بقلم- د. أيمن وزيري
رئيس مجلس إدارة اتحاد الأثريين المصريين أستاذ ورئيس قسم الآثار المصرية – كليةالآثار – جامعة الفيوم
منذ أن بدأ الإنسان المصري حياته على أرض مصر، بدا واضحاً أن هذه الأرض سوف تشهد إبداعات تحقق لها التكامل الحضاري والريادي في ظل العالم الذي تعيش في رحابه؛ فلقد منح الله مصر حدوداً طبيعية آمنة؛ ومصدراً ثابتاً للمياه هو نهر النيل؛ وأرضاً منبسطة إلى حد كبير سهلت الاتصال بين المصريين وجيرانهم؛ ومناخاً معتدلاً أشاع في نفوسهم البهجة والاطمئنان؛ وموقعاً متميزاً ربطهم بشعوب قارات الدنيا الثلاث. كل هذه العوامل وغيرها جعلت من الإنسان المصري إنسانا متميزاً يملك من الإمكانات ما يؤهله لينجز ويبدع، لتتبوأ مصر مكانتها المرموقة عبر العصور.
فقد عاش إنسان ما قبل التاريخ على تلك الأرض الطيبة -في شمال البلاد، ووسطها، وجنوبها- ليضع اللبنات الأولى للإبداع المادي والفكري، وشكل أساسيات حياته، فأوقد النار، واستأنس الحيوان، وعرف الزراعة. وما أن تحقق له الاستقرار، حتى انطلق نحو الآفاق يفكر فيما يجري من حوله في الكون، فالشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق من جديد؛ والقمر يسطع ثم يظلم ثم يسطع من جديد؛ والنبات ينمو ثم يحصد ثم ينمو من جديد؛ والنيل يفيض ثم يغيض ثم يفيض من جديد.
وبقدرته الخارقة على الملاحظة واستقراء الأمور، أدرك الإنسان المصري أنه لابد وأن يمر بنفس الدورة، ليعيش فترة مؤقتة، ويموت أيضاً لفترة مؤقتة، ثم يبعث من جديد إلى أبد الآبدين. ومن هنا كانت البداية، بداية تلك الكلمتين السحريتين اللتين غلفتا الحضارة المصرية بقوة الدفع والإبداع، البعث والخلود. إنه إنسان آمن بأنه يحيا ويبدع وينجز لكي يتحقق له كل ما يتمناه في عالم بلا فناء، عالم الخلود.
هكذا خطا الإنسان المصري خطواته الأولى نحو مسيرة الإبداع. وكانت البداية في التفكير في القوى التي تحرك هذا الكون، وبمعنى آخر مَن الذي خلق هذا الكون وما فيه من كائنات، فاتخذ لنفسه أرباباً، إلا أنه لم يكن يستطيع أن يحدد ماهية هذه الأرباب، فاختار لها رموزاً آدمية أو حيوانية، أو طيوراً وغيرها، رأى أن بها خصائص تلك الأرباب التي فكر في عبادتها.
وخطى المصري خطواته الأولى نحو الفن، وبدأ يضع ضوابط المدارس الفنية في النحت والنقش والرسم، وفعل الشيء نفسه بالنسبة للزراعة، والصناعات الحرفية، والإدارة، وتقاليد الملكية، وذلك بعدما توحدت البلاد مع بداية الأسرة الأولى.
وتوج المصري إبداعاته بمعرفته للكتابة التي جعلت مصر أسبق شعوب الأرض في هذا المجال. ولم يكتف المصري بخط واحد (الخط الهيروغليفي)، وإنما توج فكره فمنح مصر خطوطاً أخرى، هي (الهيراطيقي، والديموطيقي، ثم القبطي في آخر مراحل لغته). وعاشت اللغة المصرية أطول فترة في تاريخ لغات العالم القديمة، ولا تزال تعيش بين ظهرانينا حتى الآن، في أسماء بلدنا، وفي لغتنا الفصحي والعامية، وفي أسماء مدننا وقرانا.
وتستمر مسيرة الإبداع، ويبتكر المصري صناعة الورق من نبات البردي، لينتقل وينقل غيره من شعوب البلدان المجاورة من مرحلة الكتابة على الحجر إلى مرحلة الكتابة على مادة سهلة خفيفة الحمل، وليلعب البردي دوراً كبيراً في نقل الإبداع الفكري المصري عبر الأرض المصرية في سهولة ويسر، ولنقل الثقافة المصرية خارج أرض مصر.
ويتابع المصري مسيرة الإبداع في العلوم الهندسية والعمارة، والفلك، والطب والكيمياء، والجيولوجيا، ويتفوق على نفسه في هذه المجالات. فمن منا لا يقف مبهوراً أمام رأس عجائب الدنيا السبع (الهرم الأكبر) من حيث دقة الزوايا، وأسلوب البناء.
ويظل الهرم شاهداً معبراً عن فكر هندسي ومعماري متميز، وعن عقيدة واضحة، ملهماً لكل الأجيال، ومذكراً لنا نحن الأحفاد بعظمة الأجداد، وضارباً بعرض الحائط كل دعاوى الحاقدين على الحضارة المصرية، والمتشككين والمشككين في مصرية هذا الإعجاز الذي نشم فيه فكر وجهد وعرق المهندس والمعماري والعامل المصري القديم.
وقد رأيناهم يبدعون في إعداد الألوان والأحبار والأحجار، وفي دراستهم لطبيعة الأرض المصرية، واستثمار المحاجر والمناجم.
وإبداعاتهم في فنون النحت والنقش والرسم تنطق بها الآثار التي تنتشر في ربوع مصر، والمقتنيات التي تضمها متاحف مصر والمتاحف الأجنبية.
فمن يستطيع غير المصري أن ينحت تمثالاً من حجر الجرانيت يصل وزنه إلى ألف طن؛ ومن يستطيع أن ينحت المسلة من قطعة واحدة من الجرانيت لتقف شامخة على مر الأزمان. ومن يتصور أن الألوان لا تزال زاهية وكأن فرشاة الفنان قد وضعتها بالأمس؛ ومن يستطيع أن يستوعب ذلك الفهم الواعي والدقيق للعناصر التشريحية للإنسان والحيوان والطير كما فهمها المصري في ذلك الزمن السحيق.
ومن يستطيع أن يدرك ذلك التقدم الهائل في التعامل مع معادن الذهب والفضة والبرونز والنحاس. وهل بوسع الفنان في العصر الحديث أن يبدع كما أبدع الإنسان المصري القديم في مجال صناعة الحلي، إنه لا يملك إلا أن يقف مبهوراً يدرس ويتعلم، ثم يقلد.
ويجيء الأدب المصري كمرآة تعكس وجه وفكر الإنسان المصري، فكان أدب القصة والرواية، والأسطورة، والشعر، والأدب الديني، وأدب النصيحة والحكمة.
وتستمر مسيرة الإبداع في العمارة، وهل يمكن لعقل أن يتصور- إلا بعد دراسة شاملة واعية- كيف تمكن المصري من تشييد معابد كالكرنك، والأقصر، وهابو، وغيرها، والتي تحكي كل كتلة حجر فيها، وكل أزميل نحات، أو لمسة فنان -عشقَ الإنسان المصري لوطنه، وانتماءَه الذي لا يقارن، وفكرَه الذي لا يبارَى.
ومَن منا لا يأخذه الانبهار وهو يزور معبد “أبو سمبل” الكبير، أضخم معبد نحتته في الصخر أيدٍ بشرية في أي مكان من العالم القديم، ذلك الإبداع الذي يستشعر الإنسان عجزه وهو يقف أمامه مشدوهاً.
وأبدع المصري في مجال العسكرية، ويكفي أن نشير إلى قدرته الفائقة على استيعاب السلاح الذي غزاه به “الهكسوس”، ألا وهو (العجلة الحربية)، فقد استوعب هذا السلاح الذي كان من قبل قد هُزم به، ثم طوَّره ليطرد به العدو، وليكون هذا سلاحه الرئيسي في تكوين أعظم امبراطوريات العالم القديم في عصر الدولة الحديثة.
فقد خرجت الجيوش المصرية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تؤمن الحدود وتوسعها، وتلقن الشعوب المجاورة دروساً في فنون العسكرية، وفي فنون التعامل مع المهزوم، إذ تعاملت بتحضر شديد، واحترام لتقاليد الحرب والسلام.
ومن حق الحضارة المصرية أن تفاخر بملوك لهم باع طويل في العسكرية، من أمثال “سنوسرت الثالث”، و”تحتمس الثالث”، و”سيتي الأول”، و”رعمسيس الثاني”، و”مرنبتاح”، و”رعمسيس الثالث”.
وأبدعت الحضارة المصرية في مجال العلاقات الخارجية، إذ أقامت مع جيرانها أرقى أنواع الدبلوماسية، فعقدت المعاهدات مع الدول المناوءة، لتخرج من أرض مصر أقدم وأهم معاهدة سلام في التاريخ، تلك التي عقدت بين الملك “رعمسيس الثاني”، والملك الحِثِي “خاتوسيلي”.
ولم تتوقف إبداعات الإنسان المصري عند حدود أرض مصر، ولكن تخطتها إلى أراضي بعض الدول المجاورة، فتركت فيها بصمات واضحة أشرنا إليها في مواضع أخرى.
ولقد عرف المصريون الكتابة قبل غيرهم، وإذا كان الفينيقيون هم أول شعب عرف الأبجدية (في حوالي القرن 12 ق.م)، فإنهم قد تأثروا بالأبجدية السينائية التي كُشف عنها في صخور (جبل المغارة) و”سيرابيط الخادم” في جنوب سيناء، وهي الأبجدية التي أثرت على اليونانية واللاتينية.
ويدين العالم بالفضل للمصريين في اكتشاف صناعة الورق من نبات البردي. وكان البردي يصدر إلى العديد من دول البحر المتوسط وغيرها، ويكفي أن أحد فلاسفة اليونان كتب لزميل له قائلاً: “لم نعد نستطيع أن نكتب؛ لأن البردي لم يعد يصلنا من مصر”.
وفي مجال الأدب، وخصوصاً أدب الحكم والنصائح والأمثال والأناشيد، ترك المصريون أثراً واضحاً، فنشيد “إخناتون” -أول الدعاة بين ملوك مصر للوحدانية- قد ترك أثراً واضحاً في مزامير النبي “داود”.
وقد كانت حكم الحكيم “آمون إم أوبت” مصدراً لسفر الأمثال. وفى الموسيقى يكفي أن نعلم أن الموسيقي اليوناني “فيثاجوراس” (واضع أصول النوتة الموسيقية، والسلم الموسيقي) قد استفاد من خبرة المصريين في هذا المجال.
وفي المسرح كانت مصر رائدة، فمنذ آلاف السنين وأسطورة “إيزيس” و”أوزيريس” -التي تمثل على المسرح المصري القديم- خير دليل على ذلك.
وفي الزراعة والري، استفادت بعض دول العالم القديم من تجربة مصر في مجال إنشاء السدود.
وفي مجال الديانة، عبد الأرباب المصريون في بعض بلدان آسيا، وفي بلاد اليونان والرومان، وأشهر هذه المعبودات “إيزيس”.
وفي مجال الرياضة البدنية، مارس المصريون الكثير من أنواع الرياضة، وأخذ العالم القديم منهم رياضة المصارعة الرومانية، والتي نرى أكثر من 200 حركة منها مسجلة على جدران مقابر “بني حسن” في المنيا.
ومن فرط هذا الإبداع رفض عقل الغربيين أن يصدق في بعض الأحيان، فخرجوا علينا بما يسمى بالهوس بمصر (Egyptomania)، وقلدوا الحضارة المصرية في الكثير من جوانب حياتهم.
وبالكشف عن حجر رشيد عام 1799م، وفك رموز اللغة المصرية على يد “شامبليون” عام 1822م، ظهر علم المصريات (Egyptology)، ودرست الحضارة المصرية بمنهج علمي في الكثير من جامعات أوروبا وأمريكا.
ورغم كل ما حققه علم الآثار المصرية من تقدم، إلا أن قدر الحضارة المصرية – التي يصعب على العقل أن يصدق الكثير مما أنجزته – قد جعل بعض الناس في الداخل والخارج يبتعدون عن الحقائق العلمية، ويلجأون عن عمد أو غير عمد للإساءة للحضارة المصرية، ويخرجون بذلك من إطار الانبهار إلى منهج التشويه.
وكان الهرم الأكبر أكثر آثار مصر سلباً للب الناس في كل مكان. وبدلاً من الالتزام بالأدلة الأثرية والمنهج العلمي، دخل الأمر في إطار الحقد الحضاري أحياناً، أو في إطار تصفية حسابات تاريخية، أو الحكم عن غير علم، أو الرغبة في أن يصيب أصحاب هذه الآراء شهرة إذا ما زجوا بأنفسهم في قضايا الآثار، أو بهدف انتزاع إنجاز الأجداد من الأجداد أنفسهم، ومنا نحن الأحفاد.
فقد ذكر بعضهم أن أناساً هبطوا من الفضاء وأقاموا هذه الحضارة، وكأنهم لا يرون أن الإنسان المصري كان مؤهلاً للنهوض بعبء هذه الحضارة.
وقالوا أن مصر هبة النيل لا غير، بمعنى أنه لولاه لما قامت هذه الحضارة في هذه البقعة من العالم. إلا أنه لو كان الأمر كذلك، لمنح النيل ذاته ذات الحضارة أو شيئاً يشبهها في كل الأراضي التي يمر عبرها من منبعه إلى مصبه، ولكن الإنسان المصري هو الذي عرف كيف يتعامل مع النيل ويستثمره.
كذلك فقد تحدث البعض عن قارة (أطلانطا)، وعن أن سكانها هم الذين أقاموا الحضارة على أرض مصر، وهل هناك من أثر لحضارة لقارة (أطلانطا) المزعومة، حتى يكون لسكانها المزعومين حضارة على أرض غيرهم.
وقال البعض أن قوم “عاد” البائدين هم الذين بنوا الحضارة المصرية بادعاء أنهم كانوا يتمتعون بطول القامة وقوة الأجساد؛ ومن ثم كان بوسعهم أن يرفعوا الأحجار الضخمة إلى ارتفاعات شاهقة بحسب ظنهم؛ فهل جاء قوم “عاد” إلى مصر؛ وأين الشواهد على ذلك بخلاف هذه الظنون. ثم هل تُبنى الحضارات بالعضلات، ثم أين هي شواهد حضارة هؤلاء وقد انخسفت فلم نر منها شيئاً يعين على النظر في هذه الأوهام؛ ثم ما الذي يُقنع في الادعاء بالأحجام الأسطورية لهؤلاء العماليق كما يزعمون من غير دليل سوى الأساطير المختلقة لأهل البوادي قديماً، والتي لا يقبل العقل أن يتصاغر بقبولها بعد أن رسخ في العلم الحديث، ولم يعد يقنع إلا بدليل وحجة.
وتحدث البعض عن أن “كليوباترا” كانت سيدة ذميمة وقبيحة، وهو أمر تنفيه تماثيلها ومناظرها، وما ورد من وصف لها.
وتحدث البعض عن ما أسموه (لعنة الفراعنة)، زاعمين أن كل من يعمل في مجال الآثار المصرية سوف يصاب بالأذى؛ ولو كان الأمر صحيحاً لما عاش أثري واحد ممن عملوا في هذا الميدان.
وربط البعض بين بعض الأنبياء (عليهم السلام) وبين بعض ملوك مصر، وربطوا بين “أوزير” و”آتوم” والنبي “آدم” (عليه السلام)، وقالوا أن “موسى” (عليه السلام) هو “إخناتون”، وأن “توت عنخ آمون” هو “المسيح عيسى” (عليه السلام)، وأن “يوسف” (عليه السلام) هو “يويا”، والد زوجة الملك “أمنحتب الثالث”.
على أنه لماذا الخوض في مثل هذه الأمور دون سند من الكتب السماوية أو الآثار. وكيف قبول الحديث عن خروج “موسى” (عليه السلام) من مصر في عهد “رعمسيس الثاني” كما يذهب البعض من دون دليل قاطع، بل أن كل هذه المزاعم قد يأباها العقل، فيترفع حتى عن البحث عن دليل لها.
كذلك شوه البعض صورة الملك “إخناتون”، ورأوا أنه شاذ جنسياً، معتمدين على العناصر التشريحية التي ظهر بها، والتي ما كانت إلا تعبيراً عن مدرسة فنية تقوم على خلفية دينية، وفلسفة رمزية، فليتهم فكوا مفاتيح هذه الرمزية، بدلاً من إراحة العقل عن الاجتهاد باختلاق أحاديث إفكٍ مختلقة ضد واحد من أهم فلاسفة العالم القديم.
وادعى البعض أن “حتشبسوت” هي “بلقيس” ملكة “سبأ” (إحدى ممالك اليمن القديم)، فكيف يمكن الربط بين الملكتين، وهناك تباعد زمني بينهما بالقرون.
أما عن اللغة المصرية، فقد حاول البعض إثبات خطأ قراءتها وترجمتها، وذلك في محاولة لهدم الحضارة المصرية، رغم أن الدراسات اللغوية تقف على أرض ثابتة راسخة في هذا الميدان.
أما الهرم الأكبر، فقد أصابه الكثير من ادعاءاتهم، فقالوا أن اليهود هم الذين شيدوه، بينما الحقيقة أنهم لم يكن لهم من وجود في مصر إلا بعد بناء الهرم بأكثر من 1500 عام. وقال هؤلاء أن “خوفو” ليس صاحب الهرم أو بانيه، بينما نحن نملك عشرات الأدلة على أن هذا الإعجاز الهندسي قد شيد في عهد “خوفو”، وبأيدٍ وعقول مصرية لم تشبها شائبة.
وقيل أن مزامير النبي “داود” (عليه السلام) تقع أسفل الهرم، فكيف وضعت هذه المزامير (التي تؤرخ بالقرن التاسع ق.م) في الهرم (الذي شيد في القرن 26 ق.م).
وتحدث البعض عن القوة النفسية للهرم، فهو ينقي الهواء، ويساعد على نمو الشعر، ويطيل عمر الزهور، ويشفي المدمنين، ويزيل التجاعيد، وتهرب منه الحشرات، ويصيب أجهزة الطيران بالعطب. ونسوا أن الهرم ليس سوى بيت الأبدية لصاحبه.
أما الكتبة المأجورون، أو الحاقدون، أو الجهلة بالتاريخ القديم من مصادره وعلمائه الثـِّقات – فقد أعدوا الأفلام الدرامية التي تسيء إلى حضارة مصر، وكان آخرها الفيلم الأمريكي (أمير مصر)، ومن قبله الفيلم الأمريكي (المومياء)، وغيرهما كثير.
قال هؤلاؤ وهؤلاء ما تقوَّلوا، وسيظلون هكذا إلى دائماً يطمسون انبهارهم الحقيقي بالحقد والجهل والغرور، أو تأخذهم الغيرة في بعض الأحيان على إنجازات شعب عريق، توافرت له كل مقومات الحضارة، فجاء البنيان الحضاري شامخاً أصيلاً عميق الجذور.
وفي إطار التهويل -والحضارة المصرية بشوامخها ليست بحاجة إلى تهويل – قالوا أن المصريين عرفوا (أشعة الليزر)، وعرفوا كذلك كيف يوقفون الجاذبية الأرضية، مما سهل لهم رفع الأحجار إلى هذه الارتفاعات الشاهقة.
وقالوا كذلك أن المصريين عرفوا الطائرة والدبابة، فانظر إلى أي مدى بلغت تُرَّهاتهم، فالسلاح المصري القديم مدون على الآثار المصرية في كل مكان.
وتحدث الدجالون والنصابون والمرتزقة وبعض المخادعين والمخدوعين عما يسمونه (الزئبق الأحمر)، قالوا أنه يستخرج من المومياوات المصرية، ويساعد على بعث الحيوية والنشاط لدى الرجال، وهو أمر لا يخرج عن كونه وسيلة من وسائل خداع الناس في هذه الأمور. كما ادعوا القدرات الخارقة لهذا الزئبق المزعوم لاستدعاء مخلوقات الجن، والتعرف على الكنوز المخبوءة في ظلمات الأرض، وما ذلك إلا وسيلة للنصب على أصحاب العقول الواهية ممن ينشدون الثراء السريع من دون جهد يذكر.
وقالوا أن أقدم أبجدية عثر عليها في مصر أبجدية سامية، وهو افتراء يتحرك في دائرة اعتبار أن كل شيء على أرض مصر-كما يدعون- هو من نتاج الفكر العبراني، وليس من نتاج الفكر المصري الأصيل الذي لم يبدع حضارته من نتاج السطو على إبداعات الشعوب، فجاءت إبداعاته بلا مثيل في التاريخ.
وقال البعض أن “الفيوم” تحمل اسماً يعني (ألف يوم)، على اعتبار أنها بنيت في ألف يوم، وأن الذي بناها هو “يوسف” (عليه السلام)؛ كما حدد البعض تاريخاً لقدوم سيدنا “إبراهيم” (عليه السلام) إلى مصر؛ وهي أمور لا نملك دليلاً أثرياً عليها، لا في مصر، ولا في أي مكان آخر حتى الآن.
ويتحدث البعض عن أهرامات في كوكب المريخ، وفي المكسيك، فهل كلما وجدنا تكوينات صخرية تشبه الأهرامات في هذا المكان أو ذاك، ولو كان ذلك في كوكب سماوي، يمكن أن نعتبرها أهرامات.
وأما ما يسمى (أهرامات المكسيك)، فليس بأهراماتٍ بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، ولكنها معابد تختلف في تخطيطها المعماري ودورها الوظيفي عن الأهرامات المصرية، ولا تماثلها في عمارتها بشكل عام إلا في تدرج البناء، وليس كل بناء متدرج هرماً. ثم هل من دليل على أن المصريين قد وصلوا إلى المكسيك، أو أن المكسيكيين القدماء قد وفدوا إلى مصر. ويتحدث البعض عن أن اسم “القاهرة” مشتق من المفردات المصرية (كاهي رع)، متناسين أنها (قاهرة “المعز”)، وأن التركيب (كاهي رع) ليس له من وجود في اللغة المصرية.
ولعله من المنطقي الآن أن نتساءل، كيف يمكن لنا أن نواجه هذه الحملة الشرسة على الحضارة المصرية. إن الأمر يتطلب التحرك في أكثر من اتجاه:
الاتجاه الأول: تكوين هيئة من علماء المصريات في مصر، ومعهم بعض علماء المصريات من الخارج، لمواجهة مثل محاولات التشكيك هذه بالأدلة والأسانيد العلمية الدامغة.
الاتجاه الثاني: إعداد مجموعة من الأفلام التسجيلية الناطقة باللغة العربية، وبعض اللغات الأجنبية، لتتضمن ردوداً علمية على مثل تلك المحاولات، على أن توزع خارج مصر.
الاتجاه الثالث: توسيع دائرة الوعي الأثري بين المواطنين بكل فئاتهم وأعمارهم. والوعي الأثري هو إدراك كل المواطنين لقيمة التراث الثقافي من حيث أنه يمثل ثقافة الأجداد، بالإضافة إلى ما له من مردود اقتصادي، على اعتبار أن السياحة الوافدة إلى مصر تقوم على السياحة التاريخية بالدرجة الأولى. ويتطلب الأمر التنسيق بين الوزارات والجهات المعنية بأمر الوعي الأثري، مثل وزارات الإعلام، والثقافة، والتربية والتعليم، والتعليم العالي، والسياحة، والحكم المحلي، وغيرها؛ لكي تؤدي كل منها واجبها نحو تراث مصر، حتى يكون كل مصري في أي موقع وفي أي مكان من العالم قادراً على الرد على ما قد يجده أو يلاقيه من هذه المزاعم.
وأخيراً نعود فنقول: لقد قال أصحاب الغرض وتقوَّلوا، وسيظلون هكذا دائماً مبهورين في معظم الأحيان، وحاقدين في بعض الأحيان، على إنجازات شعب عريق، توافرت له كل مقومات الحضارة، فجاء هذا البنيان الحضاري شامخاً أصيلاً عميق الجذور، متميزاً متفرداً بلا مثيل. ونعود لنقول أنه إذا كان الأجداد قد أبدعوا، وتركوا لنا هذا الإنجاز، فمن حقهم علينا -نحن الأحفاد- أن نحافظ لهم على ما أنجزوا، وأن نقف بالمرصاد لكل المحاولات التي تسعى للإساءة لهذا الإنجاز أو السطو عليه، والتي لا تسعى -في الواقع- إلا لزعزعة ثقتنا في تاريخنا وحضارتنا، لينزعوا حاضرنا المتطلع من جذور ماضينا، فنخوض المستقبل بفراغ روحي إذا نحن فقدنا استلهامَ هذا الإبداع، وهذه العزيمة العريقة في صناعة الإنجاز.
زر الذهاب إلى الأعلى