حياة بني إسرائيل في مصر .. بين حقائق الدين ومصادر التاريخ
عرض وتقديم/ سمير شحاتة
على الرغم من مزايا القرآن الكريم –كمصدر تاريخى- من حيث الثقة التامة فى دقة وصحة المعلومات المستمدة منه، فإن حكمة الله وغايته من كتابه الحكيم لم تتجه بشكل مباشر إلى اعتباره كتاب تاريخ، فهو لا يؤرخ الأحداث، ولا يسمى الأشخاص، وإنما أنزله ليهدى به الناس من الضلال إلى الإيمان، ويعلمهم أركان دينهم، وغاياته ومقاصده. وإذ قص الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء والمرسلين، فذلك لأنهم خير خلق الله وصفوته، وأراد بها تثبيت فؤاد نبيه وإخباره أنه ما من نبى جاء بمثل رسالته إلا ولاقى من قومه العداء والإنكار، فيكون فى ذلك تسرية لنفسه صلى الله عليه وسلم، ويكون فيها أيضا العبرة والعظة للأمة الإسلامية على مر العصور والدهور. وقد اشترك القرآن الكريم مع العهد القديم فى عرض قصص أنبياء إسرائيل، وتاريخ بنى إسرائيل وواقعة دخولهم مصر وخروجهم منها، والمراحل التاريخية لحياة بنى إسرائيل في مصر.
يتناول المستشار هشام سرايا مؤلف الكتاب فى طبعته الثانية لعام (2020)، موضوعًا شغل الكثيرين على مر الزمن، وأثار الكثير من الجدل، هو قصة بنى إسرائيل (نشأة، وموطنًا، وحضارةً، وأديانًا .. إلى آخر ما يتعلق بحياة مجتمع بشرى). ويُعد هذا الكتاب بمثابة قراءة جديدة للأحداث القديمة، التي أصبحت، مع الوقت، من الثوابت، حيث يحاول المؤلف زحزحة تلك الثوابت بأدلة جديدة يستقيها من المصادر الدينية والأثرية بطريقة سلسة، منتهجًا أسلوبًا منطقيًا بحثيًا مميزًا ومشوقًا فى الوقت نفسه. فسرايا، رجل القانون، درس الآثار وراح فى كتابه يلضم التفصيلة بالأخرى ليكتب بحُجة القانونى، وبعقل الباحث الذى يخضع مادته للمنطق. ففى هذا الكتاب الذي يصدره مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع ويقع فى 838 صفحة، وخمسة أبواب، يُقسم الكاتب كلاً منها إلى أبواب وفصول:
يتناول الباب الأول مسرح الأحداث ودورة الحضارة المصرية وعلاقاتها بالشرق القديم، وذلك عبر فصلين يتناول فى الفصل الأول مسرح الأحداث بين مصر وما حولها من أماكن ذات صلة بالمسرح الرئيسي للأحداث (مصر الأرض، والنهر، والشعب)، وفى الفصل الثاني يدرس دورة الحضارة المصرية وعلاقاتها بالشرق القديم، حيث قُسمت إلى ثلاث فترات: مصر من التأسيس والازدهار إلى الاحتلال والتحرير، ثم من قمة الإمبراطورية إلى بداية الاضمحلال، ومن الاضمحلال إلى سقوط الحضارة الفرعونية وانقسام البلاد، لتنتهي بذلك إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ البشرى.
ويأتي الباب الثاني على سيرة بني إسرائيل بدءًا من الآباء الأوائل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف عليهم السلام، مرورًا بموسى. وهنا يتوقف المؤلف ليسرد لنا قصة سيدنا موسى ببعض التفصيل منفردًا له بفصل كامل باعتباره أهم شخصية في حياة بني إسرائيل، فهو رسولهم ومخلصهم مما عانوه من اضطهاد على يد فرعون وأذنابه. متطرقًا إلى الحديث عن سنوات التيه لبنى إسرائيل في صحراء سيناء، ثم بني إسرائيل بعد موسى، من خلال ثلاثة فصول تتبع حياة بني إسرائيل بين مصر وأرض كنعان بعد أن برأهم الله من التيه وخروجهم مع طالوت لملاقاة الجبابرة في أرض فلسطين.
ويعرض الباب الثالث نتائج من الدراسة الدينية والتاريخية، فيتناول في الفصل الأول الركائز الأساسية للبحث، وفى الفصل الثاني يحقق في تاريخ بني إسرائيل إلى مصر مفندًا للكثير من الآراء التي تعرضت لهذه المسألة، ثم يحدد في الفصل الثالث النطاق الزمني للبحث (عصر الدخول وعصر الخروج وانتهاء النطاق الزمني للبحث بوفاة الملك سليمان). أما الفصل الرابع فيربط بين الرواية الدينية والأحداث التاريخية التي ذخرت بها تلك الفترة.
ويأتى الباب الرابع ليقسم، عبر 3 فصول، المراحل التاريخية لحياة بني إسرائيل في مصر إلى: عصر رسالة يوسف والمد الإسلامي، ثم المؤامرات الإسرائيلية. مسلطًا الضوء على حيلهم وخداعهم للوصول إلى أهدافهم مهما كان الثمن، وأيًا كانت الوسيلة، منتهجين مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، ثم يستعرض المرحلة الأخيرة، عصر الانتقام والاستعباد. وهنا يعرض المؤلف ما حاق ببني إسرائيل من أذى واستعباد وتسخير في الأعمال الشاقة لفترة تناهز القرن جزاء لمؤامراتهم.
وفى الباب الخامس والأخير، يتناول الكتاب الأدلة التي يقدمها على استنتاجاته وبعض الشخصيات التي وُردت بالقصة الدينية، وكان لها دور في توجيه الأحداث، مثل فرعون الميلاد، وفرعون الخروج، وهامان، وامرأة آل فرعون ومؤمن آل فرعون، ثم تأتى الخاتمة لتثير قضية الميراث وأرض الميعاد من خلال عرض عام لتلك القضية في الروايتين القرآنية والتوراتية. وفى النهاية يعرج المؤلف على بعض القضايا التي تبين مدى عنصرية بني إسرائيل والتي تتجلى بشكل كبير فيما كتبه كهنتها في التوراة وما ألحقوه بها.
ويعتمد المؤلف فى سبيل البحث عن الحقيقة على ثلاثة مصادر لاستسقاء المعلومات والحقائق، وهى: الراوية التوراتية، والراوية القرآنية، والمصادر التاريخية متمثلة فى الآثار وما سجلته لنا كتابات الجداريات والبرديات والمراسلات فى تلك الحقيقة السحيقة من التاريخ، حيث يعرض لها بالبحث والدراسة والتحليل مفاضلًا بينها، ويتجلى ذلك فى واحدة من أكثر نقاط الكتاب إثارة للجدل وهى تحديد خروج بني إسرائيل من مصر. كما يهدف الكتاب فى الأساس إلى تحديد الزمان الذى دارت فيه أحداث قصة بنى إسرائيل فى مصر، وأشخاص الراوية التى تحكيها الكتب المقدسة، وعلى رأسهم فرعون موسى، تلك الشخصية التى شغلت العالمين قديمًا وحديثًا.
بنو إسرائيل فى مصر .. متى؟
يشير المؤلف، وبالاستناد إلى ما يُعرف بـ “نص حتشبسوت”، أن العام 1643 ق.م.، كان موعدًا لدخول بنى إسرائيل إلى مصر واستقرارهم بها فى أرض جوش (جاسان) التى منحها يوسف للأسباط، واتكاء على القرآن والتوراة يقص المؤلف سيرة “يوسف”، منذ أن دخل مصر غلامًا وبيع فيها عبدًا، ثم مكن الله له فى الأرض فتولى خزائن مصر. وبعد أن التقى إخوته وتعرف إليهم، طلب منهم أن يرجعوا إلى أرض كنعان ليأتوا بوالده يعقوب الذى يؤرخ لدخوله مصر بنحو عام 1700 ق.م. وكانت تلك بداية حياة استمرت 430 عامًا على أرض مصر.
وإذا كان دخول بنى إسرائيل حقيقة مؤكدة، فإن هذه المدة التى حددتها التوراة ليست على قدر من الثبوت يكفى لاعتبارها حقيقة يعتد بها يقينًا، فهذه المدة تتعارض منطقيًا وتاريخيًا مع تواريخ أخرى وردت فى التوراة نفسها، أهمها أعمار سلالة موسى. وفى سبيل البحث عن الحقيقة وإبرازها بصورة موضوعية بعيدة عن الأهواء والميول الشخصية. وهذا هو الجديد الذى يقدمه الكتاب، نبش المسلّمات التى اعتبرت من كثرة الترديد بديهية، ومنها، إلى جانب مدة الإقامة، غرق فرعون وإبادة الجيش المصرى، وكذلك فترة التيه، ثم دخول بنى إسرائيل فلسطين، بعد سنوات التيه، وأخيرًا وجود وانتهاء النفوذ المصرى فى فلسطين.
وتوصل المؤلف، إلى أن حقيقة دخول بني إسرائيل مصر كان في عهد الهكسوس، مستندًا في ذلك على أدلة كثيرة استقاها من مصادر بحثه، ومنها: أن القرآن الكريم، في مجاز لغوى، يتفق وأدق التفاصيل التي كشفت عنها الآثار في العصر الحديث. وذلك عندما استُخدم في سورة يوسف لقب “ملك”: (قال الملك إنى أرى سبع بقرات) (الآية)، في حين أنه يلقب الحاكم الذي عاصر “موسى” بـ “فرعون”: (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون). فهذا التعبير القرآني الذي يميز بين حاكم مصر في عهد يوسف عن عهد موسى، يؤكد أن يوسف عليه السلام قد وصل إلى مصر في عصر لم يكن فيه الملوك المصريون يتخذون لقب “فرعون” الذي بدأ استعماله في الأسرة الثامنة عشرة، مما يدل على أن يوسف قد عاش قبل هذا العصر، تحديدًا في عصر الهكسوس. والخلاصة أن الإسرائيليين، على عهد يوسف، عاشوا في مصر في سلام، لكن الأقدار كانت تحفر لهم نفقًا معتمًا مكثوا فيه أكثر من مائة عام. وكانت حتشبسوت هي التي دقت في نعشهم أول مسمار، إذ تحول الرخاء إلى محنة وعبودية على عهد موسى، والسؤال: لماذا لم تأت التوراة على أخبار بني إسرائيل ما بين يوسف وموسى؟!
التوراة تنسى ما بين يوسف وموسى
تناول المؤلف المرحلة الأولى التي دعا فيها يوسف المصريين للإيمان بالله الواحد ونشر الأسباط لعقيدة أنبياء إسرائيل في مصر الشمالية والوسطى، والمرحلة الثانية التي حدثت فيها التدبيرات الإسرائيلية حدت بإخناتون، وأخواله الإسرائيليين، إلى إعلان عقيدة التوحيد، ديانة رسمية لمصر. جوهر هاتين المرحلتين ونتائجهما يتنافى تماما مع الاستخدامات العنصرية اللاحقة التي بثها كهنة إسرائيل فى العقيدة الإسرائيلية التي كانت سماوية وتحولت على أيديهم إلى ديانة وضعية، سُميت، لاحقًا، بـ “اليهودية”، وبناء عليه تجاهلت أيدي الكهنة العلاقات المصرية–الإسرائيلية خلال عهد يوسف والأسباط، وفترة الانتشار الديني حتى ميلاد موسى.
والخلاصة التى انتهي إليها المؤلف أن الإسلام (الإيمان بالله الواحد) قد دخل مصر على يد يوسف عليه السلام، وكان له أتباع ومعابد تقام فيها شعائره، وبعد سقوط حكم الهكسوس على يد الملك أحمس تعامل ملوك مصر، بعد التحرير، مع القبائل الوافدة التي استمرت في العيش بمصر، ومنهم بنو إسرائيل، بتسامح. لقد استمر هذا الدين حيًا في العلن، إلى جانب العبادات الوثنية القديمة دون صراع، بالأسلوب ذاته الذي وضعه يوسف في التعامل مع الديانات الأخرى “التعايش”. ومع استمرار الإيمان كان طبيعيًا أن يصبح بنو إسرائيل، أصفاد الأسباط، هم رجال هذا الدين الذي يقع على عاتقهم نشر الدعوة للحفاظ على دينهم. وأصبحت، من ثم “أفاريس” هي قبلة هذا الدين وشطرها، يولى المؤمنون وجوههم. وقد استمر هذا الوضع قائمًا إلى أن حدث الاصطدام الأول مع ملوك طيبة في عهد حتشبسوت.
أبو الأنبياء فى المحروسة
أتى إبراهيم مصر خائفًا يترقب، فوجد فيها الأمن. كان أبو الأنبياء، ومعه لوط، عليهما السلام، أول أقدام عبرانية تطأ أرض مصر. هربًا من المجاعة التى ضربت كنعان (فلسطين). وبين المصريين وجد الرجلان كسرة الخبز والمأوى إلى أن “صعد أبرام من مصر هو وزوجه وكل ما له، ولوط معه إلى الجنوب، وكان أبرام غنيًا جدًا فى الماشية والذهب والفضة”. بقى إبراهيم فى مصر 7 سنوات على ما يذكر. وعند هذه السنوات، وهذه الجذور، يحفر الكتاب فى استقصاء للحقائق من منابعها الأولى.. كلام الله (القرآن)، فى مواجهة كلام البشر (التوراة)، ثم يستنطق التاريخ والآثار “الخبر والحجر”. ومنذ هذه الزيارة وما جرى فيها تبدأ فى التناسل جرثومة الشك، حيث يستنكر المؤلف ما تدسه التوراة على أبى الأنبياء من أنه استعمل امرأته (سارة) كأخت له، أراد بذلك أن يفتح الباب للطمع فيها، كى يمرر مصالحه. كتبة العهد القديم، كما يقول سرايا، لم يجدوا غضاضة فى أن يظهروا إبراهيم فى صورة من يستغل زوجته لأغراض دنيئة. إذن ثمة اختلافات جوهرية بين القرآن والتوراة، يعددها المؤلف، ويخلص منها إلى أن يد التحريف قد امتدت للتوراة، اعتقادًا من المحدثين أنهم بذلك يحافظون لبنى إسرائيل على نقاء العنصر، وهو الهاجس الذى سيطر على العصر الذى أُعيد فيه تدوين توراة موسى (الأسفار الخمسة الأولى) وإضافة الأسفار اللاحقة عليها.
وفى رأى المؤلف أن ذلك العصر شهد انكسار وتشتت بنى إسرائيل، ولذلك حرص الكهنة على التركيز على الروابط العنصرية وربطها بجوهر الدين “أسرلة الدين”، فأدخلوا فى روع الشعب أن إبادة الأجناس الأخرى كان سلوك أنبيائهم وزعمائهم، وأن الحفاظ على نقاء العنصر هو نهج موسى ويشوع. لم يريدوا أن يندمج شعب إسرائيل مع غيره، وعليه راح هؤلاء الكهنة، أصحاب المنهج البشرى القائم على الاستعلاء، يكرسون لـ “أسرلة الرب”، حيث يصر العهد القديم على تصوير الله على أنه رب بنى إسرائيل فقط، ولهذا لم يكن إبراهيم، حسب هذا المنهج، رسولًا لكل الناس، ولا إسحق ولا يعقوب ولا يوسف. كل أنبياء إسرائيل تنكر التوراة عليهم رسالتهم لشعوب الأرض كافة. تلك هى بذرة العنصرية البغيضة التى تقصر الدين فيهم والرب عليهم والأرض لهم وحدهم، حتى إنهم يقسمون العالم إلى قسمين: نحن وهم، بحيث لا يرون فى الآخر سوى “عدو”!
ميلاد إسرائيل
إزاء الخطر الذى داهم بنى إسرائيل ونبه السلطات إليهم كان عليهم أن يعيدوا ترتيب الأثاث فيما كان البيت يحترق، وما حدث أن سلسلة مؤامرات قد جرت أدت ببنى إسرائيل إلى عبور النهر نحو الضفة الآمنة. تبدأ المؤامرات بالأمير الشاب تحتمس الذى كان يعيش فى “منف” مع باقى إخوته ولى العهد والأمراء، أبناء الملك “أمنحوتب الثانى”. وفى منف كان الأمير يتجول بعربته الحربية، فإذا به يلتقى الفتاة الجميلة “موت إم أويا” فأحبها وتعلق بها قلبه، وكان وقتها فى السادسة عشرة من عمره حين أقام علاقته مع “أويا” وأنجب منها أول أطفاله، وبعد أن أصبح ملكًا أصبحت هى بالضرورة، الملكة، مع أنها لا تنحدر من دم ملكى، وبالتالى أصبح ابنها “أمنحوتب الثالث” ولى عهد لأبيه تحتمس، والفرعون القادم. فقد تزوج تحتمس الرابع من محبوبته وأنجب منها فى العام 1400 ق. م، قبل اعتلائه العرش بنحو عامين أو ثلاثة. وصل إلى الحكم، رغم أنه لم يكن وليًا للعهد، وقد تم ذلك بتدبير من كهنة إله الشمس (بنى إسرائيل). عاجلت المنية تحتمس شابًا، فخلفه ابنه أمنحوتب الثالث، تحت وصاية أمه، وكان حينذاك فى الثانية عشرة من عمره. وفى العام التالى تزوج أمنحوتب من “تى” واحدة من عامة الشعب والدتها “تويا” ووالدها “يويا” الذى تقلد الكثير من المناصب الدينية والإدارية وأصبح له شأن فى الدولة.
ونقفز على الأحداث فنصل إلى “أمنحوتب الرابع” (إخناتون لاحقًا) الابن الثانى لأمنحوتب الثالث الذى مات دون الخمسين، بسبب انهماكه فى الملذات. أمنحوتب هذا أصبح وليًا للعهد ثم تزوج من نفرتيتى “إبنة خاله”.. حفيدة يويا وتويا. وقد وصل إخناتون إلى طيبة فى السادسة عشرة من عمره وأقام داخل القصر الملكى الذى بناه أبوه فى “ملقاطة” على الضفة الغربية للأقصر، وفى حوالى العام الخامس أو السادس من حكمه أعلن إخناتون عقيدة التوحيد.. آتون الإله الواحد الأحد للدولة. وانتقل مع زوجته نفرتيتى وكبار رجال الدولة إلى عاصمة البلاد الجديدة “آخت آتون” (العمارنة)، مصدرًا أوامره بإغلاق المعابد الوثنية ومحو أسمائها وعلى رأسها معابد آمون ومحا لفظ “الآلهة”، ليحل محلها الإله الواحد. وترتيبا على هذه الوقائع يصل “سرايا” إلى حكم يقينى بأن “يويا” (الإسرائيلى) و“موت إم أويا” الإسرائيلية يقفان وراء المؤامرة التى انتهت بوصول تحتمس الرابع إلى الحكم. لقد كان تحتمس وسيلة عبر عليها بنو إسرائيل نحو أهدافهم ومنها.. فرض العقيدة الإسرائيلية وانتزاع النفوذ والسيادة الدينية، وكذلك أموال وأوقاف المعابد، وإعداد فلسطين للهجرة وسلب السيادة المصرية عنها.
سقوط “الآتونية”
فى موضع آخر على خشبة المسرح كانت تجرى، من وراء الستار، مؤامرات أخرى أدت إلى انحسار المد المصرى خارج الحدود. فداخل البلاط المصرى فى “آخت آتون” كان الموظف المسئول عن الشئون الخارجية وتلقى اتصالات المستعمرات رجلا إسرائيليا اسمه “دودو”، الذى كان يلقب بالفم الأعلى للملك إخناتون وخادم حجرته الخاص. هذا الرجل كان يفصل فى رسائل الأمراء فى سوريا وفلسطين ويصدر إليهما وإلى غيرهما من أمراء المستعمرات الأوامر. ويخلص سرايا، من الرسائل المتبادلة بين “دودو” وبين هؤلاء الأمراء، ومن النتيجة التى انتهى إليها أمر الممتلكات المصرية فى سوريا، إلى وجود اتفاق بين “دودو” وبين هؤلاء على سحب النفوذ المصرى من سوريا وتركها فقط تحت ضربات “الحيثيين” وجانب من الاتفاق ينص على أن يتعاون العبريون مع الحيثيين فى رد أى اعتداء مصرى، أو حتى محاولة مصرية لاسترداد نفوذها، مستقبلا فى آسيا.
يشير “سرايا” إلى كهنة عين شمس “الآتونيين” وإلى الكاهن “يويا” بإصبع الاتهام، مستدلا، فى تأويل جديد، بالقرآن الذى يعلن مسئولية بنى إسرائيل عن نشر “الأتونية” فى مصر، حيث ذكر القرآن أنها كانت السبب فى الاضطهاد والتعذيب اللذين وقعا على بنى إسرائيل ومن اتبعهم من المصريين. وعلى كل، خرج بنو إسرائيل من مؤامراتهم بخفى حنين، فقد سقطت “الأتونية” وبعدها بسنوات قليلة سقط الملك “آى” زعيمهم فى مصر وانكشفت مؤامراتهم، فصاروا فريسة للاضطهاد حتى جاءهم الخلاص على يد موسى عليه السلام.
ميلاد فى زمن القتل
ونصل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من وجود بنى إسرائيل فى مصر، أو ما أسماه “عصر الانتقام والاستبعاد”، حيث اكتشف “حور محب” مؤامراتهم، فنكل بهم شر تنكيل، حتى الأطفال الذكور لم يسلموا منه. وفى هذه الآونة ولد موسى، ومن ثم خافت عليه أمه فوضعته فى “سفط” حيث حمله النهر إلى بيت الفرعون، إلى آخر ملابسات القصة المعروفة. المهم أن مظاهر التعذيب اقتصرت، بعد حور محب، على استعباد بنى إسرائيل وتسخيرهم فى صناعة الطوب وأعمال البناء وتشوين الغلال واستمروا كذلك حتى خرجوا من مصر. ولأن هذه المرحلة قد ورد الحديث عنها فى المصادر الدينية، فإن سرايا، كما يقول، يقصر حديثه على تحقيق “زمن” الرحلة. وطبقا لما انتهى إليه، فإن بداية حكم الفرعون حور محب (1321 ق.م) هو تاريخ بدء تعذيب بنى إسرائيل وأن رمسيس الثانى الذى انتهى حكمه فى العام 1213 ق.م هو أول الفراعنة المرشحين لحادث الخروج عند نهاية عهده.
بعد أن انتهت فترة حكم حور محب كانت سنوات حكمه الانتقالية وما صاحبها من قتل وبطش وتشريد كافية لأن تؤكد لحكام الأسرة التاسعة عشرة أن عقيدة إخناتون قد أصبحت أثراً بعد عين، وأن أتباعه قد انتهوا، وانفضت هذه السيرة بكل أحداثها، وإذا كان المؤمنون المصريون قد اختفوا إلا أن بنى إسرائيل بعد كشف أمرهم سحبت منهم جميع ميزاتهم القديمة التى كانت معهم منذ عهد يوسف، واستمر تسخير رجالهم فى أعمال البناء وصناعة الطوب واستغلال نسائهم محظيات وجوارى ومتاع فى قصور الملوك وكبار الموظفين، وكان هذا هو الوضع القائم حتى حان معد مصر معنبى الله موسى وعاد إليها قبل انتهاء عهد الفرعون رمسيس الثانى حاملاً ومعه شقيقه هارون رسالة السماء، وكان الغرور قد أوصل هذا الفرعون إلى حد تأليه ذاته، فأنكر دعوة موسى وسخر منه، لكن موسى أتى بمعجزاته فى بلاطه، ثم كان انتصار موسى على سحرة مصر فى يوم النزال السحرى الذى أعده له الفرعون فى يوم العيد، وصور القرآن الكريم ذلك المشهد العظيم لإيمان السحرة وسجودهم لرب موسى وهارون، وانتقل الخبر العظيم مدوياً فى أنحاء العاصمة، ومنه إلى مدن وقرى مصر، واهتزت من جديد قلوب المؤمنين التى توارت منذ زمن.
واستخلاصا من الراوية الدينية وتأييد الوثائق، يقسم سرايا مرحلة التعذيب، وفقا لطبيعة الانتقام، إلى فترتين: الأولى بدأت فور القضاء على حكم “آى” واعتلاء “حور محب” العرش. حيث قام الفرعون الجديد، بمعاونة الجيش، بالقبض على القادة والكهنة المؤمنين بعقيدة التوحيد وإعدامهم للقضاء على تلك الديانة التى استمرت 150 عاما، ومحوها من قلوب أتباعها. والفترة الثانية، اقتصر فيها التعذيب على تسخير بنى إسرائيل فى صناعة الطوب وأعمال البناء للملك، وقد استمرت فى عصر سيتى الأول ورمسيس الثانى.
من هو فرعون الخروج؟
يورد الكاتب، الآراء التى تجعل خروج بنى إسرائيل من مصر فى “عصر الأسرة الثامنة عشرة” أو التى تجعلها فى الأسرة التاسعة عشر. ثم يتساءل ما إذا كانت حياة موسى عليه السلام، من ميلاده حتى خروجه مع قومه، قد عاصرت فرعونًا واحدًا أم أكثر من فرعون. ولمعرفة الإجابة يعود كعادته إلى القرآن والتوراة: فالتوراة تفرق بين فرعون الميلاد وفرعون الخروج، بينما يتحدث القرآن عن فرعون دون تحديد شخص بعينه، لكن سرايا يستخرج من القرآن أدلة تسوق فى اتجاه التطابق بين التوراة والقرآن فى هذا الشأن ومنها:
أولاً– هامان، يذكر المؤلف أن تلك الشخصية وردت فى القرآن نحو ست مرات، ذكر المؤلف تلك الآيات مبينًا ما ذكر فيها هامان قبل ميلاد موسى وتلك التى نزلت بعد ميلاده عليه السلام، وتؤدى تلك الآيات مجتمعه معنى واحدًا وهو أنه كان واحدًا من المقربين من الفرعون والذين يثق فيهم ويعتمد عليهم، ثم يورد المعنى المقصود من الكلمة فى حد ذاتها ويذكر أن هذا اللقب بدأ فى التداول فى عصر الدولة الحديثة من عهد الأسرات.
ثانيا- إمرأة فرعون، هى السيدة (موت نجمت)، وهى زوجة ذلك الفرعون الذى حكم مصر وقت ميلاد موسى، وهو الفرعون (حور محب)، وكما يذكر المؤلف أنها بنت الملك (آى) وأخت نفرتيتى زوجة زعيم الموحدين الملك إخناتون. وأن هناك ثلاث سيدات زوجات لفراعين حكموا مصر فى الفترة التاريخية محل البحث، ويبدأ فى ذكر الظروف المحيطة بكل واحدة منهن حتى يصل إلى اعتقاد جازم بأن ملكة فرعون الميلاد هى تلك الملكة (موت نجمت)، وأن الأخرى زوجة فرعون الخروج (رمسيس الثانى) هى السيدة (إيزيس نفرت).
ثالثا– مؤمن آل فرعون، وهو ذلك الرجل الذى وقف أمام فرعون مدافعًا عن موسى عندما دعا فرعون إلى عبادة الله. ومن خلال عرض الآيات الصفات الواردة فى حق ذلك الرجل إلى أنه الأمير (خعمواس)، وأنه بمطابقة تلك الصفات على المعاصرين لفرعون الخروج وجد أنها لا تنطبق إلى على ذلك الشخص المشار إليه. ثم يتعقب الكاتب موسى قبل خروجه إلى مدين وأثناء إقامته فيها والعودة منها نبيًا، وهذه المراحل التى اجتازتها حياة موسى، كما فصلها القرآن، تجعل الكاتب يتفق مع راوية التوراة بشأن تجاوز موسى الثمانين عاما عند الخروج، وإن لم يتفق مع التوراة فى أن موسى عاد من مدين وخرج ببنى إسرائيل فى ذات العام وذات العمر.
وكما شهد القرآن الكريم بإيمان أصحاب إخناتون الذين كان يعذبهم حور محب، فقد قدم الله تعالى لنا أيضاً فى سورة الكهف عدداً من النماذج الصالحة، الأمر الذى يشهد أنه كان فى مصر جماعات من المؤمنين قبل أن يأتى إليها موسى:
-فذلك العبد المؤمن الذى قابله موسى عند مجمع البحرين.
-وهؤلاء المساكين الذين يعملون فى البحر وأراد الله تعالى أن يشملهم برحمته ورعايته.
-والغلام الذى كان أبواه مؤمنين.
-والغلامان اليتيمان اللذان أحبهما الله وحفظ كنزهما لأن أباهما كان صالحاً.
وبعد عودة موسى ودعوته دخل الإيمان إلى قلب عدد آخر من المصريين كان السحرة أولهم، وذلك المؤمن من آل فرعون الذى تحدث عنه القرآن الكريم فى سورة غافر. ومع استمرار سنوات موسى فى مصر، وتوالى معجزاته دخل الإيمان فى قلوب الناس، لكن الكثير منهم كتموا إيمانهم بسبب الخوف من فرعون وجنوده، ووحد الإيمان بين المصريين المؤمنين وبين آل إسرائيل المؤمنين فانصهروا وجدانياً، وجمعتهم العقيدة والمناسك وشاركوهم قضيتهم ومحنتهم التى كانت تشكل الجزء الثانى من رسالة موسى، وهى إنقاذ شعب إسرائيل من الاستعباد والسخرة والهجرة بهم إلى الأرض التى وعدهم الله (فلسطين). ونجد التوراة رغم عنصريتها فى قضية الدين فإنها لا تنكر حب المصريين لشعب إسرائيل ولموسى نبى الله “وأعطى الرب نعمة للشعب فى عيون المصريين، وأيضاً الرجل موسى كان عظيماً جداً فى أرض مصر فى عيون عبيد فرعون وعيون الشعب” (سفر الخروج-الإصحاح الحادى عشر-3).
فى التوراة
بعد انقضاء سنوات التيه وعبور شعب إسرائيل نهر الأردن مع يشوع بن نون إلى فلسطين سجلت التوراة وجود الفلسطينيين هناك يعيشون على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبعد دخول فلسطين تحكى التوراة عن الممالك والشعوب التى حاربوها، وبداية الحروب والصراع ضد الفلسطينيين خلال عصر القضاة ثم الحرب الفلسطينية-الإسرائيلية فى عصر صموئيل الأول طبقاً للتفصيلات الواردة فى سفر صموئيل الأول، ثم حرب داود ضد فلسطين فى سفر صموئيل الثانى. ومن عرض معلومات المصادر التاريخية والدينية (التوراة) لظهور الفلسطينيين على مسرح التاريخ واستقرارهم فى فلسطين يتضح الآتى:
1-كان أول ظهور للفلسطينيين فى الشرق فى العام (1178 ق.م) ضمن تحالف شعوب البحر الذين هاجموا مصر فى العام الثامن من حكم رمسيس الثالث، وفى هذا التاريخ كان قد مر 35 سنة على وفاة رمسيس الثانى، وقد انتهت هذه الحرب بهزيمتهم، وبدأ بعد ذلك استقرارهم سلمياً على الساحل الفلسطينى، وكان هذا أيضاً آخر عهد لمصر بمستعمراتها، وانتهى نفوذها فى آسيا.
2-بعد انتهاء سنوات التيه (40 سنة)، وعبور بنى إسرائيل إلى كنعان (فلسطين)، كان الفلسطينيون هناك، وذكرت التوراة أنهم كانوا يعيشون فى المنطقة الساحلية، وتجنبوا مواجهتهم فى عهد يشوع بن نون، ولم يبدأ الصراع ضدهم إلا فى مرحلة متأخرة فى عصر القضاة، واستمر حتى عهد داود، لأنهم كانوا ذوى بأس شديد.
وخلص المؤلف إلى أن الفلسطينيين لم يكن لهم وجود داخل فلسطين إلا بعد مرور 35 سنة على وفاة رمسيس الثانى، وقد رصدت التوراة وجودهم هناك بعد 40 سنة من خروجهم من مصر، الأمر الذى ترتب معه الأحداث تاريخيا. وطبقا لثوابت البحث يكون خروج بنى إسرائيل من مصر فى العام الأخير من حكم رمسيس الثانى عام (1213 ق.م)، ثم جاء استقرار الفلسطينيين على الساحل، فى الأرض التى أخذت اسمهم، فى الفترة الأخيرة من سنوات التيه الإسرائيلى سابقين دخولهم بسنوات قليلة بعد حروب رمسيس الثالث أو خلال الفترة المواكبة لها. وهذا يتفق مع الثابت من لوحة مرنبتاح ووثائق عصره أنهم خرجوا من مصر قبل أن يحكم لإمكان أن يتحقق لقاؤهم مع الفلسطينيين فى فلسطين.
ففى هذه الفترة تحديداً كانت الظروف فى فلسطين قد أصبحت مهيأة لدخول بنى إسرائيل، فكان آخر عهد للوجود المصرى فى هذا العام الذى وافق حملة العام الثامن لرمسيس الثالث، وأيضاً كانت دولة الحيثيين حليفة مصر قد سقطت على يد الغزاة من شعوب البحر، وكانت الظروف فى فلسطين عبارة عن دويلات أو ممالك صغيرة ممزقة ضعيفة غير متحالفة يسهل على أى هجوم مسلح دخولها وهزيمتها.
قضية الميراث وأرض الميعاد
وفى الخاتمة يذكر المؤلف بأننا يجب أن نُبعد عن عقيدتنا تماماً جميع صور العنصرية الإسرائيلية التى فُرضت علينا، وحصرتنا فيها قروناً طويلة رواية التوراة التى بدأ الكهنة إعادة جمعها وكتابتها فى بابل بعد سقوط مملكة يهوذا، تلك العنصرية المستندة إلى القومية الطائفية المتميزة لبنى إسرائيل واعتبارهم شعب الله المختار، التى أجهد كهنة يهوذا أنفسهم لوضع أساسها وتأصيلها ونسبتها زوراً إلى موسى والآباء الأوائل، وجعلت وعد الله بميراث الأرض ومنحهم أرض الميعاد، تنصرف إلى بنى إسرائيل وحدهم، وهى مستحقة لهم فقط باعتبارات هذا التميز الذى يستمد سنده من الانتماء إلى يعقوب عليه السلام، ونعلم أنه قد ارتبطت بهذا القصر والتحديد الطائفى أشكال عنصرية أخرى، وبهذا أصبحت التوراة بقولهم وليس قول الله تحوى –زيفاً وبهتاناً- عدة أشكال من العنصرية الطائفية لبنى إسرائيل.
-فالرب هو إله إسرائيل دون غيرهم “أسرلة الرب”.
-ودين الرب وتعاليم السماء التى يحملها أنبياء إسرائيل تقتصر على شعبهم ولا يشاركهم فيها غيرهم “أسرلة الدين”.
-والأرض الموعودة ميراث لبنى إسرائيل وهى لهم بهذه الصفة، لا يشاركهم فيها أى من شعوب الأرض، سواء التى استقرت قبلهم أو تأتى بعدهم بكل ما يترتب على ذلك من آثار أو أفعال تؤدى إلى تحقيق هذا الهدف “أسرلة الأرض”.
وقد كان القصد من فرض هذه العنصرية الإسرائيلية – التى جاءت بعد موسى بنحو من ستة إلى سبعة قرون – الحفاظ على قوميتهم من الشتات الذى كان قد بدأ فعلاً بعد سقوط دولة إسرائيل على يد الأشوريين سنة (722 ق.م)، وقيامهم بإجلاء سكانها عن مدنهم وتسكينهم فى الشمال الأقصى لبلاد النهرين، وإحلال عاصمتها السامرة بمواطنين جدد من بلدان أخرى، ودخل من بقى من سكان إسرائيل تحت طاعة ملوك يهوذا، إلى أن سقطت مملكة يهوذا هى الأخرى على يد الكلدانيين البابليين عام (587 ق.م) فى عهد نبوخذ نصر الثانى.
دولة على أرض الميعاد
يتفق القرآن الكريم مع العهد القديم فى أن الله تعالى كتب لبنى إسرائيل أن يسكنوا فى الأرض المقدسة، وهى تلك التى دخلوها بعد أربعين عاماً من الخروج من مصر، وعلى ذلك فإن أرض الميعاد فى التوراة وفى القرآن هى فلسطين. وبعد الإبراء من سنوات التيه ودخول فلسطين نعلم من آيات القرآن الكريم أنهم بعد الاستقرار بعث الله لهم طالوت ملكاً، ثم قامت مملكة داود وسليمان.
يقول الله تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)(21) (المائدة)
وقد أوضح القرآن الكريم شروط الله تعالى لاستحقاق الأرض التى يمنحها لعباده ميراثاً، وهى الصلاح فى الأرض وعدم سلب حقوق السكان المستقرين المسالمين، وبغض الطرف عن انتهاك بنى إسرائيل لشروط الله منذ المرحلة الأولى لدخولهم أرض الميعاد واستمرار ذلك حتى الشتات فى الأرض، فيما عدا فترات قليلة من حياتهم كان أبرزها عصر المملكة الموحدة وسنوات من فترة حكم بعض ملوك الدولتين – حسب قولهم بأنفسهم فى توراتهم التى كتبوها – فإن أمر حق بنى إسرائيل فى أرض فلسطين باعتبارها ميراثاً من الله اعتبر منتهياً لهم بإنكارهم شريعة عيسى بن مريم – عليهما السلام – ثم محمد عليه الصلاة والسلام، أو بالأحرى فإن ميراث الله فى الأرض المقدسة انتقل لمن يتبعون شرع الله.
يقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (6) (الصف)
إذاً لم يعد هناك مجال بعد غير مجال الله وشريعته، فإذا كان الحق فى أرض الميعاد فى التوراة وفى القرآن يستند إلى وعد الله، فإنه يجب أن يستمد استمراره الزمنى من شريعة الله، إنه القانون الإلهى المُسجل فى اللوح المحفوظ، أن الأرض لعباد الله الصالحين.
لماذا خرج بنو إسرائيل من مصر
السؤال الأهم الذى يطرحه الكاتب، هو: بعد أكثر من ثلاثة قرون على إقامة بنى إسرائيل فى مصر.. لماذا تعرضوا للانتقام، وهو أمر غير معهود فى أخلاق المصريين؟. التوراة تبرر هذا الاضطهاد بأن ملك مصر الجديد كان يخشى بنى إسرائيل الذين أصبحوا شعباً كثيراً وعظيماً، ولم يعد يأمن جانبهم من أن ينضموا إلى أعداء مصر فى حالة الحرب، لكن ذلك، ينفى سرايا، ليس صحيحا، فالإسرائيليون، مقارنة بالمصريين، كانوا “شرذمة قليلة”، والحرب ضد إخناتون وأتباع عقيدة التوحيد لم تكن، فى حقيقتها، حرب كثرة ضد قلة، أو صراعاً دينياً ضد هذا المذهب بحد ذاته، بل كانت صراعاً سياسياً واقتصادياً لاستعادة نفوذ الكهنة المسلوب وممتلكات المعابد وأموالها التى صادرها إخناتون.
عصر رسالة يوسف عليه السلام والانتشار الإسلامى
بعث الله تعالى يوسف رسولاً لهداية المصريين، وكانت بعثته سابقة على دخول آل إسرائيل مصر، وبداية يجب أن ننفض عن عقولنا العنصرية وأسرلة الدين التى قيدتنا بها صياغة التوراة قروناً طويلة، فوضعت يوسف ضمن أنبياء إسرائيل وقصرته عليهم، إن يوسف عليه السلام من بنى إسرائيل، ولكنه لم يكن رسولاً مبعوثاً لهداية إخوته أو قومه من آل إسرائيل الذين كان فيهم نبى الله يعقوب وغفر لهم بدعوته، ودخلوا مصر جميعاً آمنين مؤمنين مغفوراً لهم بقوله تعالى:
(قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(92) (يوسف)
وقد ظل فيهم يعقوب ودعوته وقبل أن يسلم الروح باركهم وأوصاهم بالتمسك بميثاق الله وعاهدوه على الإسلام، تلك هى قبيلة الإيمان التى دخلت مصر، واتخذتها مستقراً وطناً إلى حين يإذن الله لها بالرحيل، عاش بينهم نبيان – يعقوب ويوسف – عليهما السلام. أما يوسف – عليه السلام – فتمكيناً له من أداء رسالته فى مصر دولة العلم والحضارة الزاهرة فى العالم القديم، فقد آتاه الله حكماً وعلماً، وكما زود الله أنبياءه بمعجزات تساعدهم على أداء رسالتهم، فإنه مكن ليوسف فى مصر، بقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(21) (يوسف)
فالله – سبحانه- حينما اصطفاه لأداء رسالته زوده بالوسائل التى تساعده عليها فآتاه مع النبوة ملكاً فى الأرض التى كانت قد عرفت نظام الدولة منذ عهد قديم، ومن ثم فقد كان هذا أمراً ضرورياً له فى ظل ظروف المجتمع المصرى ليمنحه من أسباب القوة ما يمكنه من مواجهة المعابد المصرية القديمة. فبعد أن أخرجه الله من سجنه جعله على خزائن مصر – أغنى أمم العالم آنذاك – ليكون سلطانه أقوى من نفوذ الكهنة وثراء معابدهم، ويكون متحكماً فى توزيع الثروات، باعتبار العلم والحكمة اللذين وهبهما الله له استطاع يوسف أن يتدبر ويتعقل وينفذ إلى قلوب الناس كما نفذ إلى قلب ملك مصر.
وقطعاً، فإن يوسف عليه السلام اجتهد فى أداء رسالته شأنه فى ذلك شأن أنبياء الله جميعاً، فأداها على خير وجه، ولم تذهب دعوته سدى فى ظل شعب ارتكزت عقائده فى جذورها القديمة على ذات المقومات الأساسية للرسالات السماوية، وهى الإيمان بالبعث بعد الموت، والحساب، والثواب والعقاب، والخلود، إما فى جناب النعيم أو هول الجحيم.
نستخلص مما تقدم من تتبع الأحداث فى العهد القديم أن بنى إسرائيل بعد الخروج من مصر ودخول فلسطين قد جرى عليهم ما جرى على جميع شعوب الشرق القديم، وفرضت عليهم سياسة الأمر الواقع وموازين القوى أن يعيشوا بين شعوب الأرض، وخلال مراحل حياتهم سواء قبل الشتات أم بعده. خرج من دينهم الكثير، ودخل فى دينهم الكثير أيضًا من الشعوب الأخرى، وقد جاءت محاولات تشريع عزلهم واستعلائهم على شعوب العالم بعد يعقوب بأكثر من ألف سنة، وكان الأمر فعلًا قد فات أوانه، وتفرقت الغالبية العظمى من أحفاد الأسباط بين شعوب الشرق، وكانت الأقلية الباقية من اليهود تضم بعضًا من الباقين من سبطى يهوذا وبنيامين والكهنة اللاويين وشتاتًا قليلًا من أحفاد أسباط دولة إسرائيل مع هؤلاء الذين دخلوا فى ديانة إسرائيل من الشعوب، ولم يكن مجديًا لكهنة يهوذا لطم الخدود ونتف الشعور لأجل إعادة قومية إسرائيل بعد أن أصبح من المستحيل البحث عن الأحفاد وجمع سلالة يعقوب، ولم يمكنهم أن يخفوا حقيقة حجم شتاتهم وتفرقهم فى الأرض، حتى إخوانهم المعلومين بينهم ميسورى الحال فى بابل رفضوا العودة وفضلوا تجارتهم وأعمالهم.
وقد كان الذين أُسروا لبابل قلة من قلة من بنى إسرائيل، والذين عادوا بعضًا منهم وأيضًا مختلطين منذ سنوات ما قبل الأسر أو فى سنى الأسر. ومن السذاجة أن نصدق أنهم بعد بابل استجابوا لصراخ عزرا والكهنة ورقت قلوبهم لبكائهم وتمزيق ثيابهم ونتقف شعورهم وأخرجوا من بينهم الزوجات الأجنبيات وبينهم الذين وُلدوا منهن، فذلك وهم لم يتحقق إلا فى خيال وأمانى الكهنة وهم يجمعون الكتاب المقدس من ذاكرتهم وعقولهم المقهورة والذليلة فى سنوات السبى بعد الشتات وضياع الوطن “ميراث الأجداد”، وعندما لاح فى الأفق أمل العودة واستعادة الوطن كان معظم بنى إسرائيل قد تفرقوا بين شعوب الشرق فى العراق والشام ومصر، فأجهدت الفئة القليلة التى لملمت نفسها من الشتات عقولها فى وضع ما تصورت أنه التشريعات التى تكفل حماية قوميتهم فتأسست العنصرية بكل صورها.
وفى العصر الحديث، وبعد هذه القرون الكثيرة من عمر الزمان، لم يتغير من الأمر شئ، ولا تزال سلالة الفئة القليلة المختلطة التى تلملمت من بين الفئة القليلة التى بقت فى الماضى من يهوذا وبعض من شتات إسرائيل تستند إلى العنصرية التى وضعها كهنة الماضى فى معاداة شعوب الشرق الحديث التى من المؤكد أنها تضم ضمن نسيجها الغالبية الأعظم من أحفاد أسباط إسرائيل، ليحق قول الله تعالى: (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ((104) (الإسراء)
ويستطرد الكاتب بأن الخطر الذى كان فرعون الخروج “رمسيس الثانى” يواجهه، لم يكن هو العقيدة التى يدعو لها موسى، بل الدعوة التى دأب بنو إسرائيل على ترديدها علانية وهى العودة إلى كنعان. موطن الأجداد وأرض الميعاد لإقامة دولتهم هناك. وتلك قضية جوهرية بالنسبة لمصر، لأن كنعان مصرية وهى أهم مستعمرة تحمى حدود مصر الشمالية، ولهذا رفض فرعون، وظل، لآخر وقت، مصراً على منعهم من الخروج، رغم ما أصاب مصر من نوائب كان فرعون يعتقد أن وراءها السحر الأسود الذى يأتى به موسى.
ثم يسأل سرايا، ختاماً، لماذا لم يندمج الإسرائيليون فى المجتمع المصرى، والإجابة.. لأنهم، ببساطة، لم يكونوا، لا أمس، ولا اليوم، ولا غداً، قادرين على ذلك. عنصريتهم التى جعلوا منها “توراة” تمنعهم من أن يساووا رؤوسهم ببقية خلق الله.
وهذا الكتاب، فى التحليل النهائى، مسمار جديد فى نعش “التوراة” التى ألفها الكهنة، أو فصلوها، على مقاس “شعب الله المختار”!!.