لتسعةِ عقود خَلَوْن، ومنذ نهاية مايو عام 1934م وعند الساعة الخامسة عصرًا، بينما قال المذيع المصري الأول أحمد سالم مدويا في الميكرفون: (هنا القاهرة) والإذاعة المصرية تبني جدارًا عتِيَّا منيعًا، ألا وهو (الضمير الوطني).
إن بناء الضمير الإنساني، لأمر أشقُّ تنفيذا وأبعدُ منالاً، من بناء المعابد والأهرامات والدُشَم والمخابئ والمصانع والمتاحف والملاعب والقصور؛ فإذا كان بناء هذه المنشآت المادية على الصعيد الجغرافي الصلب الملموس يتطلب أسبابًا ماديةً يسهل جلبها وتوفيرها، فإن بناء الضمير المعنوي الذي يمثل الكتلة اللدنة، على الصعيد الجغرافي المَرِن المحسوس، والذي يتجلى حبًا وولاءً وانتماءً وحرصًا واعيًا يقظًا يصعبُ اختراقُه، أو تدميره بين عشية وضحاها، سواء بدانة مدفع أو بقذيفة صاروخ…
لقد ظل الأثير الإذاعي يَبُثُّ عَبر موجاته المتوالية والمتوازية، وبواسطة تردداته النشطة القلقة والنابضة، روحَ الوطنِ وعقلَه الجَمعي، بين ملايين المستمعين المتابعين بشغف صباح مساء، ليأخذ عليهم قلوبهم اللاهجة بحب هذا الوطن والإخلاص له والفداء في سبيله، والذودِ عنه بكل ما يُمتلك حامل هذا الحب، بما يمكن أن نسميه (بالكتلة الحرجة) وهي تمثل القوى الناعمة المؤثرة في كل ما هو مادي صلب خشن، فببنائها تقوم كل صور الحضارات والدول على المستوى المادي للجغرافيا الملموسة، فإذا كان مفهوم الدولة يتلخصُ في عناصرها الثلاثة المعروفة: (الأرض والشعب والنظام القانوني)، فإن غياب عنصر رابع يجعل من هذا الكيان الجغرافي المادي بناءً هشَّا أو جسدًا بلا روح، وهذا العنصر الرابع نراه متمثلا في (الثقافة) الوطنية سليمة البنية صادقة الولاء.
إن الولاء والبراء هما أساسان في الانتماء الوطني من حيث الوعي بمقدرات الوطن وبنواحي تهديداته، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الحرص على أمن هذا الوطن وسلامته وازدهاره وشموخه بين كافة أوطان الأرض، لمن الأهمية بمكان أيضا. لقد قامت الإذاعة المصرية وظلت، بل وباتت ساهرةً على تشكيل هذا الوعي الجمعي العام، بين أبناء الشعب المصري بكافة طبقاته وأطيافه وأجياله وطوائفه، بمضمونها البرامجي المُوَجَّه بعنايةٍ واعية وبعاطفة صادقة، ليبث الأفكار مع المشاعر، ليصنع العقلَ المستنير المُترع بالوجدان الصادق.
إن استهدف العقل الجمعي المصري بِمُوَجِّهات أفكار:(طه حسين وعباس محمود العقاد، وفكري أباظة، وأحمد أمين، وسَهِير القَلَماوي….. غيرهم كُثُرٌ من جيل الرُوَّاد والمفكرين)، كما قدمت منبهات القلب المصري بروحانيات تراتيل السماء بصوت:( الشيخ محمد رفعت، وعبدالباسط عبدالصمد، والمنشاوي، والبنا، ومصطفى إسماعيل،…. وابتهالات النقشبندي والطبلاوي ومحمد عمران وشدوهم المتجلِّي الذي أرهف الحِس الروحاني العام في مصر وما حولها، وأضاء السبيل لدى السائرين على الطريق.
لقد حَلَّقت أصوات هؤلاء مع غيرهم من كِبار القُرَّاء والمنشدين المبتهلين، متجاورة مع ترانيم شركائم الأشقَّاء في الوطن بأعياد الميلاد والقيامة، وغيرها من الأعياد والمناسبات المسيحية، مع قُدَّاس أيام الآحاد. لقد أنصت كل المصريين لما أُرسل إليهم عبر إرسال المحطات المصرية، وبواسطة روادٍ أفذاذ، أثروا الأفق العربي والإسلامي والمسيحي في جَنَبات الأرض منذ بدايات بثها الأولى.
ولا يُهمل الدور الإذاعي في تكوين الذائقة الفنية لاستماع البرامج الموسيقية والتمييز بين الغث والثمين من أصوات المطربين النجوم لتتألق في الأفق نجوم كل من: (أم كُلْثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش، وليلى مراد، وعبدالحليم حافظ، ومحمد فوزي…….)، ومن تابعهم من أصوات الفن الراقي الملتزم، بجوار ما أُذيع من مسلسلات إذاعية، وأفلام ومسرحيات مسموعة، أثْرَت عالم الخيال الروائي الذاتي، لدى المستمع المصري البسيط قبل المثقف.
لقد صاحب ذلك الزخم الفكري والروحي والفني واحتوا، أداء برامجي غاية في الحِرفية المهنية، خلال خريطة برامجية ممتدة صادقة ومتفانية في آلياتها المُتقَنة، لتغطي الأثير في أجواء الليل موصولة بأجواء النهار، لدى برامج: (إلى ربات البيوت، وكلمتين وبس، وبكرة يبتدي النهاردة، وحكايات أبلة فضيلة للأطفال، وعلى الناصية، وزيارة لمكتبة فلان، وصالون الفكر، وصحبة وأنا معهم، وعلماء في دائرة الضوء وشاهد على العصر، ودقوا الشماسي، وبرامج الإفتاء والمواعظ الدنية، والتوعية الصحية والاجتماعية والسياسية…..إلخ).
كان أداء هذه البرامج فاعلا في تكوين الضمير الاجتماعي والروحاني والعقلي والفكري والثقافي والسياسي والفني، بشكل حرفي وسطي مستقيم بالغ الفاعلية والأثر في قطاعت جماهير المستمعين، على يد روَّادٍ بعينهم هم: (صفية المهندس، وفهمي عمر، وحلمي البُلُك، وحمدي الكُنَيِسي، وعمر بطيشة، وفؤاد المهندس، وآمال فهمي، وفاروق شوشة، وآمال العمدة، ونادية صالح، وآيات الحُمصاني….) وغيرهم من نجوم لمعت في فضائنا الإعلامي، ومن كانوا يستضيفونه من ضيوف أعلام الفكر والعلوم والدين والسياسة والرياضة والفن والثقافة وأساتذة الجامعات المصرية.
لقد كان لأثير الإذاعة المصرية عبقْ يحمل سحرا ما، يسري متسللا في دواخل مستمعيه، في قوة صوتية إذاعية ناعمة، تختلط فيها نبرات الصوت بأطياف الصور وأريج العطور ومذاق الأشهى من الطعوم. لقد تميزت قنوات البَثِّ المصري عبر الأثير الإذاعي التي بدأت بإذاعة واحدة لتتفرع إلى محطات متعددة: (البرنامج العام، وإذاعة القرآن الكريم، وصوت العرب، والشرق الأوسط، وإذاعة وادي النيل، والشباب والرياضة، وإذاعة فلسطين، والبرنامج الأوروبي….) وما يتبع ذلك من دفقات سيل عَرِم من الإذاعات المتخصصة، فنيا، ورياضيا، وأُسريا وشبابيا، وتعليميا وتربويًا وصحيا، إلى التخصص في إذاعة الأخبار، ونجوم، ونايل، ونغم “إف إم” ، وإذاعة الأغاني، وإذاعة البرنامج الموسيقى،…… وهَلُمَّ جرَّا من الإذاعات المتوالدة على مر الساعة.
إن ما تجدر الإشارةُ إليه، هو ما ميَّز الدور الإذاعي على غيره من أشكال الميديا الحديثة والمعاصرة، هو طبيعة هذا الدور من: 1_ منضبط يخضع للرقيب العام الناضج والمسئول، الذي يراعي الذوق العام والأمن العام والسكينة العامة والآداب العامة للمجتمع. 2_ أنه واسع الانتشار يشمل الجماهير أينما كانوا، في البيوت أو في الورش والمصانع، وعلى الطُرُقات وفي الحقول، وفي المساجد أو المتنزهات وفي وسائل النقل والسيارات.
3_ سهل الاختراق والنفاذ والفعالية؛ حيث لا يشغل المتلقي عما بيده من أعمال منزلية أو مسئوليات أو رياضات أو قيادة للسيارات وغيرها…… إلخ. 4_ سهل الاستقبال؛ حيث بساطة أجهزة الراديو المستقبلة للبث، ورُخص ثمنه ليكون في متناول الجميع، علاوة على سهولة تشغيله واستعماله، من قِبل كلِ الفئات. 5_ يثري النشاط التخيِّيلي، لدى المُتلقي؛ حيث يُطلق خيال المستمع في العنان غير مُقَيَّدٍ بخيال المخرج التليفزيوني أو السينمائي، فالخيال تيار شعوري وملكة خاصة فطرية، تصاحب خَلْق الإنسان وتنمو داخله إلى آخر حياته، فللراديو دورٌ فاعلٌ في حماية ملكة الخيال وحفظها وتطويرها.
من هنا يُشارُ إلى دور الإذاعة المصرية الذي لا يُستهان به، في بناء وعينا الشعوري واللاشعوري العام، مما صنع لحمة وطنية تماسكت وأنقذت مصر في أحلك الظروف، من السقوط والتردي في مستنقعات الفتن والتقسيم؛ لتكون دار الإذاعة المصرية، هي عرين الولاء الوطني، ومستودع الوعي الوطني، وصمام الحرص الوطني، في مواجهة حِيَل التطييف وصناعة الفتن الطائفية وغرس أسافينها، ومؤامرات التغريب الخبيثة تحت اسم الحداثة والتنوير، والتعصب المتشنج تحت حجج الأصالة وحماية الموروث.
لقد بات الاهتمام بالدور الإذاعي وتطويره مُهِمَّا، في مواجهة السماوات المفتوحة عبر الأطباق اللاقطة لإرسال الأقمار الموجهة ثقافيا وسياسيا، وفي وطيس صدام ثقافي حضاري تتناحر فيه القوى العاتية ومحاور الشر، بأساليب الغزو الفكري الثقافية المتطورة أخيرا، لتستخدم التِقَنِيَّات الحديثة لاختراق البيوت والعقول، بل والمؤسسات الفكرية والأكاديمية والإعلامية، لتبث عبرها التطرف بجوار الإلحاد والمِثلية والتفسخ الأخلاقي والأسري…. لتفكيك الكيان الأكبر وهي مصر الكبرى في نفوس أبنائها وبناتها وعقولهم، وتحويلهم إلى شراذم متفرقة على أُسس مذهبية أو دينية طائفية، أو إقليمية وعرقية… إلى آخره من أشكال التفكيك للهدم للدوائر الكبرى، للاستقطاب ثم المحو من على خارطة الوجود..
لذا أضحى من غير المناسب الاحتفال بذكرى ميلاد الإذاعة المصرية خلال يوم أو أسبوع أو شهر، إنما التأمل الاهتمام المتريس لنلفت الانتباه إلى دور الإذاعة الفعال والمصيري في مستقبل بلادنا…… حفظ الله مصرنا وإذاعتها من كل مكروه وسوء.