حسنا ما فعلت القيادة السياسية في مصر؛ إذ دعت كل جموع الأطياف السياسية وغير السياسية، للجلوس على مائدة الحوار الوطني، لمناقشة قضايا المجتمع المختلفة كافة، وتحديد المسارات حاضرا ومستقبلا.
وهي دعوة قوبلت بالترحاب الشديد من كل القوى السياسية؛ ففيها ما يدل بوضوح على أن الدولة المصرية تسير بثبات ورشد لإرساء أسس ومبادئ وقيم لجمهورية جديدة تتلاشى فيها سلبيات الحقب الماضية، وتستشرف المستقبل القادم بطرح الرؤى المتنوعة والجادة حول كل قضية من القضايا بهدف فرزها فرزا جماعيا شاملا للوصول إلى ما يمكن الإجماع عليه من قضايا، وسبل حلها، لتخطو مصر نحو مستقبلها في ثقة واقتدار.
وقد جاءت هذه الدعوة المحمودة، بعد أن استقر لدى قناعة القيادة المصرية بأن الوقت قد حان لعقد هذا الحوار الوطني، بعد أن خاضت الجماهير المصرية ثورتين متواليتين (25 يناير و30 يونيو) لإصلاح كافة الأوضاع التي أصابها الترهل ونالت منها الشيخوخة وبدت ملامح العجز والجمود، فقدمت جموع الشعب المصري تضحيات فادحة من دمائها نشدت من ورائها جمهورية جديدة رشيدة ، يشعر فيها كل مصري بالأمن والأمان والعدالة والحرية والأمل في المستقبل له وللأجيال القادمة.
وقد كشفت هاتان الثورتان عن حقائق وخبايا ماكان لها أن تتكشف مجردة صريحة إلا بهما.. وأهم تلك الخبايا هو انكشاف حقيقة وجوهر جماعات التطرف والإرهاب المقنعة بأقنعة الدين والموسومة بضيق الأفق، والتي يعمل بعضها وفق أجندات أجنبية تناصب مصر العداء، وتتربص بها الدوائر.
ومازال المصريون الشرفاء يدفعون ثمنا باهظا، جراء التصدي لكل ذلك من أجل استئصال شأفتهم لتبدأ مصر انطلاقة جديدة نحو النهوض والتنمية والتقدم.
وتلك معركة أخرى لا تقل ضراوة عن محاربة الإرهاب في كل جحر من جحوره؛ فبناء الأوطان ليس بالأمر الهين وإنما هو معركة طويلة، وممتدة تحتاج من الشعب المصري الصبر والثبات وقوة العزيمة والانتماء والإيمان بأنه لاتبني الأوطان ولا تنهض ولا تتقدم إلا بسواعد أبنائها البررة الأوفياء ليبحثوا ويزرعوا ويصنعوا ويبدعوا في كل الميادين.
ولكي تتحقق كل هذه الآمال المشروعة، كان لابد من حوار وطني يتصف بالجدية والوعي والنزاهة والمكاشفة والمصارحة والتجرد من الأهواء بين كل أطياف المجتمع (أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية: الأزهر والكنيسة ورجال التعليم والبحث العلمي ،،، إلخ ) وذلك لتشخيص أدواء الوطن وتحديدها بوضوح وطرح الرؤى المختلفة لعلاجها واختيار الأنسب لها.
وفي هذا فليتنافس المتنافسون، وليشمر كل مواطن عن ساعديه لإنجاز مهامه الوطنية، التي يمليها عليه ضميره الوطني من أجل مصالح البلاد.
وحقا إننا في لحظة استثنائية من عمر الوطن، تنادي فيها مصر أبناءها، وتستنهض همتهم كيما يستخرج كل منهم مافي جعبته من أفكار لمنفعة الوطن ومصلحته.
وهنا ينبغي أن يترفع الجميع عن الصغأئر والدنايا وسفاسف الأمور والأهواء والذاتية الرخيصة والسمو فوق المكاسب الحزبية الوقتية الضيقة ليؤم الجميع وجهه نحو مصالح الوطن ومقدراته.
وليضع الجميع مستقبل مصر فوق كل اعتبار إذ لن يشذ عن هذه القاعدة إلا كل حاقد او موتور، فمصر تستنفر كل عقول أبنائها من المفكرين والباحثين وأصحاب الرؤى الواسعة.
ولاشك أن القضايا التي ينبغي طرحها على مائدة الحوار الوطني كثيرة ومتنوعة ومتباينة من حيث الأهمية ولهذا يجب أن يراعي أهل الحوار الأولويات التي تستوجب الحلول الناجزة والقوية لا الجزيئات والتفريعات التي تأخذ بالحوار إلى هوامش جانبيه فتحوله إلى (مكلمة) كعهدنا بحوارات تمت من ذي قبل في الماضي، يستعرض فيها البعض بلاغته الخطابية ومزايداته الرخيصة وتملقه الدنيئ!!
إن اللحظة الراهنة لا تتحمل هذا الهراء القديم، الذي كان يهتم بالجوانب الشكلية والأطر المزينة، ثم ينفض المولد وعندئذ لا ترى طحنا، بعد أن سمعت ضجيجا وإنما النتيجة هي قبض الريح.
وفي هذا الإطار، يجب أن يكون الحوار حول المحاور الأساسية التي من غيرها يكون الحوار منقوصا ومبتورا ومن غير تفعيل نتائجها يصبح الحوار لا جدوي منه ولا نفع إذ يكون مجرد محفل مكلمي ومضيعة للوقت.
ومن هذه المحاور أولا : التعليم والبحث العلمي ثانيا : التثقيف والوعي وموروث القيم الإيجابية وثالثا: الاقتصاد ورابعا: الصحة.. وخامسا: المجتمع المنتج وسادسا: العدالة الاجتماعية.. وسابعا: إصلاح الحياة الحزبية.. وسابعا: تسييد القانون وثامنا: الحريات العامة.
ومن هذه المحاور تنبثق قضايا فرعية شديدة الصلة بكل محور من المحاور السابقة ولاينجح محور من المحاور إلا بتفعيل كل مايتصل به من قضايا، فماذا لو تحدثنا عن التثقيف وأهملنا دور مراكز الشباب في القرى والنجوع؟
وأضع أمام المتحاورين بعض القضايا عسى أن تكون نافعة وهي: تنمية الحرف والصناعات المحلية والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر وإعادة بناء القيم عبر مراحل التعليم المختلفة والانتماء الوطني والخطاب الإعلامي كأداة للوعي والتثقيف والبناء لا للتشويه وإهدار القيم الاجتماعية والهوية المصرية وإصلاح الإدارة المحلية.
والواقع أن أهمية الحوار الوطني لن تتضح أهميته لمجرد إجرائه بل بتفعيل نتائجه المتفق عليها وتحويلها إلى واقع يلمسه كل المصريين ويغير حياتهم تغييرا إيجابيا ينقلهم إلى مستوى التنافس الدولي ليشعروا بالفخر والعلياء وتتلخص المخاوف في أن تجمد نتائج الحوار وتعلب في أضابير وخزائن الأجهزة المعنية فحينئذ يقع يتملك اليأس المصريين في أي تغيير في حاضرهم ومستقبل أولادهم.