من اللافت للنظر في مجتمعنا، انتشار مساحة القبح، وامتدادها وهيمنتها على مواطن كثيرة من الصعب إحصاؤها، فهي في شوارعنا، ومنتدياتنا، ومعاهدنا العلمية، وملاعبنا، ومؤسساتنا الحكومية، وفي حوارينا، وأزقتنا، وفي قرانا، وأحيائنا، وعلى ألسنتنا، وفي مسامعنا، وتصافحها عيوننا.
المدهش أننا من فرط كثرتها، قد ألفناها واعتدنا عليها، ولم نعد نأنف منها كثيرا، وكأنها باتت جزءا أصيلا من حياتنا لا نستغني عنه !!
فقد شهدنا انحسارا لمساحات الخضرة، وتقلصت البساتين الجميلة والمناظر البديعة في أبنيتنا، والتي كانت مثالا للجمال الفطري.. انظر حولك لتجد مفردات القبح والتشويه تحاصرك من كل اتجاه، وتتلقى أذناك عبارات القبح المقذع التي تصيبك بالقلق والتوتر، وتجد العبث بجدران منازلنا ومؤسساتنا التي شوهتها سيول من الإعلانات واللافتات.
وإذا كان لك حظ لزيارة إحدى مدارسنا فسترى كما هائلا من التشويه، الذي نال أدراج ومقاعد التلاميذ الكبار والصغار.. ذلك التشويه الذي فعلوه بأيديهم هم لا بأيدي غيرهم.. وانظر إلى شواطئنا، فتجد ما لا يسر عينك ولا يرضي سمعك !!
لقد كانت الترع في القرى مثلا رائعا للنظافة والجمال، من حيث مياهها ومن حيث الأشجار المزروعة على جانبيها.. لقد امتلأت بالقمامة بأنواعها المختلفة، من حيوانات نافقة، إلى حد الصرف الصحي بها ففاحت منها روائح كريهة تزكم الأنوف وأصبحت بيئة للديدان والحشرات والهوام.
كل ما ذكرت آنفا، يعود بامتياز إلى غياب التربية الجمالية غيابا ملحوظا ومؤكدا في مناهجنا الدراسية، من سن ما قبل المدرسة حتى التخرج في الجامعة.. وإن كان من مقدار لهذه التربية في مدارسنا، فهو محصور في حصتين فقط للتربية الفنية وهما حصتان لا تغنيان ولا تسمنان من جوع !!
إن التربية الجمالية ليست بهذا المعنى الضيق؛ لأنها تربية رحبة تشمل السلوك الإنساني كله، في البيت والشارع، وفي المعمل، والمصنع وفي لغة الحياة اليومية وفي الغناء وفي فنون السينما والمسرح والموسيقى والتصوير والنحت وفي لهجة البائع والمشتري وفي خطب كل مسؤول وفي أفراحنا وأتراحنا.. فلكل مجال من مجالات حياتنا مسلكه الجمالي، الذي ينبغي أن يتبع.
ولا شك ان هذه التربية الجمالية يجب أن تدرج في مقرراتنا الدراسية منذ نعومة أظفار أبنائنا حتى تخرجهم في الجامعة.. وإذا كانت المدرسة يقع عليها الدور الأساس في هذا الشأن، فإن سائر المؤسسات غير معفية من هذا الدور، بل يجب أن تنهض بدورها في تنمية الوعي الجمالي، كما يجب ألا تخلو كتب التربية الدينية من موضوعات تدعم مفاهيم الوعي الجمالي، وبخاصة الجانب التطبيقي منه، والسلوكي والأخلاقي.
فإذا تحقق لنا هذا فتكون النتائج المنتظرة رائعة وفي مقدمتها انحسار ظواهر العنف والتحرش والتطرف وسنجد صناعات إبداعية وعقولا خلاقة لكل مظاهر الجمال يقف وراءها ذوق فني قد تمت تربيته جماليا ما مهد له الطريق ليؤتي نتائجه الطيبة ونجني ثماره الحلوة.
تلك صرخة يجب أن ينتبه لها صناع الثقافة وبناة التعليم والإعلام.. وأؤكد أن الذوق الفني والجمال يتكون في الصغر، وهو أجدى ولكن هذا لا يمنع من إعادة صياغة أذواق الجماهير الغفيرة، إذا صدقت الجهود التي يجب أن تبذل بنية مخلصة لانتشال هذا الوطن من مظاهر القبح التي لم يعرفها إلا في هذا الزمن الاستثنائي لأسباب كثيرة ومعقدة يطول شرحها.
من المهم أن نبدأ الآن وليس غدا وبخاصة أننا بصدد افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يعد وثيقة حجرية تشهد للإنسان المصري بذوقه القديم منذ آلاف السنين.. ويعلم الغرب قبل الشرق، كم لنا نحن المصريين من تاريخ عريق، ينطق بالفن والذوق الرفيع.
وكما كان للمصري القديم هذه الذائقة الجمالية، فإن المصريين المعاصرين امتداد لأجدادهم، ولا ينقصهم سوى الهمة والإرادة، والتقدم نحو الإنجاز، مدركين أن كل بقعة في مصر تلد فنانا كل يوم.