مقالات

«المسيري».. وتشريح العلمانية !!  (بقلم: محمد ناجي المنشاوي- مصر)

يعد مشروع المفكر المصري عبدالوهاب المسيري (1938_ 2008) أهم مشروع فكري عربي إسلامي في فكرنا العربي الإسلامي المعاصر، لأنه كان الأكثر وعيا وعمقا للأنساق المضمرة وراءة العلمانية ونموذجها المعرفي الغربي، بالإضافة إلى تشريحه للتاريخ اليهودي وتفكيكه في موسوعته الفريدة (الموسوعة اليهودية).

 ويرى المفكر الموريتاني السيد ولد أباه،  إن مشروع المسيري الغزير يتمحور حول مجموعتين من الأعمال هما الدراسات العديدة حول الصهيونية، والدراسات حول العلمانية وليست المجموعتان بالمنفصلتين، بل ترتبطان من منظور (التحيز المعرفي) الذي شكل الإسهام النظري الرئيس للمسيري في حقل الدراسات الاجتماعية منذ انتقاله من (الأرضية الماركسية) إلى (الخطاب الإسلامي) الذي أصبح من أهم (رموزه) الجديدة).

  والحق أن لدينا في الحقل الثقافي العربي أربعة اتجاهات نحو الثقافة الغربية الأول يمثل الانحياز الكامل نحو الثقافة الغربية والثاني يرى وجوب التأسيس المعرفي في جميع فروعه، من خلال المشاركة في الاكتشاف والمبادرة الشخصية على مستوى الفكر والتحليل.

 والثالث يمثل موقفا وسطيا فياخذ من مناهج عديدة بشكل توفيقي أو تلفيقي بالدعاء الانفتاح على المناهج المتنوعة والرابع (وهو موقف واتجاه عبدالوهاب المسيري) ومن (يماثله)  هو الاعتقاد بفكرة (التحيز في المعرفة العامة والغربية بشكل خاص وهو يحاول نقد المواقف الغربية من جهة والمواقف الثلاثة السابقة من جهة أخرى.

 ويقرر ياسين سليماني أن موقف المسيري يختلف عن سابقيه في انه انتقال الفكر العربي من حالة السيولة التي كان يدرك بها الحضارة الغربية في شقها المعرفي إلى حالة جديدة تدرك ان للذات المدروكة رؤيتها المعرفية ومسلماتها التي تنحاز إليها لا إلى مسلمات الآخرين كما يرى أن المسيري في كتابه (إشكالية التحيز)  انطلق من وعيه بضرورة الانطلاق في وضع اسس علم جديد له آلياته ومناهجه ومرجعيته يتعامل مع قضية التحيز هذه،  ويفتح باب الاجتهاد بخصوصها،  فالجميع لديه إحساس بأن هوية الأمة سواء أكانت قومية او دينية مهددة بسبب تبنيها لنماذج ورؤى (الآخر)  دون إدراك عميق أحيانا للتضمينات المعرفية لهذه النماذج.

  ورأى (ولد أباه) أن الزاوية التي عالج فيها المسيري  (الصهيونية)  ليست هي الزاوية التقليدية في الفكر السياسي العربي والتي تتمثل في (أنها مخطط استعماري من أجل مصالح استراتيجية واقتصادية في المنطقة العربية.

 أما المسيري فينظر إليها باعتبارها وليدة النازية التي هي التعبير الأقصى عن النزعة المادية العلمانية للحضارة الغربية في بعدها العدواني، مستدلا براي المسيري في كتابه (الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ) الصادر عام 1997،  بقوله: ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث  جعلت الإبادة احتمالا كامنا فيه وليست مجرد مسألة عرضية.

 ويرى المسيري أن التقدم المادي الغربي حتمي يتيح متتالية واحدة لاغاية له ولا هدف إلا تراكم السلع والخبرات المادية فإنه بهذا المعنى مفهوم رجعي مغرق في الرجعية وعنصري مغرق في العنصرية بل ومعاد للإنسان والإنسانية وقد انطلق الإنسان الغربي في تجربته الامبريالية استنادا إلى هذا المفهوم المادي للتقدم فخرب ماخرب ودمر ما دمر.

  وقد ظهر ما يسمى بـ(الاشتراكية الامبريالية)  التي كانت ترى أن الإمبريالية الغربية تقوم بتدمير بني التخلف في الشرق وتخلق ظروفا مواتية للاستنارة والتقدم ولهذا رحب كارل ماركس باحتلال إنجلترا للهند كما رحب انجلز باحتلال فرنسا للجزائر كما ظهرت (الصهيونية الاشتراكية)، صهيونية العمال والفلاحين اليهود الثوريين الذين قاموا بطرد الشعب الفلسطيني بأسره من دياره تنفيذا لمخططهم الثوري التقدمي.

 ويقرر المسيري في كتابه (العالم من منظور غربي)  في طبعته الثانية /دار الشروق 2017 ص54 و55 (بتصرف)  :إن داخل العالم العربي الإسلامي مجموعة من المتعلمين في مقابل المثقفين والمبدعين والمفكرين إن هؤلاء استوعبوا تماما النموذج الحضاري الغربي واستبطنوه من دون أن يدركوا تضميناته المختلفة.

 وهذه الفئة من المتعلمين أخطر القطاعات الثقافية التي تقوم بعملية التغريب،  وإعادة صياغة القيم،  وإشاعة النموذج الحضاري الغربي بكل تحيزاته دون إدراك مضامينه ومراميه او بمعنى آخر درسوا العلم الغربي من أقواله ووجهة نظر الغرب، فمثلا  تعلموا في الكتب التي درسوها ان عصر النهضة في الغرب هو العصر الذي بعثت فيه الفنون والآداب والذي شاهد الإنسان وهو يضع نفسه في مركز الكون ولكنهم في المقابل لم يتعلموا أنه  عصر الميكافيلية وبداية التشكيل الاستعماري الغربي وإبادة الملايين.

 كما تعلموا ان الثورة الفرنسية هي ثورة الإخاء والحرية والمساواة وإعلان حقوق الإنسان ولكنهم لم يتعلموا انها الثورة العقلانية المادية الأولى التي عبد فيها الإنسان العقل والتي قامت دولتها المركزية بتصفية كل الجيوب الدينية والإثنية وانه باسم هذا النموذج المادي العقلي تم غزو مصر وفلسطين.

 كما تعلموا ان التقدم هو الحقيقة الأساسية في تاريخ البشر ولم يتعلموا ان لهذا التقدم ثمنا فادحا في بعض الأحيان يفوق ماقد تم تحقيقه من أرباح مادية،  وتعلموا أن نيتشة هو فيلسوف الإنسان الأعظم، ولم يتعلموا انه فيلسوف اختفاء الإله والإنسان وتعلموا ان البنيوية والتفكيكية هي مدارس في التحليل الأدبي ولم يتعلموا انها مناهج تضمر رؤية معادية للإنسان.

  ويؤكد المسيري ان من التحيزات للنموذج المادي الغربي واللانهائي الكمي في نظرية داروين ونيتشة حيث الصراع من أجل البقاء وإن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان،  كما أفرز هذا النموذج المادي مااسماه المسيري بالإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني، اللذان يمثل الدافع من وجودهما هو المنفعة واللذة فالإنسان الاقتصادي : خاضع تماما للظروف الاقتصادية المادية والرغبة في مراكمة الثروة ووسائل الإنتاج والرغبة المتزايدة في الاستهلاك ويعيش داخل آلية السوق والمصنع اما الإنسان الجسماني فهو إنسان نمطي يعيش ليستهلك وتكتسب حياته معنى من معدلات الاستهلاك التي ينفقها (كائن بيولوجي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى