فنون

الموسيقار الذي هذب الوجدان!! (بقلم: محمد ناجي المنشاوي- مصر)

قليلة هي اللحظات التي يحلق فيها الوجدان مع أغنية من الأغاني في طبعاتها الجديدة بأصوات وألحان آنية فهي أشبه بكل شيء في حياتنا المعاصرة بما فيها من عناصر البريق الزائف التي سرعان ما يخبو وينطفئ غير تارك أثرا ما كالوجبات السريعة التي تسد جوعك إلى حين..

الواقع أن حياتنا الغنائية الحالية منزوعة الدسم مائعة المذاق مهما امتلأت بمكسبات الطعم وضررها أكثر من نفعها باستثناء أغان قليلة تعلق بالوجدان فمنذ رحيل الموسيقيين الكبار والمطربين الذين اهتز الوجدان الجمعي المصري لأصواتهم نشوة وطربا جفت الينابيع أو بمعنى أدق حجبت..

من المؤكد أن الشعب المصري يكمن بين جنباته ذوو المواهب الغنائية العظيمة وكذلك الموسيقية وهذا مايدفعنا إلى الحنين إلى الصوت الصافي الذي طالما ترقرق في عذوبة ونقاء ماء النيل إنه صوت الأسطورة محمد عبد الوهاب ذلك شحن وجداننا بصوته على مدار نصف قرن أو أكثر.

 إنه الفنان المشبع بالموهبة المتعلقة روحه بالطرب والموسيقى وهو ماألقي به في أتون الوسط الغنائي فقد كان يذهب منذ طفولته إلى سرادقات الأفراح في حي باب الشعرية لكي يستمتع بغناء صالح عبد الحي وغيره من أساطين الطرب في ذلك الزمان.

 وتعرض عبد الوهاب من جراء ذلك إلى الإيذاء البدني؛ فقد ضبطه أخوه الشيخ حسن عبدالوهاب ذات مرة في ليلة من تلك الليالي فأعطاه الطريحة اللازمة أمام الناس وجذبه إلى البيت فتلقي طريحة أخرى فهرب من المنزل واحتضنه أحد المغنين البسطاء وكان شقيقا للترزي الذي كان يعمل محمد عبد الوهاب عنده صبيا.

 ولما عثرت عليه أسرته، أرسلوه إلى الكتاب ليتعلم القرآن الذي كان يعشقه.. ومن هنا بدأت موهبة عبد الوهاب في الاختمار حينما بدأ يردد في شغف النغمات التي ينشدها في حلقات الذكر.

 لقد تقلب عبد الوهاب بين عشقه لسلامة حجازي فردد ألحانه حتى غني عبد الوهاب أول أغانيه على أسطوانة مسجلة عام 1915 أتيت فألفيتها ساهرة وكانت من ألحان سلامة حجازي ثم انتقل إلى فرق غنائية متعددة أولها فرقةعبدالرحمن رشدي ثم فرقة سيد درويش كواحد من أفراد الكورس.. ونجح بعد ذلك في الأغنية الفردية.

 ولاشك أن لقاء عبد الوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي كان أكبر محطة وأهم محور في حياته عام 1924 إذ اصطحبه شوقي إلى أوروبا وزوده بثقافات متنوعة ماكان عبد الوهاب يكتسبها لولا احتضان شوقي لموهبته الناطقة بقوة.

 وفي تلك الفترة ما بين العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، غني عبد الوهاب أحلى أغانيه التي كان يلحنها لنفسه بالطبع محافظا فيها على الطابع الشرقي، مع بعض التطوير والتحديث فقد غني في هذه الفترة قرابة ثلاث عشرة أغنية هي (خايف أقول اللي في قلبي، وفي الليل لما خلي، واهون عليك، وأعجبت بي، والصبا والجمال، واللي يحب الجمال، وجفنه علم الغزل، والنيل نجاشي، وسهرت، ويا دنيا يا غرامي، وأحب عيشة الحرية، ويابور قوللي، وعندما يأتي المساء).

 ومن أجمل ما غني عبد الوهاب لأحمد شوقي؛ بلبل حيران وسجي الليل والليل لما خلي والنيل نجاشي.. ومن اللافت للنظر أن شوقيا قد تنازل عن الفصحى لبعض الوقت ونزل من عليائها إلى العامية المصرية من أجل عيون تلميذه عبد الوهاب.

 وظل عبد الوهاب يملأ أسماع الجماهير المصرية والعربية في الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات وتوقف بعد ذلك وتفرغ للتلحين للآخرين.. وياله من محظوظ من لحن له عبد الوهاب لكي يكتب لنفسه شهادة ميلاد مطرب حقيقي وأخص بالذكر تلحينه لأغنية انت عمري لأم كلثوم وذلك في عام 1964 وهو لقاء السحاب.

 وغنت أم كلثوم من ألحانه فيما بعد انت الحب وأمل حياتي وفكروني باللغة العامية ثم لحن لها هذه ليلتي بالفصحى وكذلك أغدا ألقاك.. وكذلك لحن هذا الموسيقار أروع الأغاني للعندليب عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة ووردة وغيرهم من كبار المطربين والمطربات داخل مصر وخارجها.

 وصارت ألحانه هي الأثير الذي يحمل للمستمع أروع الأنغام وأحلى الكلمات ليصنع سيمفونية واسعة النغم والجغرافيا فصارت غمامة تظلل عالم المستمعين في كل أرجاء العالم العربي.

 وقد مثل عبدالوهاب نجم شباك السينما حين اقتحم عالم السينما وقدم لجمهور السينما صوتا جديدا هو صوت ليلي المراد في فيلم يحيا الحب..

 والحق أن السبل التي طرقها عبد الوهاب ليصل إلى ما وصل إليه من السمو والرقي الفني في الغناء والموسيقى لم تكن ممهدة على الإطلاق، بل كان في أغلبها صعبة المراس وشديدة الوعورة ولكنه لم ينكسر.

  مضى محمد عبد الوهاب في طريقه غير عابيء بكل المشاق، يدوس على الأشواك ليجني بعد ذلك ثمرة جهد جهيد في مشوار فني جدير بالتقدير والاحترام فهو البلبل الصداح صاحب الدكتوراه الفخرية والحائز على رتبة اللواء ولقب موسيقار الأجيال حتى رحيله في اليوم الثالث من شهر مايو عام 1991 ولكن صوته الشجي الرقراق مازال ينساب انسياب النيل مسافر عبر الوجدان العربي كله، زاده الفن والجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى