كان الريف المصري رمزًا للأصالة والتقاليد الراسخة التي تمتد جذورها لآلاف السنين. والزراعة كانت من الحرف البدائية والأساسية التي استخدمها الإنسان من القدم، والتي شكّلت هوية القرى المصرية لأجيال. لكن منذ زمن قريب باتت تتلاشى تدريجيًا. فنشهد تمردًا على حياة الريف، ونبذًا للعادات والتقاليد، وتراجعًا كبيرًا في ممارسة حرفة الزراعة التي أصبحت نادرة. بدلًا من ذلك، يميل الشباب الريفي إلى اعتناق أفكار تعكس “تمدنًا زائفًا”، يسعى وراء حياة الترف والاستهلاك، بعيدًا عن الأرض التي كانوا يومًا ما يعتمدون عليها.
في هذا التحقيق، نستعرض أسباب هذا التحول، وآثاره على المجتمع الريفي، وما إذا كان هناك أمل في استعادة ما فقده الريف من أصالة وتقاليد. فأسباب التمرد على حياة الريف تعود إلى التحولات الجذرية في حياة الريف المصري، ولا يمكن إغفال مجموعة من العوامل التي أدت إلى هذا التغير. وما الذي دفع الشباب إلى الهروب من الزراعة، والتمرد على التقاليد التي عاشتها الأجيال السابقة؟
1. تدهور الزراعة وانخفاض إنتاجها، وهي التي كانت المصدر الأساسي للدخل في الريف، فقد تراجعت بشكل كبير نتيجة مجموعة من التحديات الاقتصادية، وارتفاع تكلفة الإنتاج الزراعي، بينما لم يعد هناك دعم كافٍ للفلاحين. والأراضي الزراعية تقلصت نتيجة التوسع العمراني، وتحولت الأراضي الخصبة إلى مناطق سكنية. هذا جعل الكثير من الشباب الريفي يشعرون بالإحباط، ويبحثون عن طرق أخرى لتحسين أوضاعهم الاقتصادية بعيدًا عن العمل في الأرض.
2. الهجرة إلى المدن وعيشة الترف أصبحت حلماً لدى الكثير من الشباب الريفي، ووسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في تغذية هذا الحلم من خلال تصوير الحياة المدنية كمصدر للترف والرخاء. هذا الحلم يغري الشباب بالابتعاد عن جذورهم الريفية والسعي وراء حياة تعتبر أكثر “تمدنًا”، وإن كانت في بعض الأحيان زائفة ولا تناسب بيئتهم.
3. التغيرات الثقافية والاجتماعية والتقاليد والعادات الريفية التي كانت تحكم الحياة الاجتماعية في القرى تراجعت بشكل ملحوظ. فالأفكار الحديثة التي تأتي عن طريق السوشيال ميديا وحياة الغرب، بدأت تحل محل التقاليد القديمة. الشباب أصبحوا ينظرون إلى العادات الريفية على أنها “طراز قديم” أو غير مواكب للعصر، ما أدى إلى صدام بين الأجيال أو بين الماضي والحاضر.
التمدن الزائف
التمدن الزائف هو محاولة للهروب من الأصالة نتيجة لهذا الصراع. فبدلاً من تطوير حياة الريف والحفاظ على هويته، يحاول البعض محاكاة حياة المدن ولكن بطرق سطحية، التمسك بالمظاهر الفارغة مثل اقتناء المنتجات الفاخرة، والملابس العصرية، والسعي إلى حياة استهلاكية لا تتناسب مع طبيعة الحياة الريفية.
أحد الشباب الريفيين الذي انتقل إلى المدينة، قال: “الحياة في القرية أصبحت صعبة، لا عمل ولا أمل”. أما في المدينة، يمكنني أن أعيش كما أريد، حتى لو كان ذلك فقط في المظاهر. والحياة الجديدة غالبًا ما تكون مخيبة للآمال؛ بدلًا من العيش براحة، يجد هؤلاء أنفسهم مضطرين لمواجهة تحديات الحياة الحضرية من غلاء المعيشة وضيق المساحات السكنية. فالتأثيرات السلبية على المجتمع الريفي والتخلي عن الزراعة والتمسك بالمظاهر المدنية الزائفة لم يؤثر فقط على هوية الريف، بل أدى إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية ملموسة:
1. انهيار حرفة الزراعة مع هجرة الشباب من الريف إلى المدينة، أصبحت الأراضي الزراعية مهملة، وتراجعت كميات الإنتاج الزراعي بشكل كبير. وأصبح استيراد المنتجات الزراعية أمرًا شائعًا، مما يزيد من الأعباء الاقتصادية على الدولة ويهدد الأمن الغذائي.
2. تفكك المجتمع الريفي والعادات والتقاليد التي كانت تمثل النسيج الذي يحافظ على تماسك المجتمع الريفي. فمع تراجع هذه التقاليد، بدأت تظهر النزاعات بين الأجيال. الأجيال الأكبر سناً تشعر بأن هويتها مهددة، بينما الشباب يسعون لاتباع أنماط حياة جديدة، ما يؤدي إلى شرخ بين الماضي والحاضر.
3. البطالة وزيادة الاعتماد على الدعم الحكومي، فالشباب الذين يهجرون الزراعة غالبًا ما يجدون أنفسهم بلا عمل، والمدن ليست قادرة على استيعاب هؤلاء، ما يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة. بالتالي يعتمد الكثيرون على الدعم الحكومي أو يتوجهون إلى أعمال غير مشروعة.
في حديثنا مع السيد عبدالمحسن، وهو فلاح في إحدى القرى بمحافظة الدقهلية، قال: كنت أزرع أرضي طوال حياتي، لكن أولادي لا يريدون الاستمرار في هذه الحرفة، ويقولون إنها لا توفر لهم حياة كريمة، وأنا لا أستطيع إقناعهم بالبقاء. والأرض التي كانت مليئة بالزراعة أصبحت اليوم مهملة وتحولت إلى أبنية سكنية.
أما السيدة أم أحمد، وهي من إحدى القرى بمحافظة الدقهلية، قالت: القرية لم تعد كما كانت، والجيران لا يعرفون بعضهم كما كان في سابقا، والشباب لا يحترمون التقاليد. وأصبحوا يقلدون ما يرونه في التلفزيون والإنترنت، ولا يهتمون بالأرض ولا بالزراعة.
السؤال: هل هناك أمل في استعادة الهوية الريفية؟ رغم هذه التغيرات السلبية، لا يزال هناك أمل في استعادة الهوية الريفية وإحياء حرفة الزراعة. الدولة تحتاج إلى تنفيذ برامج دعم جديدة للفلاحين، وتشجيع الشباب على العودة إلى الأرض من خلال توفير دعم مادي وتدريب حديث على التقنيات الزراعية، والتعليم والتوعية بأهمية الزراعة والاستثمار في الموارد المحلية يمكن أن يسهم في إنقاذ الريف من الانسلاخ عن هويته. كما يمكن تعزيز الحياة الريفية من خلال الاستثمار في تطوير البنية التحتية، وتحسين جودة التعليم والخدمات الصحية، لجعل الريف مكانًا يمكن العيش فيه بشكل كريم دون الحاجة للهجرة إلى المدينة.
وأختتم القول بأن التمرد على حياة الريف واعتناق “تمدن زائف” يعكس أزمة ثقافية واجتماعية تمر بها القرى المصرية. ومع تراجع حرفة الزراعة، وتلاشي العادات والتقاليد، يواجه الريف خطر فقدان هويته بالكامل. الحل لا يكمن في الهروب إلى المدينة أو تبني أنماط حياة استهلاكية، بل في العودة إلى الجذور والتمسك بالقيم التي جعلت من الريف المصري مصدرًا للقوة والاستقرار على مدى قرون.