مقالات

البخاري المُتربص به !! (بقلم: محمد ناچي المنشاوي)

لم يواجه كتاب بعد القرآن الكريم لحملات مغرضة وفتن بحجم ما تعرض له كتاب (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) المشهور ب (صحيح البخاري) أو (الجامع الصحيح ) لصاحبه (أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري الجعفي) (194ه/256ه )–(810م/870م) والذي أعلى العلماء من أهميته وقدره.

ومن عجائب الأمور أن البخاري المختلف عليه، والمتربص به وبمصنفه في عصرنا الراهن، لم يسلم من هذا التربص وهذا التعنت والتآمر عليه من معاصريه ،بسبب بعض القضايا وأهمها مسألة خلق أفعال العباد حيث أنكر البخاري قول من يقول (إن كلام الله مخلوق ) ومن أشد خصومه (محمد بن يحي الذهلي).

وقد وصلت الحملة الشعواء عليه في عصره إلى حد اتهامه بالانحراف عن السنة، حتى أخرج من نيسابور وبخارى، فنزل بإحدى قرى سمرقند حيث مرض وتوفي، وهو المصير الذي لاقاه بعض علماء وفقهاء المسلمين الكبار في عصور مختلفة.

والواقع أن البخاري ومصنفه يواجهان حربا من خمس جبهات لاتتوقف عن الإغارة عليهما بين الفينة والفينة ، تختلف كل جبهة منها عن أخراها، من حيث القصد والدوافع والمرجعية، وتلك الجبهات هي:

الأولى؛ العلمانيون العرب المتربصون بكل مايتصل بالإسلام قرآنا وسنة وتاريخا ، وهؤلاء ينطلقون من مرجعية إستشراقية حاقدة، بقصد هدم الإسلام جميعا.

والثانية: القرآنيون المنكرون للسنة جملة بحجة أنها مصدر غير موثوق به في التشريع وهي في نظرهم مجرد أخبار منقولة مشكوك في مدى صدقها وصحتها.. والثالثة: أشباه العلمانيين وأشباه الباحثين وأشباه المثقفين، الذين يتعالمون دون علم ويخوضون في القضية عن جهالة مفرطة وهم مدفوعون بدوافع التمظهر بالتحرر الفكري ليجدوا لهم جمهورا من المصفقين الأماعين.

والرابعة: الإعلاميون الساعون لإثارة جمهور المشاهدين لتحقيق ما يعرف بالترند وهذه الجبهة الرابعة أشد الجبهات خطرا لسعة مداها وسرعة وصولها إلى المشاهدين عبر برامج فضائية ليس لها دافع إلا التربح والكسب المادي.

والخامسة: قطاع من العامة والدهماء الذين يتشبعون بوجبة الإعلام المسمومة، فيرددون اراجيف المرجفين ويتحدثون بما ليس لهم به من حول ولا قوة.

وتتلخص اوهام الطاعنين في البخاري وكتابه بقولهم ( كيف جمع البخاري 600000 حديث عبر 16 عاما بمقدار37500حديث في العام الواحد، ويحتجون بقولهم : إنه لو افترضنا أن البخاري اشتغل 300 يوم بدل 365 يوما، فذلك يعني أنه في اليوم الواحد يجمع 125حديثا ولو عمل باليوم 8 ساعات فيعني أنه جمع في الساعة الواحدة حوالي 16 حديثا).

ولكن أولئك النفر الذين أجهدوا أنفسهم في هذه العملية الحسابية الخطأ، لو دققوا في بحثهم بالملاحظة والاستقراء، وقراءة المصنف كله، وفق منهجية علمية موضوعية بعيدة عن العقلية المتربصة.. وتتبعوا سيرة البخاري وحياته العلمية ولم يتأثروا بما يردده العامة على سبيل المبالغة أنه كان يشد الرحال إلى كل بلاد المسلمين ليتأكد من صحة كل حديث شريف (على حدة) وهذا أمر مستحيل حدوثه ، ولا حتى في عصر ثورة الاتصالات والمواصلات ، وإنما كان للبخاري طرق ومصادر متعددة يستقي منها الأحاديث ، بعد التأكد من صحتها وفق منهج علمي صارم.

ونجمل هذه المصادر والمراجع فيما يأتي:

1= الأحاديث التي سمعها من شيوخه الذين بلغوا قرابة ألف شيخ وحفظها عنهم عن ظهر قلب وكان يتسم بقوة الذاكرة والحفظ ، وقد تعددت رحلاته لطلب العلم إلى شيوخ في مكة والمدينة والشام ومصر والبصرة والكوفة وبغداد.

2= استيقاؤه من الصحف التي كانت متاحة له ولغيره في عصره وأخذه من الأحزاء الحديثية المدونة.

3=مصنفات الأئمة المتقدمين عليه والتي تم تدوينها في عصر الصحابة والتابعين، معتمدا على قوته في الحفظ وعلى الرواية الشفوية الموروثة والتي كانت تدعمها الكتابة.

ومن كل هذه المصادر السابقة انتقى ما انتقاه ليودعه في كتابه بعد فحص وتدقيق في أمانة ليثبت الصحيح منها فقط والتي تتوفر فيه شروط الصحة.

والواقع أن هذه الشبهات التي وقع فيها أصحاب تلك الجبهات المذكورة آنفا مرجعها هذا الكم من الأحاديث التي احتواها صحيح البخاري، وقد أحصوها عددا فبلغت 7275 حديثا.

والخطأ الكبير الذي وقع فيه هؤلاء المتشككون أنهم اهتموا بالإحصاء العددي ولم ينتبهوا مطلقا إلى ظاهرة واضحة في الكتاب وهي ظاهرة (تكرار ذكر الحديث الواحد في كثير من الأحيان مرات متعددة فالحديث الواحد يكرره البخاري من طرق مختلفة أخذا بالحيطة والحذر والتأكيد على صحة هذا الحديث.

وهذا سر تعاظم هذا العدد الذي لا يتبينه إلا الباحث الأمين ،ويرى ابن الصلاح أن الكتاب ضم 7275 حديثا ويؤيده الإمام النووي في ذلك، ويذهب ابن حجر إلى الكشف بوضوح عن سبب هذا الالتباس فيقرر أن الكتاب يضم 7397 حديثا، لكن الخالص من هذا العدد الضخم دون تكرار حوالي (2602) حديث فقط وبإضافة المتون المعلقة المرفوعة وهي (159)حديثا فيكون المجموع (2761)حديثا.

ونذكر في هذا الصدد ما يجعل القضية أكثر جلاء، أن الشيخين: البخاري ومسلم ليسا أول من اهتم بالصحيح من الحديث بل سبقهما في ذلك الإمام مالك في كتابه (الموطأ ) إلا إنه لم يتقيد في كتابه بالصحيح فقط كما فعل الشيخان البخاري ومسلم ، فقد ادخل في الموطأ الحديث المرسل والمنقطع.

وقد جمعت السنة في كتبها الستة (صحيح البخاري /صحيح مسلم /سنن أبي داوود/وسنن النسائي / سنن الترمذي /سنن ابن ماجة ).

ولقد قام علماء المسلمين بهذا الجهد الجهيد بعد اندلاع الفتنة الكبرى ، وظهور فرق الوضاعين والكذابين بدس الأكاذيب وترويجها بوصفها احاديث فانتبه العلماء لتلك المخاطر ، فأنشأوا علما نقف أمامه في إكبار وإجلال وهو علم الجرح والتعديل الذي تنضبط به السنة.

وتمكن العلماء من التمييز بين انواع واشكال الحديث بقواعد علمية غاية في الدقة والموضوعية فسدوا بهذا الباب السبل المروجة للكذب على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تمثل المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، والمبينة والمفصلة لكتاب الله عز وجل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى