أدب وثقافة

سهرة (قصة بقلم: نشوه طلعت- مصر)

أحرقتُ سفني ولم أبق أي وسيلة أسافر بها ليلاً.. مع شروق الشمس أفقتُ وأجبت الشرطي الذي على يميني يستجوبني.. وقَّعت أسفل اسمي.. ابتسم لي السائق وقال: (إن شاء الله تقوم منها على خير)، ناديت عليه، إلا أنه استعجل في الخروج.

ففي ذاك المساء بدت السماء مسرحاً لعربدة الريح وتجاذبات الغمام، وفي لحظة بهيمية اتحدت فيها أسراب الغيوم، وغدت الدنيا سوداء كبحر متلاطم. قررت على الرغم من الطقس السئ أن ألبى الدعوة إلى سهرة تفك كثيرة من واقعي المرير، علماً أن مثل هذه السهرات لا سابق لي بها، مكاني بين عائلتي وجيرانى وأبناء حارتى الذين لا يملون من النقاش في السياسة والدين، كام مصاب بكورونا وكام متوفي، وأحاديث قيمة الجنية وأسعار الدولار، وتدنى الأجور، وصعوبات الحياة في ظل ارتفاع جنوني للأسعار، و غيرها من الأشياء الأخرى.

لكن ذهني دائماً كان محتارًا في نساء السهرات، أحاديثهن عن الفساتين التي تُظهر نصف أجسادهن، وعن أحدث الصراعات في عالم الأزياء وتصفيف الشعر والأبراج، وعن محبات لم تزل تتفتح أشتال ورداتهن التي ما تزال براعم يغرقن في رنين الكؤوس، وكيف تثير شجوني ضحكاتهن.. ولكن ماذا أفعل وما باليد حيلة؟ الانسحاب لم يعد ممكناً في ظل مراقبة سيدة البيت، التى تتفقدني بين الفينة والفينة، تحادثنى وتدعونى للانخراط في أجواء اسهرتها، ثم تتركنى بعد دقائق لأحزانى وهمومى. فقد عشت حياتى دون حبٍ، أو علاقة مع امرأة، واليوم تنفتح الكوى والنوافذ.

لماذا لا أنطلق في سهرة مع امرأة في العشرين ؟ ماذا يفعل قلبى سوى استقبال الدم وضخة؟ إنه يشبه قلب أيَّ حيوان! العيون تراقبنى، ما نهاية وجودى في سهرة تخلق فى نفسى امتعاضاً من الواقع، فأنا لا أعرف أيَّ واحدة، وغير قادر على خوض ولو مغامرة، وهن لن يشفقن علىَّ. فأظل أراقب كيف يتصرفن، ويتبادلن أرقام الهواتف، والضغط على الأيدى، والابتسامات والإشارات، والعيون التى تمنح وتمنع. أشبه ما أكون بتائه مكلف بكتابة تقرير. أألوم نفسى، أم حظى، أم المصادفات التعيسة التى تقف فى وجهى؟ نظراتهن توحى أنهن فهمن بساطتى وارتباكى وانعزالى.

قررتُ أن أكسر الحظر الكئيب، رأيتُ واحدة خصرها مثل غصن حور تتجاذبه الريح، حركات جسدها ورهافته، شعرها يولد زوبعة تنقشع سحبها عن هالة من الجمال، وفستانها يتطاير ويشف عن زهرات تنمو بخجل فوق الهضاب والسهول. أقتربت مني وعلى ثغرها ابتسامة مليئة بأشياء كثيرة، ارتبكت.

أخذت بيدي وانطلقنا إلى منزلها، نظرت من النافذة بدت مصر هادئة، نامت شوارعها، وغاص سكانها في حظر ليلهم الجديد.. ملأتُ الأقداح، وأنفثتُ دخان السجائر بعُجالة وأحياناً بتؤدة.. توقف الزمن.

 

أسدلت ستائر نوافذ الجيران واختفت أضواؤها. بينما رنين الكؤوس الذى يتوافق مع الموسيقى وضحكاتها الساخرة المرحة لم يتوقف. أما غمزات العيون فتشى بالمرح، راقصت وتناثر شعورها على أكتافى. إلا أن خوفى من التعثر جمدنى في مكانى، إلى أن جرتنى إلى وسط الغرفة. فأحسستُ بالانتعاش، ونسيت نفسى، جرفنى التيار. قالت لي بعض الإطراءات ووعدتني بحفلاتها القادمة. أحستُ بالسعادة، فقد أردتُ أن أعيش حياتى، وأعيد بناء ذاتى، وأنسى ماضيا. كرعت كؤوساً، فتساقطت الأوراق الصفراء المضمخة بالأرجوان، وغدتُ جاهزاً لاستقبال أوراق خضر.

فمنذ الصغر لم أكن قادراً على نصب الأفخاخ للعصافير، واليوم لا أفخاخ، بل كناريات تغرد. لو خيرتَ بانتقاء واحدة، فأيهن أختار؟  فقد ذهبت مقولاتى عن القيم والأخلاق عن البيت والمجتمع التى تعلمتها في المدرسة. فأصبحت الحياة ذاتها مدرستى منذ تلك اللحظة، والمجتمع الذى أعيش فيه.

فصورة السهرة حية في ذاكرتى، فركت عينيى وعدتَ إلى حاضرى، الذى لا حول ولا قوة لي بصنعه. تأكدت الآن أننى أحرقت نفسى، وغدوت غير قادر على الإقدام، ولا على الانسحاب بانتظار الفجر،لنسمات تتشبع بفوضى العطور.

 إلا أنني لم أعد أتمالك نفسى، فبينما بدأت بمغادرة السهرة، واستقللتُ سيارتي. أطلقت صرخة، غفوت، ولم أر نفسى إلا في الإسعاف، وعند رأسي شرطيان يستجوبانني؛ من كنت تتعامل معهم؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى