مقالات

د. إيمان عادل أنور تكتب: ربُّ اليتامَى يأْمُر: «فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»

لقد نادت جميع أديان الوحي المجتمعات بالدفاع عن اليتيم؛ نداء أشبه بصيحة تتضمن الوعد والوعيد، بين ترغيب وترهيب؛  فالذي يقرأ ما ذكره أنبياء العهد القديم بالكتاب المقدس عن اليتيم يدرك مدى اهتمام السماء به والانتصار له؛ ويأتي في مقدمة هولاء الأنبياء أشعياء النبي، الذي أوصى شعبه بالأمر الإلهي “تعلموا فعل الخير…اقضوا لليتيم “، وقول داود النبي وهو يُنشِد لرحمة الله: “أنت تحامي عن اليتيم والمظلوم، فلا يعود الإنسان الفاني يخوفهم”، ” غَنُّوا لِلَّهِ. رَنِّمُوا لاِسْمِهِ… أَبُو الْيَتَامَى…”.

 

سألني عالم  أزهري ذات مرة في ندوة علمية: ماذا يعني الإسلام عندكِ؟ أجبته بالردّ المعتاد: “النطق بالشهادتين والإذعان والتسليم بما جاء به نبينا ﷺ “؛ فقال لي: لابد لنا أن نعي وبوضوح، أن نبينا لم يأت فقط بتشريع أو بمفاهيم للعقيدة، بل جاء أيضا ببناءٍ أخلاقي شامل متكامل، وهو الهدف الأسمى للرسالة المحمدية، وأن كلا من البناء التشريعي  والبناء العقدي ليس إلا لخدمة هذا الهدف؛ وهو المُراد من قوله ﷺ “مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيانًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ مِن زَواياهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به ويَعْجَبُونَ له ويقولونَ: هَلّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؛ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النبيِّينَ”؛ وهذا يعني (بُنَيَّتي) أن جميع أديان الوحي ضَمّت جانبًا أخلاقيا، إلا أنه لم يكتمل ولم يوِصَف بالشمولية إلا ببعثة خاتم الأنبياء، لذلك زيَّل ﷺ حديثه بقوله “وأنا خاتَمُ النبيِّينَ”؛ والأمثلة على اكتمال البناء الأخلاقي في الإسلام كثيرة ووفيرة، ضمنها وصيته ﷺ باليتيم، التي لم تأت بها أديان الوحي السابقة بنفس الصورة الشاملة الواردة في الإسلام؛ فهناك أكثر من عشرين آية وردت في  القرآن الكريم توصي باليتيم وبحسن معاملته.

جعل الباحثون في الدراسات الإسلامية الوصية باليتيم  ضمن ما يُطلق عليه  الوصايا العشر القرآنية “وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ”؛ وأخال أن السبب وراء ذلك يكمن في عظم مكانة من يحرص على اليتيم، لدرجة أنه سيكون برفقة النبي في الجنة، ألم يرد عنه ﷺ قوله: ” أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ هكذا، وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والْوُسْطَى..”، والمراد بالكفالة القيام على أمراليتيم و مصالحه.

وإذا أرجعنا البصر إلى تاريخنا الإسلامي المجيد، وجدنا حرصًا شديدًا من أولي الأمر في التعامل مع حقوق اليتامي باعتباره أمر إلهي ، ولم يألوا جهداً في ذلك؛ على سبيل المثال أسنِدت مهمة رعاية أموال اليتامى  في أواخر القرن الأول الهجري إلى القضاة، وكان القاضي عبد الرحمن بن معاوية بن حديج أول من تولى مهمة النظر في أموال اليتامى ورعايتها والحفاظ عليها وتنميتها؛ كما دأبت الدولة المملوكية على تعليم اليتامى وتأديبهم بصورة نفخر بها في واقعنا المعاصر، فأقامت لهم المكاتب للوفاء بهذا الغرض، واختارت أساتذة أكفاء من العلماء لأداء هذا الدور المهم وأنفقت على اليتامى بهذه المكاتب، وتابعت حركة التعليم والتأديب بها؛ وكانت هذه المكاتب ملحقة بالجوامع والمساجد والمدارس.

 ومما ذكره المؤرخ المقريزي أن الظاهر بيبرس عندما بنى المدرسة الظاهرية ببين القصرين بالقاهرة، أنشأ إلى جانبها مكتبا لتعليم الأيتام، وأجرى لهم الجرايات والكسوة، وأوقف عليه أوقافًا بعينها. وبالمثل فعل المنصور قلاوون عندما أنشا المدرسة المنصورية سنة 1284م جعل بها مكتبًا لتعليم الأيتام..

الأمر نفسه، نجده في المجتمع الأوروبي المعاصر، فمن خلال تتبعي للمجتمع الألماني (باعتبار تخصصي الأكاديمي) لاحظت اهتمام الألمان (وخاصة الأغنياء منهم) بالأيتام بصورة جادة حازمة، من خلال دعمهم لما يُعرف بمراكز رعاية الأطفال   Kindertagesstätte” أو اختصاراً “Kita” ؛ وهذه المراكز خُصِّصَت للأيتام الذين لا يستطيع أقرباؤهم  كفالتهم.

  ويقوم بالإشراف على هذه المراكز متخصصون مدربون على الرعاية والعناية بالأيتام، يقدمون لهم برامج عدة، ضمنها ممارسة الرياضة بأنواعها المختلفة،  والرسم والتلوين، والحِرَف اليدوية، ويتم تربيتهم على كيفية التعايش السلمي وحل المشاجرات -التي يمكن أن تقع بينهم- بالحوار، كذلك يتم تعريفهم بالطبيعة والتغذية والتكنولوجيا والسلامة المرورية؛ وتحتوي هذه المراكز على ملاعب ومسارح ومكتبات، وتقام فيها مهرجانات للأطفال اليتامى واحتفالات للتسرية عنهم.

وعلى الرغم من المكانة التي حبّاها رب السماء لمن يكفل اليتيم، ورغم ما نص عليه القانون المصري من هدف إنشاء دور الأيتام، ألا وهو “تقديم المساندة والتوجيه والمشورة لإكسابهم سلوكيات إيجابية مقبولة في المجتمع”، إلا إننا (وللأسف) نصادف كثيرًا من  الانتهاكات في دور الأيتام بمصر (من ضرب ومعاملة سيئة) ، لا سيما – وهو أمر ألّمَني بشدة – على يد المربيات داخلها؛ وقد أرجع مسؤول –  التقيت به في إحدى زياراتي لدار أيتام بالإسكندرية-  مثل هذه الانتهاكات إلى قلة عدد المربيات مقابل اكتظاظ الدور بأعدادٍ كبيرةٍ من الأطفال،  وأكد أن السبب في ذلك راجع إلى تدني الرواتب التي تمنح للمشرفات، مما يجعل القائمين على مثل هذه الدور مضطرين إلى تعيين ضعيفات الكفاءة، وأنه ثمة – كما ذكر لي-  دور للأيتام تقوم بطرد اليتامى منها وهم لم يبلغوا  بعد السن القانونية (18 عاما) ، ومن هنا تنشأ ظاهرة أطفال الشوارع.

من على هذا المنبر أناشد الجميع تقديم يد العون لليتيم، فمن كان ذا مالٍ، فليقم بدعم المؤسسات المعنية في بلادنا، حتى تقوم بمهامها تجاه اليتيم بصورة تخفف عنه أحاسيس اليُتْم ورُبما الضعة، عبر تأسيس دور للأيتام بشكل يؤهله أن يكون عنصرا يشارك في بناء المجتمع حين يبلغ أشده؛ وأهم من ذلك هو توفير محترفات في معاملة الأطفال، ولا يكون ذلك إلا من خلال علماء متخصصين في مجال تربية الطفل- كما فعلنا ذي قبل في العصر الذهبي لأمتنا العربية، وكما تفعل أورربا في العصر الحديث والمعاصر- يقومون على تأهيلهن لهذه المهمة؛ ومن لم يكن ذا مالٍ، فليشارك ولو بزيارة لدور الأيتام، ليتصدق عليهم بكلمة طيبة، تنأى بهم عن إي إحساس بالقهر، امتثالا لأمر ربنا وأب اليتامى: “فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ” !

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال رائع،وتحليل دقيق، وتوصيف لمعاناة الأيتام داخل دور الرعاية في مصر ، وياليت أولي الأمر المعنيين أن ينتبهوا لخطر إهمال هذه الفئة، وأن تحسن اختيار مشرفيها ، وقد يكون الحل في خريجي الكليات المتخصصة ؛ تنفيذًا لأوامر إلهية ، و وصايا نبوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى