التربية في المجتمع من خلال رؤى جديدة.

رابعًا: النماذج التفسيرية الجديدة

(4 – 1) إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية عن طريق العنف الثقافي:

نجد في نظرية الرأسمال الثقافي لكل من “Passeron et Bourdieu بوردييه، وبارسون” امتدادًا مع “إنجلز” في مقولته التي ترى أن السلطة العامة تعد قوة اقتصادية تستطيع أن تفرض أشكالًا من العنف، وتمارسه عن طريقها. و لكنهما يختلفان مع “ماركس” الذي كان يرى أن رأس المال والاقتصاد هما محورا الصراع التاريخي بين الطبقات. فنجدهما يقرران أن الصراع أصبح إيديولوجيًا محوره رأس المال الثقافي، عن طريق قيام المؤسسات التربوية بعملية انتقاء جماعي وتلقين محتوى ثقافي مؤسس على معايير ثقافية للطبقة المسيطرة، وتظهر هذه المعايير على أنها معايير فنية خالصة (سياسات القبول – الامتحانات – معايير النجاح والرسوب هذا بالإضافة إلى العنف الثقافي اللغوي بصفة خاصة – الذي يفرضه المعلم أثناء عمليات الاتصال التربوي بالإضافة إلى عمليات التلقين).

و نجد في الوقت نفسه أن الأفراد المزودين بخصائص شخصية مكتسبة نتيجة انتماءاتهم الطبقية هم الجديرون باكتساب السمات الأساسية للنجاح التربوي في المدرسة.

ويرى ” بوردييه ” أن النظام التعليمي يطلب من طلابه ما لم يعطهم إياه، فالتدريبات التي تقدمها المدرسة لا يتم استيعابها بشكل كامل إلا من قبل هؤلاء الذين نالوا من قبل مثل هذه التدريبات، بمعنى أن من يملك رأسمالًا ثقافيًا يستطيع أن يضيف إلى رأٍ سمال ثقافي جديد، فيتنامى بذلك رصيده، هذا يعني أيضًا أن من رسبوا أو تسربوا من المدرسة قد استبعدوا أنفسهم قبل الامتحانات، ويعني أيضًا أن المؤسسات التربوية تسهم في توليد علاقات القوة الراهنة وهذا التوليد يعد وظيفة لعمليتين الأولى عملية فرض معاني ثقافية بيعنها، والثانية تحديد محتوى المعاني الثقافية وتوزيعها على طلابها المختلفين طبقيًا.

ويتفق مع هذا التوجه دراسات “Boudelot et Establet بودلو وإستابليه” عن المدرسة الرأسمالية في فرنسا. وهذا يعني أن استمرار سيطرة طبقة ما على بقية طبقات المجتمع يظل رهنًا بقدرة هذه الطبقة على ما تملكه من رأس مال اقتصادي ورأس مال ثقافي رمزي يمكن لهذا الأخير بدوره أن يتحول إلى رأس مال اقتصادي من خلال سوق العمل .

ويتفق مع هذا أن الخلفية الاجتماعية الثقافية للآباء لها الدور الرئيسي في النجاح المدرسي للأبناء من خلال تتبع حساب التمثيل النسبي للطبقات داخل المدارس في المجتمع الفرنسي .

(4 – 2) تكوين الشخصية المتكيفة مع التقسيم الاجتماعي للعمل:

في إطار نظرية إعادة الإنتاج تندرج تحليلات “Ginits & S. Bowels صموئيل بولز وهربرت جينتس” حيث يؤكدان على أن الاقتصاد هو المتحكم في التعليم، وأن العلاقات الاقتصادية لها شبيه بالعلاقات المدرسة، فإذا كان الاقتصاد هو اقتصاد الرأسمالية المستغلة، فسوف تجد أن العلاقات في المدرسة تتسم بالاستغلال .

وهما يؤكدان على أن التعليم مهمته الأساسية إنتاج أنماط من الوعي والقيم والسلوك تتراوح يين الاغتراب والمسايرة والنمطية، حتى يسهل استغلالهم وخضوعهم للقيم الهرمية الموجدة في سوق العمل الرأسمالي مع تزويدهم بقدر من المهارات الفنية والقيم التي تجعلهم في وضع يتقبلون به استغلالهم وحرمانهم وإلا تعرضوا لشبح البطالة .

ويرى كل من “بولز وجنتس” أن التربية تعكس دائمًا التركيبة الاجتماعية في أي مجتمع، وتساعد على استمرار هذه التركيبة والمحافظة عليها، وأن المدرسة هي الأداة التي تحقق هذا الهدف وصممت لتخدم مصالح الطبقة الرأسمالية السائدة من خلال تشكيل شخصية الفرد تشكيلًا يتفق مع نمط الحياة السائدة في المجتمع بصفة عامة، وفي سوق العمل بصفة خاصة. وتجلي هذا في بنية التنظيم الاجتماعي للمدرسة أي في شكل العلاقات الاجتماعية الهرمية داخل المدرسة، بين المدير والمرس، وبين المدرس والتلميذ، وبين التلميذ وعمله وكذلك في بنية الثواب والعقاب المتمثل في الدرجات المدرسية، ونظم الامتحانات و في مجمل هذا المناخ الذي يتسم بالقهر، لابد أن يغرس قيم مطلوبة لنظام العمل في النظام الرأسمالي مثل الطاعة والولاء والتنافس والمثابرة والامتثال . أما مسألة المهارات المطلوبة لسوق العمل فإن اكتسابها ربما يتم بصورة أفضل في مواقع العمل وفي عدد سنوات أقل من عدد سنوات التمدرس. كما أجريا دراسة على عينة مكونة من 237 طالبة في السنة النهائية في مدرسة نيويورك العليا، وتوصلا إلى أن الدرجات المتدنية للطلاب سببها أن أصحابها يتمتعون بنوع من الإبداع الحر والاستقلالية كسمة من سمات الشخصية، والتي لا تجد قبولًا من جانب المعايير المدرسية وهذه السمات مرتبطة بسمات أخرى تؤدي إلى انخفاض تقديراتهم وتجعلهم في وضع معاقبة أكاديمية، أما السمات الشخصية المثلى للتقديرات العيا فكان محورها التبعية والخضوع لنمط السلطة، وجدير بالذكر أن هذه الدراسات تمت باستخدام مقاييس الإبداع والقدرة والاستقلالية على إصدار الأحكام وتقييم الأمور وهذا جعلهما يرفضان فكرة أن النظام التعليمي الرأسمالي يعمل على تطوير المواهب والقدرات ولكنه يعمل على تعويق عملية تطوير الشخصية و منع التلاميذ من تحقيق ذاتيتهم .

(4 – 3) إسقاط الوعي الجماعي في الفرد

يمكن تناول هذه المسألة من خلال علم اجتماع المعرفة، باعتباره فرعًا من فروع علم الاجتماع كما يمكن اعتباره نظرية من جانب وبحثًا من جانب آخر، فهو كنظرية تحلل العلاقة بين المعرفة والوجود، وكبحث تاريخي فهو يتعقب الأشكال التي اتخذتها هذه العلاقة خلال تطور الفكر البشري.

وهذا العلم يدرس العلاقات الوظيفية التي تنشأ بين أنواع المعرفة وأشكالها وأنساقها من جانب، والأطر الاجتماعية والمجتمعات والطبقات الاجتماعية والجماعات والعلاقات الميكروسوسيولوجية من جانب آخر.

إذن فإن سوسيولوجيا المعرفة ما هي إلا عملية فحص مستمر للمواقف الاجتماعية للأشخاص من أجل جعل المعرفة ممكنة، فهي تعكس أنا الاهتمامات الاجتماعية والتصورات الرمزية للبناء الاجتماعي كما أن علم اجتماع المعرفة لا يعترف بالأحكام المعرفية الشاملة المطلقة . و لأنها متعلقة بإطار مرجعي متطابق مع أطر اجتماعية، فإنها تسلم بالمعارف الجماعية المتصلة جدليًا بالمعارف الفردية، و لذلك فإن كان لابد من الاعتراف بالمعارف الجماعية القائمة على أحكام جماعية فيجب الاعتراف بالتجارب والحدوس الفردية والوعي المنفتح حيث أن كل وعي ملتزم بجدلية “الأنا، الآخر، والنحن”.

فالتفكير لا معنى له إلا عند مناقشة “المع والضد” ومجابهة الحجج أي الحوار حيث إسقاط الجماعي في الفردي، ومن هنا فإن المعرفة التقنية والمعرفة السياسية تحتلان المكانة الأولى في المجتمعات المعاصرة، حيث أن المعرفة الإدراكية للعالم الخارجي وكذلك المعرف العلمية والفلسفية تجد نفسها مقننة أو مسيسة إلى حد كبير

ومثال على ذلك وجود نظريات في التنمية تدعو إلى محاكاة الدول المتقدمة مما أثر على الوعي في الدول المتخلفة سلبًا، لأن هذه النظرية لم تراع الظروف الخاصة بكل مجتمع.

ومن الآراء العلمية ما يدعو إلى مكافحة الفقر والتخلف بمجرد تحديد النسل وليس شيئًا آخر على الرغم من أن المشكلة ربما تعود إلى السياسات الاجتماعية أو إلى أن زيادة عد أفراد الأسرة، هو نتيجة للفقر والجهل والمرض وليس العكس، وهذا يدل على أن الوعي الفردي يستدخل الوعي الجماعي (لعلمي والفلسفي) لتحقيق أهداف سياسية.

ومن ناحية أخرى نجد التأكيد على أن كل ما هو نفسي هو اجتماعي المنشأ من خلال الاتجاه الفينومينولوجي الذي يرجع في أصوله إلى فلسفة الظواهر التي قدمها “إدموند هوسرل” حيث يرتكز تحليله على تصورات الأفراد وخبراتهم المعاشة في حياتهم اليومية، وكذلك يدرس وعي الأفراد بالعالم بالعالم المحيط بهم، وهذا الاتجاه يعتبر امتدادا لبعض القضايا التي طورها “ماكس فيبر” عالم الاجتماع الألماني.

كما تعتبر تيارًا نقديًا لعلم الاجتماع المحافظ بتوجهه الوضعي، ذلك لأن هذا الاتجاه يعارض الاتجاه الكمي ونزعة التجريد بل يتجه إلى دراسة الحياة اليومية، ودراسة علاقات التفاعل بين الأفراد من وجهة نظر الأفراد أنفسهم، كما أن مهمة هذا الاتجاه هي تفسير الوعي من خلال اللغة (لغة الحياة اليومية)، ومن أجل وصف الأشياء والظواهر والوعي والسياسات. فالفلسفة الظاهرية لا تعنى بدراسة ظاهر الأشياء وإنما تعنى بدراسة الظواهر من زواية وعي الفرد بهذه الظواهر، وتقوم هذه الفلسفة على أساس أننا لا نعرف العالم في ذاته ولكن نعرفه كظواهر تتجلى لوعينا به .

كما أن “شوتز” يرى أن المعرفة مشروطة اجتماعيًا، وأن كل فرد لا يملك خبرة فردية خالصة بل إن كل نخبة أساسها اجتماعي، لهذا فهو يرى أن الفينومينولوجيا هي علم النفس الاجتماعي للمعرفة، ويرى أن الفعل الإنساني يشيد داخل العالم الحقيقي عن طريق الفاعلين. نحن نستطيع فهمه عن طريق الفاعلين أنفسهم، فتفسر الإحساس العام لعالم الحياة اليومية يكمل بناء الفكر الموضوعي الذي وصل إليه العلماء.

فالعالم الاجتماعي يدرس السلوك الاجتماعي وذلك عن طريق تفسير المعاني الذاتية التي توجد في مقاصد الأفراد . وبالتالي فإذا أردنا فهم التربية فعلينا أن نبدأ من تأمل الحياة الجارية.

(4 -4) المنهج المدرسي يعكس نمط وعي ومصالح الطبقة المهنية في المجتمع

نتناول هذه المسألة من خلال ما يسمى بالاتجاه النقدي أو مدرسة فرانكفورت أو معهد فرانكفورت بألمانيا. هذا الاتجاه مثل معظم الاتجاهات نشأ نتيجة التناقضات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات الصناعية، حيث جاءت حركات الحقوق الإنسانية والانتفاضات الطلابية التى اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة خلال فترة الستينيات، وجذورها الفكرية تمتد إلى أعمال “هيجل” و “كنط”

و “ماركس” و “بوريكور”. ويمكن اعتبار هذ الاتجاه بمثابة نشاط نقدي يرى أن المجتمع ليس مجرد مقولة حيادية (كما تدعي الوضعية) بل إن المجتمع يجب أن يستند إلى فهم عميق للتناقضات الكامنة طيه، لذلك فإن الأسالب الإمبريقية عجزت عن إدراكه، وبالتالي فهي تعتمد نقد النظم والأوضاع القائمة، واختراق عالم الأشياء بحيث يمكن الكشف عن العلاقات الكامنة خلفها وهذا الاتجاه ينطلق من فرضية مؤداها أن التحليل والتفسير لا ينبغي أن يقف عند حد الظواهر – كما تتجلى للباحث – مجزأة في نقطة زمنية راهنة، لكن الفهم النقدي يسعى إلى متابعة الظاهرة من خلال بعدي الزمان المكان بالإضافة إلى التوظيف الاجتماعي لأي نشاط إنساني، معرفة كانت أو ممارسة .

وهذا لا يتأتى إلا من خلال نموذجين؛ الأول يتضمن فهم مجموعة القواعد العامة التي تنطبق على أي شخص وهذه العملية تعتمد على موضوعات تعتبر موضوعية مثل العبارات في اللغة والاستبصارات المعرفية. والثاني فيضم التحليل النقدي لتشكيل الشخصية أو الذات الجمعية وهذا التحليل يسعى إلى القضاء على التزييف للوعي وتحرير الإنسان من الأوهام .

ويطبق مايكل أبل M. Apple هذا المنهج على المنهج الدراسي حيث يقرر أنه عبارة عن كيان أيديولوجي يخدم مصالح وتوجهات سياسية واقتصادية واجتماعية. و حيث توجد علاقة جدلية (أي علاقات تبعية متبادلة) بين الأفكار والمعاني والتصورات والعلاقات الاجتماعي التي تسود في الفصل وفي المنهج المدرسي من ناحية وبين نمط الوعي ومصالح الطبقة المسيطرة من الناحية الأخرى. و يأتي التقويم لفرز وتصنيف الطلاب وتوزيعهم على المجالات والمستويات الدراسية، ومن ثم يساعد على بناء تقسيم اجتماعي للعمل يدعم استمرارية تراكم رأس المال والتصنيف الطبقي في المجتمع.وهذا يعني أن المعرفة المتضمنة في المناهج الدراسية ليست محايدة بل تعمل على إضفاء الشرعية المستخلصة من إجراء التحقيق أو التكذيب، كما أنها تفرض تشيؤ المعرفة واعتبارها كيانًا مفارقًا للفعل الإنساني أو مجاوزًا له. وبالتالي فإن معيار الصدق للمباديء لا يمكن إرجاعه إلى الواقع الاجتماعي الحالي لأن هذه المبادىء لا تنطوي على إمكانية واقع اجتماعي مغاير للواقع الحالي. وتهتم هذه الدراسة بالنقد الجدلي الذاتي وإعادة تكوين البناء النظري السائد فهي تدعي أن المدرسة تعمل على بث مجموعة من التصورات والمبادىء والمفاهيم الخاصة بالطبقة المسيطرة، وتعمل في نفس الوقت على محو أفكار وتصورات الطبقات الأخرى أي أنها تعمل على محاصرة التفكير السياسي للمواطنين المغايرين لاتجاه الطبقة المسيطرة .

(4 – 5) التعليم الحواري ممارسة إنسانية من أجل الحرية

يفرق باولوفريري فيلسوف التربية البرازيلي بين التعليم البنكي والتعليم الحواري، الأول يقوم على الحفظ والاستذكار كأن المدرس يودع مجموعة من المعلومات في بنك يستردها في وقت الامتحان، وهذا يفترض أن المعرفة ثابتة يمتلكها المدرس وعلى الطالب أن يتلقاها من المدرس الذي يلقنه إياها وعملية التلقين هذه أو التعليم البنكي تسلب المتعلم ذاتيته وحريته وتجعله مجرد تابع ومقهور، عليه أن يتقبل ما يفرض عليه من معايير وقيم المستعمر، حيث تمثلت هذه النخب تلك القيم وتعبر عنها وتسيدها في هذا النوع من التعليم البنكي/التلقيني.

هل هذا يعني أننا نعيش في خضم حضارة القهر؟ التي من أهم آثارها سيادة ثقافة الصمت – حيث لا حوار – وهذا الصمت المقهور وليد علاقة التبعية بين دول المركز-الرأسمالي الغني ودول الهامش الفقير، وفي هذا الموقف نجد أن القاهر والصامت المقهور حياتهما مسلوبة، حيث لا تتحقق إنسانيتهما إلا بالحوار بوصفه الموصل الجيد لممارسة العمل الاجتماعي.

وإذا كان الحوار ظاهرة إنسانية، فالكلمة الصادقة بوصفها تفكير وعمل وممارسة هي التي يمكن أن تغير العالم، والحوار ضروري حيث يجتمع الفكر والعمل، وإدراك العلم، والعمل على تغييره من خلال كل الناس دون استعلاء أو استئثار من أحد، ومن أهم شروط الحوار الأمل بوصفه دافعًا لتحقيق الأهداف، والثقة في قدرة الإنسان على الإبداع.

وبالتالي فهو يرى أن التربية ذات طبيعة سياسية، أن التعليم الحواري يجب أن يكون بين المعلم والمتعلم، وبين القيادة والجماهير أيضًا من أجل نقد الواقع وإعادة تشكيله. فالتعليم بصفة عامة وتعليم الكبار بصفة خاصة عبارة عن عمل ثقافي سياسي شعبي من أجل الحرية، وليس مجرد فنيات تربوية فقط، وبالتالي فإن محو الأمية يجب ألا يقتصر على تعلم مهارات القراءة والكتابة، ولكنه عمل سياسي يرتبط بالإنتاج والصحة وخطط المجتمع للتقدم .

ويجب أن يسود النقد الدائم وفهم الحياة والمشاركة فيها عن طريق التدريب على حل المشكلات مع المنسق أو المعلم ، ومن هنا يصبح التعليم ممارسة إنسانية من أجل الحرية، حيث أنه في التعليم الحواري لا يوجد معلم ومتعلم بل بالأحرى المتعلم يعرف شيئًا في الزراعة مثلا لا يعرفه المعلم، والمعلم يعرف شيئا في الفيزياء لا يعرفه المتعلم، فيتم بذلك تبادل الخبرات استنادًا إلى الحوار الذي لا يتوقف حيث لا تتوقف عملية التعلم إلا بالموت.

(4 – 6) المدرسة تفرض التبعية للنظام العالمي الجديد

يتبنى “كارنوي Martin Carnoy” منظور العلاقات الدولية من خلال مدخل سوسيولوجي يبين فيه حالة التعليم في بعض الدول الإفريقية التي كانت خاضعة للاحتلال بالإضافة إلى الهند والبرازيل وبيرو، ويبين الدور الإمبريالي الذي تقوم به الولايات المتحدة في العالم من خلال سياسات الإصلاح التعليمي والضبط الاجتماعي منذ عام 1830 حتى عام 1970 مستخدمًا الشواهد والمعلومات التاريخية في تحليلاته .

وينطلق في تحليلاته من خلال نظرية التبعية التي ترى أن دول المركز في الشمال يتبعها دول الهامش في الجنوب، وأن النظام التعليمي الهدف منه في الدول التابعة هو تعليم طبقة ذات طابع إيديولوجي غربي موالي للطبقة المسيطرة في الطبقة الغربية الرأسمالية بحيث تصبح الطبقة المستفيدة في النظام التعليمي في الدول التابعة هي الممثل في الداخل لمصالح الرأسمالية العمالية ومرتبطة وتابعة لها من خلال السيطرة الفكرية والثقافية على رواد النظم التربوية التابعة وبالتالي، يتم إعادة إنتاج علاقات القوة الدولية عالميًا ويتم إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية في دول الجنوبز فعلى سبيل المثال يروج لبعض الأفكار مفادها أن التلازم الثقافي بين دول الجنوب ودول الشمال هو المحقق لتقدم دول الجنوب وأن طريق التقدم لدول الجنوب لا يأتي إلا عن طريق التجاوب مع النموذج الغربي اقتصاديًا وثقافيًا وتربويًا. حيث تهدف فلسفة دول المركز إلى إنتاج ثقافة عالمية تتغلغل في أساليب ونمط الحياة انتهاء بمفهوم العلم ومناهجه وتطبيقاته، مستخدمة المؤسسات والمراكز العلمية التابعة لها في دول الجنوب بحجة تقديم المعونات من أجل تطوير التعليم انتهاء بسياسات وبناءات ومناهج نخبوية، فإذا كان الاقتصاد الرأسمالي يخدم فئة قليلة من المواطنين فإن المدرسة بالتالي لا تخدم إلا فئة قليلة أيضًا، وبالتالي تتجه المدارس إلى سياسات الانتقاء بين الطلاب بدلًا من أن تعمل على تنمية قدراتهم والعمل على زيادة تقدير الذات لديهم. فالحديث إذن عن ديمقراطية التعليم وارتفاع نسبة الأمية في دول الجنوب يظل حديثًا واهمًا إذا لم يرتبط بالحديث عن تبعية دول الهامش لدول المركز المهيمن اقتصاديًا وثقافيًا وتربويًا .

ويرى “كارنوي” أن التعليم انتشر في العصر الحديث مع تزايد الإمبريالية الاستعمارية وما صاحبها من رواج في الصناعة والتجارة، وهذا يحتاج إلى مهارات وقيم ومعلومات توفرها تلك المدارس ولكي تظل الدول المستعمرة على علاقاتها ومصالحها مع الدول المستقبلة عنها “كان التعليم هو الميدان الجديد للاستعمال ليس من خلال محاكاة الدول المستقبلة لفلسفات وسياسات وبنى الدول المستعمرة فقط بل أيضًا من خلال استقطاب الفئات الوطنية المستفيدة من انتشار النظام الرأسمالي في مجتمعاتها بحيث تصبح هي الممثل الوطني لمصالح الرأسمالية العالمية. وتقوم الدولة بدور الوسيط بين الرأسمالية العالمية وبين البرجوازية المحلية مدافعة عن مصالح الطبقات المسيطرة في الداخل والأمر لا يتوقف عند هذا بل يتعداه إلى المعونات والقروض التي تهدف إلى تحقيق ما يسمى بالإصلاح التعليمي المتبني لأيديولوجيا الدول الرأسمالية المانحة بل يتعداه أيضًا إلى تبني مسارات تحافظ على التفاوت الطبقي مثل سياسات التوسع في التعليم الفني الذي يعد عمليًا بمثابة نهاية لسنوات التمدرس حيث لا يؤهل عمليا إلى التعليم العالي. وهذا النوع من التعليم هو ليس من نصيب أبناء الطبقة المسيطرة في المجتمع، بل هو من أجل أولاد الآخرين من الطبقات الدنيا والمتوسطة على الرغم من أن الأبحاث تشير إلى أن العلاقة بيت الانتاجية وبنية العمل أكثر قوة من العلاقة بين الإنتاجية والتعليم الفني المدرسي. ولكن إذ كان هناك وهم مفاده أن التعليم الفني يسد احتياجات سوق العمل من العمال ذوي مهارات معينة إلا أن حقيقة أن هذا النوع من التعليم يعد آلية للحفاظ على التقسيم الاجتماعي للعمل من جهة ويحافظ على الوضع الطبقي في المجتمع من جهة أخرى. فالدول الرأسمالية وفقًا لإيديولوجيتها الطبقية إن كانت تعمل هذا من أجل جعل التعليم أداة لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، نجد الصفوة التابعة في الدول المستقلة تقوم بنفس النهج وتقدم لها الدول الإمبريالية المساعدات المالية على شكل معونات أو قروض حتى تحافظ على تلك البنية التعليمية وإيديولوجية الإمبريالية المهيمنة. و يظل التعليم العالي من نصيب أولاد الطبقات المرتبطة بأيديولوجية دول المركز قيميا وعلميا ومصلحيا، وتبدو الصورة هذه وكأن العالم أجمع مسير بطبقة واحدة تقطن في دول المركز.

ويكمل هذه الرؤية “جورفيتش” الذي يرى أن الاقتصاد لم يعد متروكًا للتنافس الحر، لكن الدولة والشركات الاحتكارية القومية والدولية تخططه الدولة لخدمة مصالح البرجوازية العليا، ومع سيادة التقنية اقتصاديًا تجدها تطول علوم الإنسان حيث يطالب العلماء بلقب التكنوقراط، كما أن المتقلدين للسلطة العامة غالبًا ما يستعينون بكفاءاتهم المزعومة لتبرير التدابير غير العاقلة وغير الشعبية والاستبدادية لإخفاء استبداد السلطات العامة والاحتكارات القوية والدولة حيث يتقنون استخدام البشر أكثر من تقنية استخدام الآلات، ومن هنا تتدامج المعرفة التقنية مع المعرفة العلمية .

ويدلل “كانوري” على صحة استنتاجاته من خلال أن التعليم الحالي في دول الجنوب من حيث فلسفته وسياساته بل ومخرجاته لم يقدر على حل مشكلة البطالة، ولم يؤدي إلى الحراك الاجتماعي بل في أحسن التقديرات كان الحراك أفقيًا وليس رأسيًا حيث ينتقل الفقراء والمتعلمين للحياة في المدينة بدلًا من الريف، والعمل في المصانع بدلًا من الأرض دون تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة، ولكن يسهم هذا النوع من التعليم في إثراء القلة في مقابل الكثرة أو طبقة في مقابل باقي الطبقات، فالسياسات النعليمية الحالية تركز على تخصصات دون تخصصات أخرى وطبقة اجتماعية دون أخرى ومهارات دون أخرى، ولكن الجميع يلقن ويدرب في المدرسة على أن يكون طائعًا وممتثلًا ومسايرًا وراضيًا ومتقبلًا للهرمية داخل المجتمع المدرسي. وبالتالي يسهل تقبلها في المجتمع الأكبر، وللخروج من هذه التبعية يؤكد على ضرورة حدوث صحوة نفسية للتحرر تؤدي إلى حلول وتوجهات جديدة .

(4 – 7) مقاومة إعادة الإنتاج وثقافة القهر

ضمن تحليلات ونظريات عديدة نجد آليات إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية وكذلك ثقافة الصمت المفروضة على المقهورين. و نجد أن هذه التحليلات تنطلق من مسلمة رئيسية مفادها أن المقهورين في حالة سلبية دائمًا. فعلى سبيل المثال نجد أن “باولو فريري” يرى أن دول العالم الثالث فرضت الدول الاستعمارية عليها ثقافة الصمت وحولتها إلى مجتمعات مغتربة بمساعدة نخب السلطات الداخلية المتمثلة لقيم المستعمر، حيث تمارس هذه النخبة نوعًا من القهر يكرس في النهاية ثقافة الصمت .

كما أننا كثيرًا ما نتعامل مع المعلم باعتباره مجرد أداة محايدة لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية، دون النظر إلىه باعتباره ذاتًا يحمل توجهات وقيم قد تكون مغايرة أو رافضة للمناهج السائدة في المدارس (المنهج المعلن أو المنهج الخفي) ونتناسى أن المعلم هو الآخر ضحية لمنهج لم يشترك في وضعه، وأهداف وتنظيمات مدرسية وقيم صريحة وأخرى ضمنية عليه تمريرها في عقول الطلاب، وبفترض المسئولون أن هذا المعلم مجرد شيء أو أداة يمر عن طريقها كل ما يريدونه .

ونفس الشيء وقع فيه “بوردييه وباسرون” من خلال منظورهما البنائي الوظيفي حيث لم يكتشفا التناقضات الكامنة في المدرسة التي تفضي إلى الصراع والمقاومة من جانب الطلاب، كما لم يكتشفا الآليات التي تدفع إلى تغير الوضع الراهن لبنية المدرسة والمناهج ذلك لأنهما افترضا سيادة ثقافة واحدة في المدرسة وفي المجتمع مغفلين الهوية الثقافية والطبقية للطلاب .

ولكننا على العكس من ذلك نجد في عقدي الثمانينات والتسعينيات نظريات تبين وجود أشكال من المقاومة تخرج الطلاب عن السلبية المزعومة في نظر الكثير فنجد على سبيل المثال “جيروه وأورونووتز Giroux & Aronowitz” من خلال كتابهما التعليم تحت الحصار وكذلك “P. Willis ويلس” الذي قام بتحليل أنماط التفاعل داخل المدرسة. حيث وجد تنظيمات غير رسمية من الطلاب تعكس ثقافتهم الفرعية التي تظهر من خلال تفاعلاتهم وأنشطتهم وتمردهم ومقاومتهم تعبيرًا عن عدم الرضا عن التعليم ومؤسساته ومفاهيمه ونوعية النماذج وعدم الإشباع التربوي ونمط الإدارة المدرسية. و يتجلى هذا من خلال مظاهر عدم الطاعة للإدارة ومظاهر الشغب والتمرد داخل الفصول وتبادل الكراهية مع المدرسين والتدخين والمشاجرات والتهرب من العمل المدرسي. و هذا التمرد وتلك المقاومة يدلان على عمق التناقض داخل المجتمع الرأسمالي وزيادة معدلات الفوارق الطبقية.

ويرى حامد عمار أن نظرية المقاومة خاصة عند “Giroux جيرو” تستخدم المقاومة باعتباره مفهومًا إيديولوجيا يسمح بتحليل العلاقة بين المدرسة والمجتمع وخاصة بالنسبة للطبقات المحرومة التي تعاني من الفشل في عملية التمدرس. كذلك فإن نظرية المقاومة تتيح مساحة لإرادة الإنسان ودوافعه وطموحاته التي تسمح له بخلخلة العلاقة الجبرية في كثير من نظريات علم اجتماع التربية ويجعل في نهاية الأمر أن حاصل السلوك يقع بين طرفي متصل الإذعان للقهر ومقاومته وبالتالي تصبح العلاقة ليست أحادية تحكمها الحتمية الميكانيكية. ووفقًا لذلك فإن كانت المدرسة تعمل على تكريس ثقافة الطبقة المهيمنة فإنها قد تجد نوعًا من المقاومة. كما أن هذه الثقافة بفضلها وعلى الرغم منها تنتج ما يتعارض مع قصدها.

(4 – 8) المدرسية أداة لعرقلة النمو، واللامدرسية هي الحل

إذا كان التعليم ضروريًا لتقديم المجتمع، فهل يعني هذا أن يقتصر التعليم على نوع واحد منه هو التعليم النظامي (المدرسي / الرسمي)؟ تجيب “مرجيت ميد” قائلة؛ “عندما أرادت جدتي أن تعلمني أخرجتني من المدرسة” وتوجد دراسات عديدة تؤكد هذا المعنى .

وبالنسبة لإيفان إليتس Ivan Illitich فهو يرى أن المدرسة أداة لعرقلة النمو حيث تجعل الإنسان بلا إرادة وبلا اختيار أين يقبل ما يعرض عليه في سلبية. ولذلك فهو يدعو إلى وجود مجتمع بلا مدارس وأن يصبح التعليم خبرة حرة بعيدًا عن القرابة والتمطية.

ويرى أن التمدرس (عدة سنوات الدراسة التي يقضيها الطالب في المدرسة) هو صورة وشكل من أشكال التعليم، ولكن أصبح الذهاب إلى المدرسة والحصول على الشهادات هو الهدف بدلا من التعليم على اعتبار أن التمدرس أصبح سلعة. وهو ينطلق في دعوته إلى أننا نتعلم كيف نتكلم ونفكر ونحب ونشعر ونلعب ونلعن ونمارس السياسة ونمارس العمل دون تدخل المدرس.

وهو يتفق هنا مع “جودمان” إلا أنه أشد ارتباطًا بـ”ايفيرت وريمر”، وهما لا مدرسيان باعترافهما حيث يؤكدان على أن المدارس والجامعات أصبحت كحرس على أبواب مجتمعات طبقية، تمارس بداخلها عملية سيطرة حضارية وعندهما أن اللامدرسية تتم بطريقة إبداعية استكشافية تلقائية اختيارية. ويرى إليتش أيضا أن الاعتماد على المؤسسات مثل المدرسة يزيد من ضعف الفقراء، فحرمانهم من خدمات المدرسة يزيد من حدة التباين الاجتماعي والتحيز ضد الفقراء. فالأمي يعمل ويتقاضى أجر أقل من الذي يتقاضاه صاحب الشهادات المتوسطة والأخير يعمل ويتقاضى أجر أقل من صاحب الشهاة الجامعية في المجتمعات الصناعية/الحداثية.

لهذا يدعو إليتش لإلغاء المدارس للأسباب التالية:

ضخامة الانفاق على التعليم في المدارس لا تتفق مع العائد منه.

التعليم المدرسي يتحيز ويحصل عليه الأغنياء على حساب الفقراء، وبالتالي فهو لا يحقق العدل الاجتماعي المؤدي إلى التماسك في المجتمع.

المدرسة لا تحقق التعلم بل يهتم روادها بالحصول على الشهادات.

المجتمع يمتلىء بإمكانات تربوية غير مستخدمة استخدامًا أمثل (مثل مؤسسات التعليم غير النظامي من وسائل الإعلام ومراكز التدريب والمكتبات وشبكات المعلومات …. الخ).

وهو يرى أن اللامدرسية اتجاه حتمي للتطور الاجتماعي والتربوي والدليل على صدق هذا التوجه ما يحدث الآن عن طريق (الانترنت) حيث يستطيع أي شخص في أي مكان أن يحصل على المعلومات وعلى أي شهادة دون أن يغادر منزله.

ومع ما في دعوة “إيفان إيليتش” من مبالغة إلا أنه وجه الأنظار إلى عيوب أساليب التعلم ومناهجها وتصوراتها الأكاديمية المنقطعة عن الحياة المجتمعية وأحداثها ، فضلًا عن إتاحة فرص التفكير والتجديد لدى المتعلم ليسهم في صنع مستقبل أفضل أكثر عدلًا وحرية.

الضبط الاجتماعي لم يعد اجتماعيا خالصا

إذا كانت بعض نظريات الضبط الاجتماعي تفترض قدرة الطبقة السياسية على السيطرة على المواطنين من خلال أساليب ووسائل ومؤسسات الضبط المختلفة فإن الثورات الصناعية والتكنولوجية التي حدثت جعلت من يملك القوة المتمثلة في العلم وتطبيقاته العملية يستطيع التلاعب بعقول الآخرين والسيطرة عليها. فمثل ذلك تقنيات الاتصال والمعلومات المعاصرة التي تتحكم فيها كبرى الشركات في الدول الحداثية/الصناعية والمابعد حداثية/المابعدصناعية . و قد وصل هذا التحكم لمن يملكون تلك التقنيات في الدولة المنتجة لتلك التقنيات من منع رئيس دولتهم من استخدام شبكات التواصل الاجتماعي-ترامب-نتيجة توجهاته التي لا تخدم مصالح من يديرون العالم. ونتساءل عن مدى حيادية وليبرالية من يتحكمون في تلك التقنيات بالنسبة لمستخدمي تلك التقنيات في الدول الساعية للنمو من الدول المتهمة بالتخلف؟ وأصبحت قدرة مؤسسات الدولة على الضبط الاجتماعي محل تساؤل نتيجة قدرة الكتائب الإلكترونية على اختراق حدود الدول. وإذا تصور البعض أن هذا الفضاء الإلكتروني مفتوح لكافة المجتمعات من حيث التبادل الثقافي فإن الواقع يشهد بأن القوي يفرض معاييره على الضعيف.

خامسًا: الخاتمة

إذا كانت الحداثة نشأت في الدول الصناعية ذات المؤسسات المتماسكة ، فإن مابعد الحداثة تستهدف التفكيك و من هنا نفهم دعوات إليتش لهدم المؤسسية بدلا من إصلاحها ومعالجة مشكلاتها،و كان الحل عند من يتمسكون بالدولة الحداثية القائمة على قوة المؤسسات وتعاضدها (التكامل بين مؤسسات التعليم النظامي النمطي، و التعليم غير النظامي المرن)، و التكامل بين المؤسسة التقليدية الحجرية و تقنيات الاتصال والمعلومات كوسيلة لرفع جودة التعليم الذي يقدم في تلك المؤسسات (التعليم في الموقع مع التعلم من بعد كماي حدث في الدول المتقدمة). وهذا يفرض علينا التحصين الداخلي وتنمية القدرة على التفكير التاقد حتى لا يقع الطلاب في فخ التبعية لمن يتلاعبون بالعقول. و أفضل مثال عن ذلك الألعاب التي جعلت بعض رواد تقنيات الاتصال يقترفون الانتحار.

هدم المؤسسية يؤدي إلى هدم الدولة التي تتجسد في صورة مؤسسات ،والحل هو التكامل بين النظامي وغير النظامي من المؤسسات.

أوضحت النماذج التفسيرية أن كل ما هو نفسي يعد اجتماعي المنشأ حين يتم التفاعل بين الأنا والأخر في حوار يتم به إسقاط ما هو جماعي من معايير في الفرد.

إن الإدعاء بأن التعليم يؤدي إلى الحراك الاجتماعي قد سقط من خلال نظريات وأبحاث إمبريقية عديدة، و إن مهمة التعليم تكمن في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية بفعل ما يملك الآباء من رأسمال اقتصادي أو ثقافي.

إن التعليم وما يسوده من عمليات وعلاقات له وظيفة أيديولوجية. يتوقف اتجاه ومحتوى هذه الأيديولوجية على من يملك القوة في المجتمع ومن يستطيع فرض هيمنته على باقي طبقات المجتمع.

الانتباه إلى ضرورة دراسة السلوك الواقع المعاش للأفراد وتبين مدى انطباع الظواهر الاجتماعية في وعي الأفراد.

الأخذ بأسلوب الحوار بدلًا من التلقين حتى يصبح التعليم أكثر إنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى