فنونملفاتمميز

ملوك مصر القديمة استخدموا الفن أداة حكم سياسية ودينية

لعب الفن في مصر القديمة دوراً محورياً تجاوز حدود الجمال والزخرفة، ليصبح «لغة» رمزيّة فعّالة تعبّر عن السلطة والإيمان والهوية الجمعية؛ فلم يكن النحت والرسم والنقش الفني مجرد أعمال تستوحي موضوعها من الخيال، بل وسيلة تواصل تنقل من خلالها الدولة أفكارها، وتُكرِّس مفاهيمها، وتُرسّخ شرعيتها السياسية والدينية أمام الشعب والإله على حدّ سواء.

استخدم الملوك الفن كأداة سياسية، وظهروا من خلاله بصورة مثالية، وقدَّموا أنفسهم كأبناء للإله أو كممثلين للعدل والنظام على الأرض، وبنفس المنطق والقوة وظّفه الكهنة ورجال الدين لتسجيل تفاصيل الطقوس الإيمانية، وتمجيد الإله، وتأكيد الروابط الروحية بين الناس والمقدّس، وترسيخ سلطتهم الدينية، وهكذا أصبح الفن مرآة حقيقية و”لغة تواصل” داخل المجتمع المصري القديم، يُترجم قِيَمَه ويُدوِّن رؤيته للعالم الأرضي والسماوي، وعالم ما بعد الموت، بوسيلة تعبيرية شاملة.

وغطى الفن المصري القديم مرحلة امتدت لما يزيد على أربعة آلاف عام، ونستعرض هنا سر هذه الاستمرارية الأساسية في وسائل التعبير، ونسعى للإجابة عن تساؤلات من بينها: ما هي فلسفة ودوافع هذا التنوع الفني الهائل لدى المصري القديم بأساليب مختلفة؟ ولماذا بُنيت تلك الصروح الأثرية بأحجام شامخة؟ ولماذا حرص الملوك على نحت تماثيل عملاقة لهم ووضعها في واجهة المعابد الدينية؟ وما سر اجتهاد الفنان في رسم ونقل حركات وايماءات من الحياة اليومية ومشاهدها على جدران المعابد والمقابر؟

وتقول العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها «الفن والحياة في مصر القديمة»: «يستطيع الفن أن يجسد شكلاً ما، أو يعيد خلقه من جديد، من هنا تأسست فلسفة الفن المصري القديم الذي اعتبر رسم الأشكال وكأنه عملية خلق جديدة، بل هو ثمرة تحليل واع وذاتي…، فعلى مدى آلاف السنين تطور الفن المصري تطوراً هائلاً، لكنه بالرغم من ذلك بقي على وفائه وإخلاصه لمطلبه الأساسي، ألا وهو: الاتحاد بين الملموس والفكرة السامية، وإقامة علاقة بين الأشكال النابضة بالحياة، والخلود بواسطة التماثيل أو الرسوم».

وتضيف أن المفهوم الخاص بالحياة والموت هو المحرك الأساسي للفن في مصر القديمة.

ويمكن تقسيم المدارس الفنية عبر عصور مصر القديمة إلى أربع مدارس، بحسب دراسة عالم الآثار المصري عبد الحليم نور الدين «تاريخ وحضارة مصر القديمة»، وهي المدرسة المثالية (التي أظهرت أصحابها في أفضل صورة ممكنة)، والمدرسة الواقعية (التي عبّرت عن واقع أصحابها وعصرها وانسحبت على الطبقات الدنيا)، والمدرسة المثالية الواقعية (وهي مزيج بين المدرستين السابقتين)، والمدرسة الآتونية (أو فن العمارنة في عصر الملك أخناتون)، وقد ظل لهذه المدارس وجودها على امتداد الحضارة المصرية، وإن ازدهر بعضها على حساب الآخر في بعض الفترات.

وعن المدرسة الآتونية يفسر نور الدين قائلاً: لما كان الإله آتون هو الإله الذي خلق نفسه بنفسه، وهو صورة من إله الشمس الذي لم يخلقه أحد، جاءت تماثيل وصور الملك أخناتون (1360-1343 قبل الميلاد) وأسرته معبّرة عن تلك الصفة التي يتميز بها آتون، من حيث أنها جمعت بين الذكورة والأنوثة في تكوين واحد، وكأن أخناتون عمد- وهو يظهر نفسه بهذه الهيئة- أن يؤكد للناس في كل مكان أنه التجسيد البشري لذلك الإله الذي خلق نفسه بنفسه.

كما تميّز الفن المصري القديم بفلسفة تقوم على الرمزية والوظيفة، لا على المحاكاة الواقعية أو الجمال المجرد، إذ كان الهدف من العمل الفني هو أداء وظيفة محددة، سواء دينية أو جنائزية أو سلطوية، عكست هذه الأساليب إيمان المصريين القدماء بمفهوم «ماعت» الذي مثّل النظام والعدالة، فجاءت أعمالهم الفنية معبرةً عن الثبات والديمومة والاتساق مع الكون الإلهي.

وتجلّت دوافع وفلسفة الفن بوضوح في العديد من الآثار التي لا تزال شاهدة على ذكاء حضاري، فعلى جدران معبد الكرنك، على سبيل المثال، نجد نقوشاً تمجّد انتصارات الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، وهي نقوش استُخدمت لترسيخ هيبته وسلطته بوصفه حاكماً مختاراً من الإله، وهو ما يعبّر عن الوظيفة السياسية والدينية للفن في آن واحد.

كما تعكس تماثيل رعمسيس الثاني (1279-1212 قبل الميلاد) في معبد أبو سمبل مفهوم القوة الإلهية، إذ صُوّر الفرعون بهيئة جبارة تمزج بين الإنسان والإله، في تجسيد لفكرة الحكم الإلهي.

كشف لنا المجتمع المصري القديم عن مكوناته وعناصره المتباينة بواسطة النقوش البارزة والتماثيل والرسوم، والتي تعتبر بمثابة معرض تصوير ضخم عن الملوك وكبار شخصيات تلك الفترة بأكملها، بالإضافة إلى القادة العسكريين وكبار أفراد الشعب المصري. وبفضل الفن، أُحطنا علماً كذلك بالشعوب الأجنبية، وسهل علينا تمييزها من خلال خصائصها العرقية وملابسها وصفاتها المختلفة.

وتصف نينا ديفيز في دراستها «مختارات من فن التصوير المصري القديم»، نقلا عن موسوعة الحضارة المصرية القديمة لسمير أديب، الفن المصري بأنه له في أعماله تقاليد خاصة تبرز النواحي التي يريد الإفصاح عنها، والتعبير عن مدلولها بأيسر وسائل الأداء، في الرسم واللون والتوزيع والاتزان والتنسيق. فتجد الصورة الجميلة تدعوك إلى مشاهدتها وترغمك على الإعجاب بها بالشكل والوضع والروحية التي أرادها لها صانعوها، في الوقت الذي تخالف فيه هذه الصورة في جوّها وتكوينها ما يألفه المرء في الفنون المعاصرة.

وحرص الفنان القديم على رسم أشخاصه تبعاً لمركزهم في البلاد، فصور الإله والملوك بحجم كبير نوعاً ما ومتميزاً بما يتفق مع مكانتهم أمام الشعب، وهي أحجام تفوق في ارتفاعها حجم كبار الموظفين، وتتفق مع الوقار المحيط بالملوك والإله ومع مركزهم الاجتماعي في الدولة، كما صُور كبار رجال الدولة في حجم أكبر نوعاً ما من صور الأشخاص الممثلين لأفراد الشعب.

كما استخدم الفن في تصوير الإله والملوك أوضاعاً محددةً بغية توجيه رسالة تنم على مكانتهم وفي أيديهم إمارات الشرف مثل «الصولجان»، و«العصا الطويلة»، وذلك بحيث لا يخفي جزء من الجسم جزءاً آخر أو يقطعه.

كما لعب الفن دوراً بوصفه أداة رئيسية لتأكيد شرعية حكم الملك الفرعون وإضفاء طابع إلهي على سلطته، فلم يكن تصوير الملوك عشوائياً، بل كان محسوباً بدقة ليُظهر الملك دائماً في صورة مثالية: شاباً، قوياً، مهيباً، وأكبر من أعدائه أو تابعيه حجماً، كما ذكرنا.

