نعرف أن الثقافة أداة وطريق المجتمعات للتغيير بالمعرفة من أجل التقدم عبر كل العصور، وفي الطريق ذاته نجد الدكتور حاتم الجوهري نموذجا لمثقف موهوب ذكي وطموح، ترعرع في زمن الهزيمة (مواليد 1975 ورغم الظروف مضى حاملاً قلمه ووعيه بديلا تنظيرا ومقاومة حسب ظروف المرحلة).
فقد عقدت ندوة بالقاهرة مساء 23/12/2024 في ذكرى عيد النصر حين هزمت مصر بقيادة جمال عبد الناصر العدوان الثلاثى البريطاني الفرنسي الصهيوني، لكتاب «الدبلوماسية الثقافية البديلة: إعادة تأسيس الثقافة العربية»، الصادر حديثا عن دار أروقة بالقاهرة في 323 صفحة من القطع المتوسط، قدمه مؤلفه الكاتب والشاعر والمترجم الدكتور حاتم الجوهري الاستاذ المنتدب بالجامعات المصرية وعضو اتحاد الكتاب المصريين.
كذلك السادة المشاركون في الندوة الذين رحبوا بالكاتب والكتاب وأثنوا على المجهود مع بعض الملاحظات (د.حيدر الجبوري الوزير المفوض بجامعة الدول العربية- د.خالد أبوالليل أستاذ الادب الشعبي ووكيل كلية الآداب بجامعة القاهرة- د. صلاح السروي أستاذ الدب الحديث والمقارن بجامعة حلوان- م. أحمد بهاء شعبان الكاتب وأمين عام الحزب الاشتراكي المصري مديرا للندوة).
• ونظراً لأهمية ما تضمنه الكتاب وما دار في تلك الندوة الثقافية التي تتقاطع مع الأحداث الجارية اليوم، لذلك فإنني سأسعى للتذكير بالموضوع وأهمية الكتاب، وما فهمته فيه من فكر الكاتب ومحتويات الكتاب، من حيث هي في عمق واقعنا وما يتطلبه من مقاومة لأوضاع التخلف والتجزئة والعدوان على العرب، والذي هو جزء مما تتعرض له البشرية مما يسميه الكاتب (المسألة الأوروبية).
• وهو ما يحتاج لمن يطلع عليه، إلى وقفة موضوعية ورؤية نقدية للاستفادة من هذا الجهد الفكري، الذي قدمه شاب من الجيل العربي، الذي عانى من ظروف كامب ديفيد، وما تعرضت له الحياة العربية من هزيمة وظروف أخضعت للسلام الزائف، الذي كاد يطمس رؤية ومقاومة الأجيال الجديدة لعجز المجتمع في احتضانهم، وبما يمكنهم من الاستفادة ممن سبقهم.
• إذن هي وقفة تحية وحوار مع الكاتب الشاعر والمترجم الدكتور حاتم الجوهري؛ بداية هو من مواليد مصر عام 1975م، درس الاقتصاد والتجارة، ثم عاود ودرس الآداب وتخصص في اللغة العبرية، وعمل بالترجمة وله مؤلفات عدة مذكورة بالكتاب، وهو شاعر وله ديوانان (الطازجون مهما حدث 2015م – ديوان نساء الممالك البعيدة 2024م)، وله كتب عدة منها: المصريون بين التكيف والثورة 2012، فلسفة المشترك الثقافي 2022م، فلسفة إدارة التنوع وتفكيك المتناقصات 2023م، في فلسفة التدافع والتعايش الحضاري 2023م، فلسفة الذات الحضارية المتصالحة 2024م.
إضافة إلى كتب عدة أخرى قال عنها بعض الأساتذة والباحثين شهادات (دكتور أحمد زائد رئيس مكتبة الإسكندرية، دكتور يمنى الخولي رئيس قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، السيد ياسين مدير مركز الأهرامات للدراسات، دكتور قدري حنفي أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس .. الخ).
وللدكتور حاتم الجوهري جولات وصولات في الثقافة، ونقد المسألة الأوروبية، عمل بوزارة الثقافة المصرية، شغل منصب مدير المركز الدولي للكتاب ومشرفاً على مركز الترجمة، ومن خلالها كان على تواصل بالعمل الثقافي الإقليمي والعالمي ( المنظمة العربية للثقافة والعلوم ، المنظمة الإسلامية الإسسكو والمنظمة العالمية للثقافة، وغيرهما)، وهذه مجرد لمحة أخذت من تقرير عن حياة المؤلف مدرج في آخر كتاب الدبلوماسية الثقافية البديلة” (صفحة 303 ).
• توصل د.حاتم الجوهري إلى رؤية ثقافية كرس عمله لها في إطار الدبلوماسية الثقافية البديلة، وكذلك قال بتوجه ثقافي (مشروع المشترك الثقافي العربي بوصفه دعوة لإعادة تأسيس الثقافة العربية )، إذن نحن أمام كاتب ومثقف ومبدع بالرغم من أنه شاب ومتعدد الاهتمامات.. الشعر، الترجمة، التأليف والكتابة عبر الصحافة شرحاً لموقفه وخطه الفكري الثقافي الجديد بل والطموح بتقديم نظريه في الثقافه والمتغيرات العالمية.
•• بداية؛ أقدم ملاحظات أولية عن الكاتب ورؤيته ومضمون الكتاب..
الكاتب من مواليد السبعينيات الذين فرضت عليهم ظروف عصرهم خاصة المحليه الخضوع، والمقاومة حسب ظروف الزمان والمكان، وكما سبق الإشاره فهو إنسان ذكي موهوب طموح ومبادر، ولظروف مصر ذلك الزمن فقد وجه إرادته للتعليم وما تنتجه الجامعة وأجوائها الطلابية، فأصبح أمينا لجماعة الفكر والأدب ومؤسسا للجنة الطلابية لدعم الحق العربي بالجامعة، وتخرج متخصصا بالاقتصاد والتجارة وعمل بمؤهله، ولكن رجع إلى الجامعة ودرس الآداب وتخصص فيما فرضته الأحداث من فهم العدوان الصهيوني فتخصص في اللغة العبرية والترجمة بشكل عام.
• أرى أن هذا الشاب الموهوب والطموح يمكن أن تدرس سيرته (كحالة للدراسة) من متخصصين لكي تستفيد الأجيال من رؤيته ومن تحربته، ويستفيد هو من أهمية تعميق رؤيته وإمكانية تعديلها بالتفاعل مع الآخرين.
• إن الظروف الموضوعية؛ يمكن أن تقاوم بطرق متعددة ومنها: العلم والمعرفة والثقافة. لكن لا يمكن تجاهل السياسه ودور الفكر والمعرفة، حيث أن الكاتب كما رأيت تعرف على حقيقة الأرث الصهيوني في اللغة والآداب والاجتماع، وذهب إلى ترجمة كتاب مهم “تاملات في المسالة اليهودية” لحان بول سارتر 2015م، وكتب كتاب “نبوءة خراب الصهيونية في الأدب الصهيوني” 2015م..
• لكن ما استوقفني في ذلك عمق رؤيته للثقافة والعالم، فاكتشف أن المسألة الأوروبية ليست قدرا ويلزم تجاوزها. ثم من خلال عمله بوزارة الثقافة، واحتكاكه بالمجال العام مصرياً وعربياً وعالمياً، توصل إلى رؤية شامله لدور الثقافة والدبلوماسية الثقافية، وأصبح منظراً في مجال الثقافة.
• حقيقة لو كنت أستاذا بالجامعه لوجهته إلى أهمية دراسة آثار سياسات الاستسلام على الثقافة والمثقفين، وأن مسؤولية مثقف تلك المرحلة هي الفهم الدقيق، وعدم التسرع بشطب مراحل من التاريخ وعدم الاستفادة منها، واستكمال دراساته وما قد يكون صادفه من خطأ أو تقصير، وأن ثقافته واكتشافه لمخاطر المركزية الغربية أمانة على عاتقه، كما أشار أحد المناقشين بالندوة، وأن يهتم بمخطط الشرق الأوسط الجديد والعدوان على غزة وفلسطين ولبنان، وهذا يتطلب دورا قوميا مقاوما ثقافيا وسياسيا. كما أنصح اتحاد الكتاب المصري بمحاورة هذا الكاتب وغيره ومناقشتهم بموضوعية.
•• وأختتم بملاحظتين:
تعرفت على الكاتب ضمن وجودي بالقاهرة بعد ما سمي بالربيع العربي، ومن خلال النشاط الثقافي لمست جديته لكنني أيضا لمست حذره، وقد اكتشفت بعدها بعض أسباب ذلك، وأنه لا يريد أن يتقوقع أو يصنف في تيار، وهو ما جاء في كتابه وأنه يقول بتجاوز قضايا القرن العشرين ومرحلتها (ومنها القومية).. وآمل أن يراجع نفسه في هذه الرؤيا.
• سأواصل الحوار معه، وأحاول أن نتعاون في مجال (المبادرة الشعبية العربية للتجديد الحضاري)، الذي قدمته بعد حوارات استمرت خلال العقد الماضي، والتي ستطرح كموضوع للحوار بين التيارات العربيه بعنوان (حوار لا اختراب )، وآمل منه ومن كل المثقفين العرب الاهتمام بالحوار، وتفعيل دور المثقفين، وذلك من خلال استعادة دور تجربة سابقة ( المجلس القومي للثقافة العربية الذي أصدر مجلة الثقافة العربية).
• وأخيرا أنصح بقراءة كتاب الدكتور حاتم الجوهري (الدبلوماسية الثقافية البديلة: إعادة تأسيس الثقافة العربية)، لأنه يقدم تجربة شاب مصري عربي نشأ وترعرع في زمن ومرحلة خطيرة في تاريخ العربي الحديث (الثلث الأخير من القرن العشرين ).
هذه المرحلة التي تميزت بخلخلة الوجود والمشروع الحضارى العربي، والتي اتسمت بملامح معروفة، منها تحاوز نصر أكتوبر بتدخل دولي كاسح باسم السلام، أدى إلى اتفاقيات كامب دايفيد، وما أثرت به على الواقع العربي داخلياً وخارجياً، من حيث حياة الناس وبناء المجتمع، وتوجيه الشباب ودوره في الشأن العام، وما قاد إليه كل ذلك ظروف أدت إلى ارتباك المجتمع العربي.
• الملاحظ هنا أن شابا من مواليد 1975 ولد ونشأ في هذا المناخ، توصل خلال العقد الأخير من القرن وبداية العقد الأول من القرن 21 إلى أن يتعلم ويبدع وينتقد الحياة والعالم. من هنا لفت نظري الخط الفكري للدكتور حاتم الجوهري الذي وجدت فيه الذكاء والوعي وتكليف نفسه بدورطليعي واتخذ من الثقافة مركباً لهذا الدور.
• لكن من المهم أن ينتبه للحوار والنقد، لأنه كما جاء من بعض الأساتدة خلال تقديم الندوة يوجد في موقفه وآرائه ما يحتاج لشيء من المراجعة، عندما يدعو إلى شطب/ تجاوز بعض التيارات يمينا ويسارا، وأيضا الشطب/ تجاوز مرحلة القرن العشرين ومعطياتها.
• إنما هو مثقف شاب مجتهد، وفكره يتضمن مساراً من مستوين؛ المستوى الوطني والقومي التقليدي يعتمد على ما يتوفر في إطار الواقع والدول الإقليمية من معطيات وإمكانيات ثقافية ليكتشف من خلالها المشترك مع بلدان أخرى، وهذا تفكير وطني لا يؤخذ عليه.. لكنه لا يعطيه الحق ليشطب/ يتجاوز آراء الأخرين أو التيارات التاريخية ويحرم مثقفاً مبدعاً مثله شاعرا وكاتبا أن ينغمس في عمق واقع ومعطيات كفاح أمته وحضارتها.
أما المستوى الآخر وهو المستوى العالمي فخطه وتفكيره موضوعي يوصله إلى رؤية مخاطر مشروع المسألة الأوروبية (المركزية الغربية)، ويدعو إلى مقاومتها ويوضح المعطيات العالمية الراهنة من المسألة الأوروبية ودور الصين، ويحاول من خلال ذلك أن يوظف فكره في توظيف المشترك الثقافي، وصولا إلى المزيج الثقافي والدبلوماسية الثقافية، للوصول إلى مستوى حضاري ليتجاوز المركزية الأوروبية وليسهم في تقدم البشرية.
• في الختام؛ أشكر الدكتور حاتم الجوهري وجيله الذين ظلمهم المجتمع، بما فرض عليهم تعليماً ومسارا عاما أبعدتهم عن مقتضيات دورهم، لكنه بذكائه وموهبته وجديته استطاع- كما يشهد هذا الكتاب وكتب أخرى- أن يحرر عقله من هيمنة نموذج الغرب، وأدعوه لحوار أولا مع نفسه، ثم مع الآخرين في المشروع الحضاري العربي المقاوم، كما أدعو المثقين العرب لمحاورته.
=========
نشر المقال في عدد ديسمبر 2024م
من مجلة «الهدف» الفلسطينية