تسامحوا وتغافلوا فمن البلاء أن تنشغلوا بالخصومات والمشاحنات ).. سلامة الصدر من نعيم أهل الجنة ومن البلاء أن ينشغل العبد بالخصومات والمشاحنات، فالتسامح والتغافل وإحسان الظن وإيجاد العذر لأخيك المسلم من حسن الخلق وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وإن من أعظم نعم الله على العبد أن يرزقه قلبا حياً فيستذكر ويتنبه، ويستحضر بعض الأحوال، والمتغيرات، والتقلبات التي تمتلئ بها هذه الحياة، فالحياة كلها عبر، وكلها تحولات ومتغيرات، بعضها أعظم من بعض، وبعضها ينسي بعضا غير أن هناك حالة، أو موقفاً قلما وقف عنده الإنسان، وإن وقف عنده فإنه لا يعطيه حقه من النظر والتفكير .
وهذا الموقف يصوره الحافظ ابن الجوزي رحمه الله حين يقول: من أظرف الأشياء إفاقةُ المحُتضَر عند موته، قال رحمه الله: فإنه ينتبه انتباها لا يوصف، ويقلق قلقا لا يُحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه.
ساعة الإحتضار هي الساعة التي يكون فيها الإنسان بين الموت والحياة ، وهي ساعة إذا جاءت يعلم الإنسان يقيناً أنه سيموت، فليس في هذه الساعة كذب، وليس فيها مهرب ، فَيُرفع له من الحجب ما يعرف جزماً أن آخرته قد جاءت ، فيكشف عنه غطاء الدنيا فيرى شيئا لم يره من قبل.
الإنسان في هذه الدنيا في حال الصحة والرخاء والغفلة يكون ذا مال ، أو ذا جاه، أو ذا منصب، فهو ملء السمع والبصر، وحوله من يحيط به من حاشيته وأتباعه، يعيش آمالا، وخططا واسعة ، فإذا أدركته حالة الإحتضار، أو أصابه يأس من مرض، أو حادث مُقْعِد، ماذا يكون حاله وما هي مشاعره وما هي أمانيه وعلى ماذا يتحسر، وماذا يرجو وقد انفض من حوله الناس، وابتعد عنه أرباب المصالح والأغراض فقد وقع في حالة أدرك فيها أن الغبطة هي في القلب السليم، وصلاح العمل، وحسن العبادة، والخلق الكريم، وصفاء السريرة، وحسن السيرة، والإيثار ، ونفع الناس.
وفي حال الإحتضار يتفكر ويتأمل هل كانت الدنيا تستحق كل هذا: عداوات، وحسد ، ومنافسات، وتقديم هذا، وتأخير هذا، وإهمال هذا، وتقريب هذا، وإعراضاً عن هذا، وغفلة عن ذاك، غفلة عن حقوق الأهل والأولاد، تربية وإصلاحا، بل تقصير في حق النفس، صحة، وراحة، واستقراراً، وعبادة.
هل تدرك أيها العاجز أن الذين كانوا قبلك كانوا يحرصون كما تحرص أنت، ويسعون كما تسعى، ويعملون في الدنيا كما تعمل، ويكدون كدك، فاختطفت المنون أرواحهم ، وقطعت الآجال أيامهم، وفجعتهم في أحبابهم، جمعوا فكان جمعهم ميراثا، وبنوا فكان بناؤهم تراثا، يغفلون عن الأخرة وهي مقبلة، ويقبلون على الدنيا وهي مدبرة.
فى الاحتضار مشاهد شتى، ومواقف مختلفة يدرك فيها الإنسان أن رفع الدرجات وسلم الترقيات هي عند الله وحده وأن علو المقام هو التقرب من الله وإحسان العبودية له والإخلاص وليس في مراتب أهل الدنيا ومناصبهم وجاههم وأموالهم.
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه – فيما رواه أحمد والحاكم وابن ماجه – لما مرض خرج إليه سعد ابن أبي وقاص من الكوفة يعوده فوافقه وهو في الموت يبكي، فسلم وجلس وقال: ما يبكيك ألا تذكر صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا تذكر المشاهد الصالحة، قال: والله ما يبكيني واحد من إثنين: لا أبكي حبا في الدنيا ، ولا كراهية فى لقاء الله.
قال سعد: فما يبكيك بعد ثمانين قال: يبكيني أن خليلي عهد إلى عهدا فقال: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب ، وإنَّا قد خشينا أنَّا قد تعدينا .. هذا هو سلمان يخشى أن يكون قد تعدى، فماذا يقول من تعدى حقيقة على الأموال فنهبها، وعلى حدود الله فانتهكها، وعلى أعراض الناس ولحومهم فنهشها ، وتعدى على عقائد الناس وأخلاقهم فأفسدها، تلك هي المحاسبة.
اغتنموا الصحة والفراغ واغتنموا ما تبقى من العمر في تقوى الله ومرضاته وطاعته عز وجل ، إن من معالم العظة أن تعلموا أن الأعمال بالخواتيم، والسعيد من وعظ بغيره، وكلَّ متعة يعقبها موت، ومن معالم العظة، أن يدرك المرء أن الأيام خزائن، وما مضى لا يعود، ولا ذكرى بغير إنابة، ولا انتفاع بغير استجابة فمن كان مشغولا بالله، وذكره، ومحبته، وطاعته في حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله.
ومن كان مشغولا بغيره في حياته وصحبته فيعسر عليه اشتغاله بالله، وحضوره عند الموت، ولا يثبت إلا أهل الطاعة الصادقون الصابرون، فهم لا تزيغ قلوبهم ساعة الاحتضار، ولا تنال منهم الشياطين شيئا، حسن الظن بالله هو أعلى درجات التوكل، ولا يتوكل على الله حق التوكل إلا من أحسن الظن به.. خطبة أعجبتنى فكتبتها علنا نتعظ !!
زر الذهاب إلى الأعلى