فعلى جدران المعابد، كان يُصوَّر الملك وهو يهزم الأعداء بـ«يد واحدة»، في دلالة فنية رمزية على قوته الخارقة وحمايته لأرض مصر، وأبرز مثال على ذلك، رسوم معركة «قادش» الشهيرة في عهد رعمسيس الثاني، والتي صُوّرت على جدران معبد أبو سمبل، وعلى الرغم من أن النتيجة الفعلية للمعركة كانت غير حاسمة تاريخياً، إلا أن الفن هنا لم يسجل الحقيقة فحسب، بل شكّل رواية سياسية تخدم صورة الفرعون كبطل منتصر لا يُهزم.

ولم يقتصر الفن السياسي على الجداريات، بل شمل أيضاً المعمار والتماثيل الضخمة، فالأهرامات نفسها كانت رمزاً للسلطة والخلود، وبُنيت لتُجسّد عظمة الملوك وقدرتهم على الانتقال للعالم الآخر مع الإله.

كما استخدم الملوك تماثيلهم الموضوعة أمام المعابد، مثل تماثيل رعمسيس الثاني في أبو سمبل، لإظهار الهيبة والسيطرة على المناطق الجنوبية للبلاد، وإرهاب الشعوب المجاورة وإبهارهم بحجم وقوة مصر ممثلةً في ملكها، فجاء هذا النوع من الفن المعماري ليس بهدف التعبير عن الجمال، بل كان رسالة سياسية حاسمة في الداخل والخارج.

وكان الملوك يتحكمون في كيفية تسجيل الأحداث، وبالتالي استخدموا الفن كوسيلة لكتابة «التاريخ الرسمي»، بالطريقة التي تخدمهم، فعلى جدران المعابد، لم تكن تُسجل الهزائم أو الصراعات الداخلية، بل فقط الانتصارات والمشاريع المعمارية العظيمة والقرابين المقدمة للإله، ومن خلال هذا التوثيق الفني، جرى بناء سردية تُعظّم الحاكم وتُخفي نقاط ضعفه، مما رسّخ في الأذهان صورة محددة «لا تقبل الشك» لكونها منقوشة على حجارة المعابد وتُعرض في أقدس الأماكن.

ولم يكن الفن موجّهاً للناس فقط، بل كان يُستخدم أيضا لإيصال رسائل ملكية إلهية، وكأن الفن نفسه وسيلة تواصل سماوية، فكانت المعابد تمتلئ بالنقوش التي تُظهر الملك وهو يُقدّم القرابين للإله، للتأكيد على علاقته المباشرة به ودوره كوسيط بينه وبين الشعب، هذه المشاهد كانت تحمل في طيها رسائل سياسية بمذاق ديني موجهة للشعب أيضاً، تفيد بأن طاعة الملك تعني طاعة الإله، وتعني عدم الطاعة خروجاً عن النظام الكوني المقدس المعروف بـ«ماعت»، وبالتالي، أصبح الفن جزءاً لا يتجزأ من منظومة تثبيت السلطة وتقديسها في نظر الناس.

وتُعدّ الملكة حتشبسوت (1472-1457 قبل الميلاد) أبرز مثال على استخدام الفن لتعزيز شرعية الحُكم في مصر القديمة بأسلوب مزج الدنيوي المتعارف عليه بالديني المقدس، لا سيما وأنها تولّت العرش في سياق غير تقليدي بصفتها امرأة في منصب كان يحتكره الرجال.

كان الفن في مصر القديمة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الدينية، واعتُبر وسيلة مقدسة للتقرب من الإله وتمجيده، فالمعابد كانت مزيّنة بنقوش وجدران مليئة بالصور الرمزية للإله، وكل إله كان له ألوانه ورموزه وهيئته الخاصة، كانت هذه الصور وسيلة لفهم صفات الإله ومجاله الروحي، وبالتالي لم يكن الفن هنا وسيلة جمالية، بل أداة “تعليمية” و”تعبّديّة” ترسّخ معتقدات دينية بشكل بصري مؤثر، مثالاً على ذلك، الإله أوزير الذي كان يصور دوماً بلون أخضر رمزاً للحياة والبعث، أما ربّة الحق «ماعت» فكانت تُصوَّر بريشة على رأسها رمزاً للعدالة والنظام.

كان الإيمان بالحياة بعد الموت أحد الركائز الأساسية في العقيدة المصرية القديمة، وقد اضطلع الفن بدور محوري في تجسيد هذا الإيمان بصرياً، فغدت مقابر الملوك وغيرهم بمثابة عوالم متكاملة، تُصوَّر على جدرانها مشاهد تُظهر المتوفى وهو يواصل حياته في العالم الآخر، يأكل، ويشرب، ويمارس طقوسه، وكأن الفن يمنحه حياة أبدية.

واختلف الموضوع الفني للمناظر المنقوشة على الآثار بحسب الغرض الذي أنشيء الأثر من أجله، ففي المعابد خُصصت الجدران الخارجية لتسجيل أعمال الملك المهمة أمام الشعب، أما القاعات والأروقة الداخلية كانت تُخصص غالباً للمشاهد الدينية فقط.

كما لعب الكهنة دوراً بالغ الأهمية في إنتاج الفن الديني وتوجيه رموزه، إذ أولوا عناية فائقة بأدق تفاصيل النقوش والتماثيل، حرصاً منهم على أن تتوافق مع العقيدة وتحمل طاقة روحية مقدسة للمؤمن، فجاءت وضعية الأيدي، وحركات الجسد، وترتيب العناصر داخل النقوش، جميعها تحمل دلالات دينية عميقة، وكان من المألوف أن يُصوَّر الكهنة وهم يمارسون الطقوس أو يقدمون القرابين للإله، في تجسيد رمزي لدورهم كحلقة وصل بين العالم الأرضي والعالم الإلهي أمام المؤمنين.

وتقول لالويت في دراستها “الفن والحياة” إن المصريين القدماء “تميزوا، دون سواهم، بقوة العقيدة الدينية وعمقها، فكلمة (ديانة) كانت تعني التعامل، والصلة التي تربط بين البشر والإله”.

وتضيف لالويت في دراستها «الفراعنة في زمن الملوك الآلهة»، أن الفن المصري «فن نفعي»، ولكن نفعيته على أكبر قدر من السمو، إنه فن يلعب دور الوسيط بتطلعه إلى الخلود، الأمر الذي يفسر وجود أعداد كبيرة من التماثيل والاهتمام بتشابهها فيما يتعلق بالوجه على الأقل، في حين كان من الممكن تجميل الجسد بعض الشيء، لضمان أن يحيا الإنسان شباباً أبدياً، وهو ما يفسر أيضاً مبادئ التعبير التصويري.

وتقول لالويت: «الفن المصري ليس فناً سهلاً، بل يتضح أنه فن قائم على إعمال الفكر، يريد إدراك الواقع واستجلاءه، من كافة جوانبه المكانية وعبر امتداد زمني. فبعد أن يُبعث الإنسان حياً يصبح في وسعه الاستفادة من حياة الكون استفادة شاملة (للزمن الأبدي والزمن اللامحدود)، وإذا كانت طرق فناني مصر القديمة قريبة من طرق فنانينا المعاصرين، فإن البواعث التي كانت تحركهم مختلفة كل الاختلاف».

ويتّضح من خلال تتبع مسار الفن في مصر القديمة أن الفن لم يكن مجرد وسيلة زخرفية لا معنى لها، بل يحمل بُعداً أعمق وأقوى، يجمع بين السلطة والإيمان، استخدمه الملوك في ترسيخ حكمهم، وبث رسائل سياسية تؤكد قوتهم ومكانتهم الإلهية، في حين استُخدم نفس الفن لتوصيل معتقدات دينية، وتأكيد الصلة بين الإنسان والإله، وتوثيق رحلة الروح بعد الموت، وبذلك، أصبح الفن في الحضارة المصرية القديمة «لغة بصرية» كاملة، تنطق بكلمات لا تفوه بها الشفاه، وتُخلِّد رؤية مجتمع عاش على التوازن بين الحكم والقداسة، وبين الأرضي والسماوي، وبين الزمني والأبدي.

🟩🟩🟩🟩

المصدر: موقع بي بي سي 

المحرر: وائل جمال 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى