بغض النظر عن التاريخ الذي ظهر فيه الزهاد والمتصوفة، فإن الأهم من ذلك الأسباب والدواعي التي أدت إلى ظهور طبقة الزهاد، إذ يرى البعض أن ظهور المتصوفة بدأ مع منتصف الخلافة الأموية وبعد مضي نصف قرن من نشأة تلك الخلافة ذات الملك العضوض والنظام الوراثي لمقاليد الحكم.
وظهرت الجماعات السياسية التي تدعي لنفسها الأحقية في الخلافة إلى جانب فرق الشيعة والخوارج المناهضة للأمويين؛ فلجأت الدولة الأموية إلى اتخاذ عدة سبل لإلهاء الناس عن فساد بعض سياساتها من ناحية، ولإخماد نار الثوار الثائرين عليها هنا وهناك.
وما كان منها إلا أنها غضت الطرف عن بعض المسالك غير الحميدة والتي كانت توارت مع نهاية عصر الخلفاء الراشدين، إذ ظهرت حياة اجتماعية جديدة تعيش فيها طبقات تحيا حياة مترفة شديدة النعومة وغارقة في نعيم الله.
ولكن هذه الطبقات لم تقف عند حد الحلال بل تجاوزته إلى ألوان من الفسق والفجور وعجت قصورالبعض بالجواري والقيان.. وتدريجيا شرعت مظاهر التحلل تعرف طريقها إلى هذه الطبقات وعاد شعر الهجاء المشحون بكل طاقات الجاهلية من سب وقذف وخوض في الأعراض وفخر بالأنساب ومعايرة بالعاهات الجسدية والفقر فيما عرف بشعر النقائض الذي تهالكت عليه الجماهير وكأنه لون من الردة بأسلوب غير مباشر.
وامتدت هذه الطبقات إلى أن بلغت ذروتها أيام العباسيين بصورة أشد خطرا.
وإزاء هذا التراجع الأخلاقي والتخلي عن القيم الإسلامية الرفيعة المقرونة بالتطلع إلى الآخرة فباعت الدنيا لتشتري الآخرة ثم نكثت عهدها ونقضت غزلها ساء ذلك طبقة أخرى من المجتمع تناهض وتكافح هذا النبت الفاسد بمطالبة هؤلاء إلى العودة إلى حب الآخرة، والتعلق بها والتلذذ بحياة الزهد والتقشف والبعد عن التكالب على الدنيا ونعيمها، وضرورة العودةإلي القلب الصافي والضمير النقي والنفس التواقة إلى الآخرة ولقاء الله.
وكان من أعلام هذا الاتجاه الحسن البصري وغيره المئات من المتصوفة والزهاد.. وللأسف الشديد أن هذا الاتجاه الصوفي قد تم تشويهه بزج طبقات الدراويش وأصحاب البدع والخرافات والشعوذة وسط شيوخ الصوفية ومريديهم، وبخاصة في عصور الضعف والانحطاط فكان لكل هذه الطبقات الفاسدة أنصار يدعمونهم وبتشيعون لهم فأفسحوا لهم المجال في ( التكيات) لياكلوا ويشربوا دون عمل وأصبح (التواكل) هو المبدأ السائد لدى هؤلاء!!
ومن هنا، وقر في أذهان العامة والدهماء إن التصوف دعوة إلى القعود وملأ البطون وتطويح الأجساد في طبقات الذكر على وقع معلوم والتبرك بمشاهد ومقابر أولياء الله الصالحين.
وعلى جانب آخر من فهم جوهر التصوف وحقيقته بوصفه طريقا إلى رضا الله وحبه وأن هذا الطريق بمثابة سفر طويل لا يقطع فيه المسافر خطوة من القرب من الله إلا بالمكابدة والمعاناة من الزهد في مظاهر ومتع الدنيا الكاذبة وعلى المسافر أن يتزود بزاد التقوى والعمل وفقا لقواعد الشريعة الإسلامية وليس كما يدعي المنحرفون والضالون منهم بسقوط التكاليف عن السائرين في الطريق؛ إذ لوكان الأمر كذلك لكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق أحق وأولى وأجدر بسقوط التكاليف عنه.
ولكن الحقيقة التي لامراء فيها إنه ظل العبد الشكور القانت الأواب رغم أن المولى عزوجل غفر له ما تقدم من ذنبه وماتأخر.
إذن فالمتصوف الحقيقي هو المقتدي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم اقتداء تاما فالمتصوف الحق هو المجاهد نفسه وهوالجهاد الأكبر كما وصفه الرسول الكريم، وذلك بمجاهدة نزوات وشهوات النفس ولايسمح لها إلا بما أحله الله ويحول بينها وبين ماحرمه الله وهو المجاهد شياطين الأرض والفاسدين وهو الذي يجهر بالحق أمام كل ظالم غير عابئ بما قد يلقاه من شقاء في دنياه إذ يجد لذته الحقيقية في نيل رضا الله وفي العذاب من أجل هذا الرضا الإلهي مؤمنا بأن نيل رضا الدنيا كلها في سبيل سخط الله عليه فذلك هو الخسران المبين.
والمتصوف الحق من يكسب قوت يومه بعرق جبينه ولايسأل الناس أبدا وهو الذي يرعى أولاده وعياله حق الرعاية ولا يضيع من يعول معللا ذلك بأنه مشغول بالعبادة من صلاة وصيام وغير ذلك.
والمتصوف الحق من يؤدي عمله بإتقان ومكسبه من حلال كما أنه حريص على العلم والتعلم ومهما عددنا صفات المتصوف فإننا لن نجد وصفا شاملا جامعا له إلا في كتاب الله العزيز في وصفه للمؤمنين الفالحين، أليس المتصوف إلا مؤمنا حق الإيمان ؟
فإذا رجعت إلى التنزيل وتلوت سورة المؤمنون فإنك قد وقفت بالفعل على حقيقة أولئك المتصوفين، وعلينا أن نعيد قراءة الصوفية وفهما فهما جديدا في ضوء واقعنا المعاصر وتفعيلها عمليا في سلوكنا نحن المسلمين بوصفها الدواء الشافي لكل أدوائنا المزمنة في البيت والشارع والمصنع… إلخ.
ولكن علينا فقط أن نقوم بعدد من الإجراءات نحو هذا العلم لنقربه إلى العامة قبل الخاصة فهو علم للناس جميعا ومن معوقات وصوله إلى جموع الناس وقصره على فئة منهم هو أن النصوص التي تركها لنا علماء الصوفية والتي تمثل متن هذا العلم بها من المصطلحات المعقدة والتي تتكئ على الرمز والإشارة المهمة ما يجعلها مستغلقة على أذهان السواد الأعظم من أبناء الأمة.
ومن ثم ينبغي على شيوخ الطريق أن يحلوا طلاسم والغاز هذا العلم وتوضيح مفاهيمه وتسهيل نصوصه وحكمه وتنقيته من شطحات الشاطحين فيه وربطه بمشاكلنا المعاصرة واتخاذه السبيل الأمثل لإصلاح إعوجاج النفس والقيام على تهذيبها لتكون أهلا للقرب من المولى عز وجل وهدايته (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) من الآية 69/العنكبوت.
ولعل هذا السعي لتجديد الخطاب الصوفي يتوفر له ثلة من المحبين للصوفية الحقة ومن يمتلكون موهبة تقريب النصوص والحكم الصوفية إلى أذهان جمهور المسلمين في عصر طغيان طوفان المادية على عالمنا الإسلامي وماترتب عليه من مصائب لا طاقة لنا بها.
زر الذهاب إلى الأعلى