مقالات

من ثمرات المطالعة.. «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» (بقلم: د.حسني أبو حبيب)

«ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» (الإسراء: 85).

خلق الله تعالى الإنسان على صورته، وأودعه سره المكنون ، ونفخ فيه من روحه ، واختصه بقبس من نوره ، وفضله بذلك على كثير ممن خلق تفضيلا ، فأسجد له ملائكته ، وأسكنه جنته شريطة الالتزام بهديه ، وضمن له بذلك الهداية والسعادة، “فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى” (طه: 123).

والروح سر من الأسرار لا يصل لكنهها مخلوق، ولا يعرف حقيقتها عبد.

وقد خسر العالم كثيراً بعد أن همش التعامل معها، واكتفى بالتعامل مع الجسد، فتعامل طين مع طين، وخاطب تراب تراباً، فاستُبدل النور بالظلام، فعلت أحكام البطون، وانحطت أحكام العقول.

وما نراه اليوم في عالمنا المعاصر من صراعات لا مبرر لها، وخصومات لا سبب لها، وعداوات لا داعي لها ، ما هو إلا نتيجة طبيعية لأحكام تلك البطون، فطمعت البطون المتخمة في بطون جائعة ، واستحوزت الأمعاء المنتفخة من كثرة ما بها من زاد على قوت أمعاء لطالما أنّت من فروغها من أي زاد.

لذا نرى أمما أغناها الله تعالى طامعة في أمم بالكاد تجد قوت يومها، نرى دولا غنية تسارع في نزع القوت من دول فقيرة لا لأنها تحتاجه بل بقصد تجويعها، نرى دولا قوية في عز ومنعة سيطر عليها الهلع والخوف من دول ضعيفة مهزولة.

نرى ونرى ونرى كل يوم جديداً يزيد في عجبنا ودهشتنا، وما ذاك إلا لأن العالم سلم قياده للبطون واحتكم إلى قانونها، وأهمل الروح ونسيها، فسلط الله عليه الدنيا يركض فيها ركض الوحش في البرية، فلا يخرج من عناء إلا إلى عناء، ولا يستريح من شقاء إلا إلى ما هو أشقى منه.

ولقد جاءت رسالات السماء جميعها لتعلي من شأن الروح وتجعل منها حاكما على الجسد، وتقدم زادها على زاده، وغذاءها على غذائه، وقد سعد كل من سار على هذا المنهج الراقي الذي جاء به أنبياء الله ورسله، لعلمهم بذلك وعملهم بمقتضاه.

فكانوا أغنياء على قلة ما بأيديهم، شبعى على خواء بطونهم، أعزة ولا جاه لهم، كثرة بالرغم من قلة عددهم، أقوياء ولا سلاح لهم، أحراراً وهم في سجونهم.

وقد رسم لنا سيدنا عيسى عليه السلام صورة مجسمة للغنى الحقيقي في الدنيا عندما تعلو الروح على الجسد ، وينتصر قانون النور الرباني على قانون التراب والطين ، بمقولته الرائعة: خادمي يداي، ودابتي رجلاي، ودفئي في الشتاء مشارق الأرض، وإدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام، أبيت وليس لي شئ، وأصبح وليس لي شئ، وليس على وجه الأرض أحد أغنى مني.

نعم الغنى غنى الروح كما أن الفقر فقرها، فلن يشعر أحد بشبع طالما كانت روحه جائعة، ولا يحس أحد بغنى ما دامت روحه فقيرة، صور لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس).

لما اهتم صحابة رسولنا الكريم رضي الله عنهم بأرواحهم، وجدوا لذة في الجوع والعطش لا تدانيها لذة المطعم والمشرب، وأحسوا بمتعة للبذل والإيثار لا تقاربها متعة الاستحواذ والأثرة، وشعروا بنشوة للتواضع والإخبات والصفح والعفو لا تطاولها نشوة الكبر والغرور والتشفي والانتقام.

وعندها سخروا من الدنيا وطلابها، فكان لسان حالهم دوما: ماذا يصنع بنا أعداؤنا، بستاننا في صدورنا، إن قتلونا فقتلنا شهادة، وإن نفونا فنفينا سياحة، وإن سجنونا فسجننا خلوة، جنانا في صدورنا.

وختاما فما أريد قوله: إن من سعدت روحه فلا يصل إليه شقاء، ومن شبعت روحه فلا يشعر بجوع وإن ظل دهره طاويا.

نسأل الله تعالى إشراقاً لأرواحنا، وهديا لقلوبنا، ونوراً لعقولنا، وسعادة تملأ علينا حياتنا وأخرتنا.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. حسني أبو حبيب وكيل وزارة الأوقاف- الفيوم- مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى