أدب وثقافة
حاتم الجوهري يبحث في منهج الدراسات الثقافية وتطويره.. مقاربة ما بعد المسألة الأوربية
شارك الدكتور حاتم الجوهري في العدد الثالث من مجلة “مثاقفات” الفصلية التي تصدر من لندن، بدارسة بحثية بعنوان: (الدراسات الثقافية: مقاربة “ما بعد المسألة الأوربية) في النشأة والتلقي’، وفيها يتناول بالنقد والتحليل مشروع “الدراسات الثقافية” كمنهج أوربي النشأة، وكذلك في أشكال استقباله وتطبيقه في الحالة العربية.
وجاء ذلك من خلال مفهوم (ما بعد المسألة الأوربية)، الذي طرحه الجوهري في الفترة الأخيرة؛ مشيرا لمجموعة المتلازمات والعُقد الثقافية التي صاحبت تحول “النموذج الأوربي” إلى نمط سائد عالميا، والمشاكل التي ترتبط بهذه المتلازمات الثقافية حتى اللحظة الراهنة، وسبل تجاوز التجربة البشرية لها.
وتتناول الدراسة موضوع “الدراسات الثقافية” من حيث نشأتها في السياق الغربي، وتلقيها العربي، من وجهة نظر ومقاربة مغايرة تقوم على النظر إليها من منظور كلي يربطها بمحددات عامة حكمتها، ومنحتها صفاتها المميزة وفق “مستودع الهوية” الأوربي وظروفه الخاصة، وإشكالية تحول الظروف الخاصة بـ”مستودع الهوية” الأوربي إلى مفاهيم “المركزية” والتعميم، والانتقال من الخاص إلى المطلق أو تحول التجربة الأوربية وانتقالها من كونها تجربة ضمن متعدد، إلى تجربة “معيارية” مركزية تحاول أن تجبر الجميع على قياس نفسه عليها، والقبول بمعاييرها الخاصة و”الانسلاخ” عن معايير الذوات الثقافية التاريخية، خارج المركز الأوربي/ الغربي.
وركزت الدراسة على انعكاس فكرة المركزية و”المسألة الأوربية” هذه على “الدراسات الثقافية”، لتبدو المفارقة أنه رغم أن الدراسات الثقافية تتحدث عن التعدد والتنوع والهوامش الثقافية، كمجالات ونطاقات تعمل عليها، إلا أنها افتقدت لحرية التطبيق، وأزمة تبعية دول العالم والباحثين الذين أخذوها عن أوربا! فاستقبل معظم هؤلاء فكرة التعدد والتنوع بالسياق نفسه لـ”المسألة الأوربية” وظرفياتها الحاكمة ومتلازماتها الثقافية. وحاولوا إعادة إنتاج “الثنائيات المتعارضة” لـ”المسألة الأوربية” ومنحها ” تقييما اتفاقيا عالميا”، كـ”قيم إنسانية عليا” لا قيم بعدها ولا قبلها.
وأشارت الدراسة إلى تجاهل الفكرة الحقيقة وراء موضوع الثقافة والاشتغال به وهو احترام “الخصوصية الثقافية”، فرغم أن الدراسات الثقافية قالت بالتعدد والتنوع وثقافات الهامش، إلا أن ذلك كان بالطريقة الغربية ووفق سياقاتها والقيم التاريخية الموروثة الحاكمة لها، وليس وفق منهج “دراسة الحالة” مثلا والنظر في العوامل الخاصة بكل “حاضنة بشرية” وتفاعلها المتفرد، لتنتج لنا كل منها مجموعة قيمها الثقافية الخاصة ووفق “مستودع هويتها” وطبقاته، حيث حاولت “الدراسات الثقافية” أن تفرض على طبقات “مستودع الهوية” في العموم فكرة علاقات الهامش والمتن، المرتبطة بـ”المسألة الأوربية” و”الثنائية المقدسة” بين الليبرالية أو الماركسية، أو أزمة العلاقة بين رجال الدين وقيم الدين، والمجتمع الإنساني والتطور العلمي وكذلك النظم السياسية للحكم، وما تبعها من متلازمات عند الذات الأوربية/ الغربية، وكأنهما نهاية العالم والمقدس الجديد له.
كذلك قامت الدراسة في سياق مقاربتها لـ “الدراسات الثقافية” من خلال مفهوم “المسألة الأوربية” ذلك، بالنظر في مجال كلي يربطها بسياق النشأة الغربي، والمحددات التي حكمت ظهورها فيه، ثم النظر في النقد الذي يمكن أن يُوجه لها من خلال تصور “ما بعد المسألة الأوربية” ومحدداتها. حيث تُعرف “المسألة الأوربية” هنا بأنها: سياق تحول محددات الهوية الأوربية وعناصرها إلى “نمط سائد” عالميا، والأثر المصاحب لذلك والذي يشبه “المتلازمات النفسية” أو “السيندرومات” الثقافية، مع استشراف مآلات واحتمالات تفككها في “ما بعد المسألة الأوربية”، وتحول “المسألة الأوربية” إلى نمط غير سائد، وظهور بدائل إنسانية مفصلية أخرى.
وبينت الدراسة أن أثر “المسألة الأوربية” يتبدى أكثر ما يتبدى في فكرة اختزال الاحتمالات الوجودية للبشر دائما؛ في صورة “ثنائيات متعارضة” ومتطرفة لابد أن يحل احدها محل الاخر، وهو على ما يبدو أثر كامن لحضور العنصر الجرماني البري المتشدد وقبائل الشمال الأوربي، وسيطرتها على الموحة الحضارية الأوربية/ الغربية الحالية، حيث يبدو هذا العنصر الجرماني هو الغالب والكامن الثقافي المسيطر على الثقافة الأوربية/الغربية، والذي يجعلها دائما في حالة تطرف حدي تجعل كل المواضيع تتحول لصراع كلي متطرف، بين “ثنائيات متعارضة” إما هذا وإما ذاك، وهو ما قد يجعل “المسألة الأوربية” عرضة للتفكك لصالح “مفصليات ثقافية” أخرى، تتجاوز متلازمات الذات الأوربية و”ثنائياتها المتعارضة” المتشددة، وتقدم بديلا جديدا للإنسانية.
وقد اتبعت الدراسة المنهج التحليلي النقدي، ببعده الثقافي والاستشرافي، في نقد الأنماط التاريخية لموضوع الدراسات الثقافية في مسار النشأة الغربي، وفي مسار التلقي العربي، محاولة استشراف المستقبل وظهور إرهاصات “ما بعد المسألة الأوربية”، خاصة عجز التمثلات العلمية التابعة لـ”الدراسات الثقافية” العربية عن مواكبة طموح الذات العربية، ووقوفها في كثير من الأحيان ضد “مستودع الهوية” العربي، وقضاياه الأساسية عن الحرية والتحرر الذاتي وبناء “تراكم حضاري” وظهور “مفصلية ثقافية” عالمية جديدة، من خلال إنتاج خطابات تابعة مستلبة للآخر المركزي الأوربي، وكبح الذات عن إنتاج خطابات أخرى فيما يشبه التأكيد على الدونية و”الانسلاخ عن الذات” برطانة ثقافية، يتم منحها “تقييما اتفاقيا عالميا”.
وجاءت الدراسة من مبحثين؛ هما أولا: الدراسات الثقافية غربيا: سمات النشأة ومحددات “المسألة الأوربية”، ثانيا: الدراسات الثقافية عربيا: سمات التلقي وأثر “المسألة الأوربية”، وأخيرا جاءت الخاتمة التي حملت أهم نتائج الدراسة وخلاصاتها.