مقالاتمميز

الشفرة النوبية.. سر الانتصار في حرب أكتوبر!!

بقلم/ سيد الحاج

• في ذاكرة الوطن، تبقى لحظات النصر محفورة بمداد من الفخر والدهشة. ومن بين قصص المجد التي نسجت ملامح نصر أكتوبر 1973، تبرز قصة «الشفرة النوبية»، كواحدة من أعظم الأسرار العسكرية، التي حسمت معركة الكرامة.

فما بين كلماتٍ مثل:

«ستياكي بوجومرو» (انضرب إمتى؟)، و«ساع آوي باجد» (الساعة الثانية هنضرب)، و«أوشريا» (اضرب)، و«أوسكو»(تحرك)، اختُزلت ملحمة من الذكاء والابتكار، في جملة من المفردات النوبية البسيطة، التي تحولت إلى رمز للنصر، وأيقونة في تاريخ العسكرية المصرية.

🟩 أحمد إدريس.. الجندي الذي فكر خارج الصندوق:

– وُلد البطل أحمد محمد إدريس عام 1935 في قرية توماس وعافية بمحافظة أسوان، تلك القرية النوبية الهادئة التي أنجبت فارساً من طراز خاص. حصل إدريس على الشهادة الابتدائية الأزهرية عام 1952، وانتقل بعدها إلى القاهرة حيث أقام مع شقيقه الأكبر في حي حدائق القبة.

– في عام 1954 تطوع بالقوات المسلحة، فشارك في العدوان الثلاثي عام 1956، ثم ظل يخدم في صحراء سيناء منذ عام 1957 حتى خاض حرب اليمن، وشارك بعدها في نكسة 1967، قبل أن يكون أحد أبطال العبور العظيم عام 1973.

– غير أن أهم ما ميز هذا الجندي النوبي البسيط لم يكن سلاحه، بل فكرته العبقرية التي غيّرت مجرى التاريخ: استخدام اللغة النوبية كلغة سرية مشفَّرة بين وحدات الجيش المصري، لتأمين الاتصالات ومنع العدو الإسرائيلي من التنصت وفك الرسائل.

🟩 ولادة الفكرة: الشفرة الحية التي لا تُكتب:

– كانت إسرائيل قد نجحت مراراً في اعتراض الاتصالات اللاسلكية المصرية وفك رموزها خلال الحروب السابقة. وفي هذا الوقت العصيب، تبلورت لدى إدريس فكرة بسيطة لكنها خارقة:

لماذا لا نستخدم اللغة النوبية، لغة لا تُكتب ولا توجد في القواميس، كلغة اتصال سرية بين وحدات الجيش؟

– عرض إدريس فكرته على قادته في قوات حرس الحدود، فانتقلت إلى رئيس الأركان، ثم إلى الرئيس أنور السادات الذي رحب بها على الفور.

يروي إدريس قائلاً:

 «استدعاني الرئيس السادات إلى مقر القيادة، وعندما رآني مرتبكاً، وضع يده على كتفي وقال مبتسماً: «فكرتك ممتازة يا إدريس… لكن كيف ننفذها؟».

– اقترح إدريس أن يتم اختيار مجندين من أبناء النوبة القديمة الذين لم يتأثروا بعملية التهجير بعد بناء السد العالي عام 1964، لأنهم أكثر إجادة للغة النوبية الصافية، وهو ما تم بالفعل.

🟩 تطبيق الشفرة النوبية: حين صار اللسان سلاحاً

– اختير نحو 70 مجنداً نوبياً من قوات حرس الحدود لتدريبهم على استخدام اللغة النوبية في إرسال واستقبال الرسائل السرية بين القيادات.

– بدأ العمل بالفكرة منذ عام 1971 وحتى يوم النصر في السادس من أكتوبر 1973، حيث دوّت كلمة «أوشريا» عبر أجهزة الاتصال، لتعلن ساعة الصفر وتبدأ ملحمة العبور.

– كانت الشفرة النوبية سراً عسكرياً مطلقاً ظل طي الكتمان لأكثر من أربعة عقود، إذ أوصى الرئيس السادات إدريس بعدم الإفصاح عنها تحت أي ظرف، حتى تم الكشف عنها عام 2011.

🟩 تكريم البطل:

– ظل أحمد إدريس في صفوف القوات المسلحة حتى عام 1994، وبعدها عاش حياة بسيطة في مسقط رأسه.

وفي العام 2017 كرمه الرئيس عبدالفتاح السيسي بمنحه وسام النجمة الذهبية، ثم في عام 2019 أُنتج فيلم تسجيلي عن قصته بعنوان «الشفرة» تخليداً لدوره.

رحم الله الحاج أحمد إدريس، وخلد اسمه بين أبطال مصر الذين صنعوا المجد بصمتٍ وإيمان.

🟩 اللغة النوبية.. الجذور التي لا تموت:

– اللغة التي حمت سر النصر، ليست مجرد وسيلة تواصل بل هي تراث حضاري ضارب في القدم.

– ينتمي اللسان النوبي إلى اللغات النيلية الصحراوية، وهي إحدى الأسر الأربع الكبرى في القارة الإفريقية.. وتعد اللغة النوبية من أقدم اللغات في وادي النيل، حتى أن بعض الباحثين يعتقدون أنها لغة الفراعنة الأقدمين.

فاسم الملك «توت عنخ آمون» مثلاً، له جذور نوبية:

توت من «تود» وتعني «ابن»

عنخ من «أنج» وتعني «الحياة»

آمون من «آمن» وتعني «ماء»

أي أن الاسم في النوبية يعني «ابن ماء الحياة».

– كذلك يرى باحثون أن كلمة «كليوباترا» مشتقة من التعبير النوبي «كلوب بترتا»، وتعني المرأة اللعوب، وهو ما ينطبق فعلاً على وصف الملكة الشهيرة.

🟩 النوبة.. أرض الذهب والأنهار:

– من الناحية الجغرافية، تمتد بلاد النوبة جنوب مصر بين الشلال الأول عند أسوان والشلال الثاني، وصولاً إلى شمال السودان.. وقد كانت تعرف في العصور القديمة باسم «بلاد الذهب» (نوب أو نوبو)، لما تزخر به من معادن ثمينة.

تنقسم النوبة إلى:

– النوبة السفلى (من الشلال الأول إلى الثاني – داخل مصر)،

– النوبة العليا (جنوب الشلال الثاني – داخل السودان).

ورغم الحدود السياسية الحديثة، فإن الدم والثقافة واللغة توحد النوبيين شمالاً وجنوباً.

🟩 اللغة النوبية بين الماضي والحاضر:

• تقسم اللغة النوبية إلى مجموعتين رئيستين:

– الكنزية-الدنقلاوية (أوشكرين)

– المحسية- الفديجا (نوبين)

– وهي لغة غنية بالإيحاءات الصوتية والدلالية، لا تعرف التذكير والتأنيث ولا أداة التثنية، وتتميز بقدرتها على التعبير الدقيق عبر النبرات والنغمة.

– كما تأثرت عبر القرون بالعربية والقبطية والمصرية القديمة، لكنها احتفظت بجوهرها الأصلي بفضل تمسك النوبيين بتراثهم اللغوي.

🟩 الشفرة التي صارت رمزاً :

– لقد كانت الشفرة النوبية في حرب أكتوبر أول وأهم (شفرة حية) في التاريخ العسكري الحديث، لغة بشرية لا تكتب، لا تُترجم، ولا يمكن فكها إلا بإحساس من عاشها وتحدثها.

بفضلها، تحقق عنصر المفاجأة الذي أربك العدو وأذهله، فكانت أداة النصر بلسان أهل النوبة.

• وهكذا خلد التاريخ اسم الجندي أحمد إدريس، وخلد معه لغة حملت في طياتها عبقرية الإنسان المصري النوبي، الذي جعل من تراث أجداده سلاحاً للدفاع عن وطنه.

• «ستياكي بوجومرو؟»

«ساع آوي باجد… أوشريا!»

كلمات قليلة بلغة نوبية عريقة، لكنها كانت الشرارة التي أشعلت فجر النصر في السادس من أكتوبر 1973.

• مراجعة وإشراف:

الدكتور محمود عزالدين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى