حلَّ الدكتور حيدر الجبوري ضيف الشرف على مؤتمر «المشترك الثقافي بين مصر والعراق.. حضارة الموجة الأولى في عالم جديد»، والذي عقد بأتيليه القاهرة يوم السبت الماضي 8 يونيو برئاسة الدكتور حاتم الجوهري، بالتزامن مع لنعقاد جلستين افتراضيتين للمؤتمر واحدة للمشاركين من العراق، وواحدة للمشاركين من الدول العربية بالمؤتمر، والدكتور الجبوري هو وزير مفوض بجامعة الدول العربية، جاءت كلمته في افتتاحية المؤتمر والمنشورة في كتاب أبحاث المؤتمر أيضا، معبرة عن أهمية المؤتمر ومشروع المشترك الثقافي ذاته في دورته هذه وفي عموم طرحه.
حيث جاء في كلمته:
“بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خير الأنام، رسولنا الكريم، وجميع رسلنا الكرام، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الأخيار المنتجبين.
أيتها السيدات.. أيها السادة الكرام
إسمحوا لي بداية أن أستهل بحمد الله كلمتي، وبالترحم على شهداء الأمة الغر الميامين، شهداء مصر، وشهداء العراق وفلسطين، وفي كل بقعة من وطننا العربي الكبير، من المحيط إلى الخليج، الذين ارتقوا دفاعاً عن حياضها، وعن حقنا في الحياة، فرووا بدمائهم الزكية أرضنا المقدسة لكي نزهر خضراء نضرة، كنضرة وجوههم المستبشرة.
وأن أحييكم بتحية العروبة.. مسجاة من العراق الأشم.. من أرض الفراتين.. من سومر، ومن بابل.. من آشور وآكاد، من أرض السواد.. ومن دار السلام بغداد.. ومن الوركاء تطل شامخة إلى عنان السماء.. كالطائر العنقاء.. ليحلق أوروك بجناحيه عالياً ليبلغ عين الشمس.. إلى أرض طيبة الطيّبة.. هبة النيل.. الأرض السوداء، كنانة الله ودرتها القاهرة- قاهرة المعز لدين الله المعطاء- حاملاً لكم رسالة جلجامش وأنكيدو.. إلى حورس وإيزيس وأوزوريس.. رسالة دجلة والفرات إلى النيل.. في رحلة شاقة لسبر غور وأسرار أهرام مصر وبرج بابل، وإكسير خلود حضارتيهما.
ثم بعد أيها الأكارم..
فقد كانت مصر وستبقى، حاملاً لمشعل الفكر الإنساني الحضاري القيمي، شأنها في ذلك، شأن كل الأمم الحيّة التي يمتد اشعاعها الفكري الى كل أصقاع الأرض، فكان قدرها على الدوام أن تنبري رافعة لواء قيم الأمة ورسالتها، وهي بذلك أرست مكانة حضارية متميزة بين أمم العالم. وبكل فخر واعتزاز أقول إن صنوها العراق حيث خُطَّ أول حرفٍ، ودارت العجلة، فبدأ التأريخ، شارك مصر في إيصال رسالته الإنسانية إلى أقاصي الأرض، علماً وفكراً وبناء، ليكونا معاً (مصر والعراق) بحق حضارة الموجة الأولى للبشرية جمعاء.
الأخوات والأخوة..
لعله من بديهيات القول إن أهمية الحديث عن موضوع “الذات الحضارية الأولى المتصالحة.. الفلسفة الثالثة لمشروع المشترك الثقافي العربي، مصر والعراق، حضارات الموجة الأولى في عالم جديد” تكمن في العنوان والمضمون.. من حيث العنوان تكمن الأهمية القصوى في فكرة الترابط الحضاري وإيجاد مشتركاته ونقاط تلاقيه وتفكيك تناقضاته لبلوغ ما ينشده الباحثون في هذا المضمار التاريخي، وهو الهدف الأسمى (بناء متن عربي جديد تتوافق فيه المتون والهوامش). ومن حيث المضمون الذي يتضمن الهدف الاستراتيجي الأبعد لمن يقرأ ما بين السطور، وهو إيجاد نوعاً من التكامل العربي يرتكز على المعطيات الحضارية المتلاقية بين مكونات الأمة الأساسية ومنها شعوبها صاحبة الامتياز والإرث الحضاري الإنساني العميق (مصر والعراق نموذجاً) بناءً على الهوية الجامعة المُعبّرِة عن الذات العربية.. وهو مشروع قيّم أكبر من أن أجمله بكلمات قليلة، ولا أبالغ حينما أقول إن الباحثين والكتاب في هذا السياق يقطعون طريقاً وعراً وصعباً ويبذلون جهداً مُعبِّراً عن مقاصدٍ أسمى من أن تحيط بها توطئةٍ متواضعة. كما أني لن أبالغ عندما أؤكد للقارئ الكريم أن مثل هذا المهمة قد تنوء بحملها مؤسسات إقليمية رصينة وقد تعجز عنها كذلك مراكز أبحاث متخصصة، لأنها كالبحر الكبير المتلاطم الأمواج، لا سيما أن هذا المشروع يقوم أساساً على مواجهة أصحاب نظريات “الصدام الحضاري” التي تطرحها مؤسسات غربية ويتبناها الكثير من مفكريها، أمثال هانتينجتون وفوكوياما وبرنارد لويس، باعتبار أن الحضارات يمكن أن تلتقي على كل ما هوي انساني استناداً على تجارب حضارات الموجة الأولى (العراق- مصر- الهند- الصين) نموذجا، أخذاً في الاعتبار نموذجي مصر والعراق.
فتحية لرئيس المؤتمر و”صاحب المشروع” الصديق الدكتور حاتم الجوهري وللنخبة المتميزة من الباحثين الشجعان من العراق ومصر وكل من كان بمعيتهم من علماء وأكاديمي الأمة وهم يدافعون عن قيمها الحضارية ويذودون عنها بأقلامهم الشريفة لتجاوز محنتها عبر عملية صياغة وعي جديد لجيل جديد للأمة قادر على أن يأخذ بزمام المبادرة من خلال استنهاض كل ما هو مشرق ومشرِّف في مكنوناتها الغزيرة، واستشراف أساس مادي ومعنوي قابل للتنفيذ ليكون بمثابة رافعة جديدة لأمتنا الزاخرة بالإمكانيات التي تجعلها بمصاف الأمم العظمى، وهي لعمري المهمة الأقدس لطليعة أمتنا المجيدة.. وفقكم الله وأخذ بأياديكم نحو العلا الذي ترتجونه، والله من وراء القصد.