ملفاتمميز

كتاب مهم لـ د.حسن شافعي يسلط الضوء على نظرية الدولة والحكم عند الشيخ رشيد رضا

يستعرض المؤلف حياة الشيخ الإصلاحي محمد رشيد رضا (1865 – 1935) الذي وُلد في قرية القلمون على شاطئ البحر المتوسط، وهو سليل بيت عربي ينحدر من نسل الحسين بن على بن أبي طالب، واشتُهر ببيت آل رضا لأنه تميز بالانقطاع للعبادة وتكريم العلماء والترحيب بأولى الفضل والاعتداد بالنفس، فهو ينتمي إلى مدرسة الإصلاح والتجديد، أو ما يُطلق عليها (مدرسة المنار)، التي ضمت الشيخ جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، وكان رشيد ثالثهما، مشيرًا إلى مدى تأثر رشيد رضا بالإمام محمد عبده، حتى قال عنه الأخير (صاحب المنار مترجم أفكاري).

__________________________________

قراءة وعرض: سمير محمد شحاتة

أوضح المؤلف أن نهضة المشرق الإسلامي وتحريره من قيد التخلف والتراجع الحضاري والاستعمار الأجنبي، كانت الغاية المنشودة لهذه المدرسة، حيث إن الإصلاح يتمثل في وعي هذه المدرسة بضرورة تحرير العقل وتقوية ملكاته على الإبداع وفهم صحيح الدين على غرار السلف الصالح، مضيفًا أن هذه المدرسة أنكرت التقليد وحذرت منه نتيجة إيمانهم بالعقل، لذلك فقد تبنوا منهج التأويل في التعاطي مع النص دون إخلال به، وإنما محاولة مقاربة النص الديني بالواقع، بما لا يتعارض مع المنطق والبرهان.

 

ويبدو الشيخ رشيد رضا، من وجهة نظر المؤلف، أنه من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وهو في ذلك يتفق مع شيخه الإمام محمد عبده في أهمية هذا الميدان، إلا أن إشكالية النهضة في العصر الحديث شهدت تنوعًا في التعاطي معها من زوايا مختلفة، فعلى سبيل المثال تصدر الشيخ «رفاعة الطهطاوي» للإصلاح الاجتماعي من خلال مسارين هما المرأة والتعليم، وتصدر الإمام «محمد عبده» للإصلاح الفكري والديني، وتصدر كل من الشيخ «جمال الدين الأفغاني» والشيخ محمد رشيد رضا للإصلاح السياسي.

وتناول المؤلف مفهوم الدولة الحديثة لدى الشيخ محمد رشيد رضا التي تشكلت من رؤيته الإصلاحي، حيث إن الدولة تتأسس لديه على أصول المدنية الاجتماعية، التي يرى رضا أن الإسلام قد وضع لها قواعد عامة، وفتح آفاق التجديد لصياغتها وفقًا لتغير الزمان والمكان، فهي ليست لها شكل محدد وثابت، بل إنه يرى أن من أسباب ضعف المسلمين، هو عدم التجديد السياسي الذي يناسب عصرهم، كما يرى أن سبب ضعف المسلمين يتجسد في التقيد بنظام محدد لشكل النظام السياسي، وإهمال الاجتهاد في صياغة نظام سياسي يناسب العصر. ورأى الشيخ محمد، أن النظام الديمقراطي والحكم النيابي لهما سندات فكرية في الشريعة الإسلامية، بل عَدَّ فترة الخلافة الراشدة نموذجًا للحكم الديمقراطي، ونتج هذا عن قدرة رضا على التحليل الفلسفي لمفهوم الديمقراطية، الذي يبدو نموذجًا لقيمة الحرية في الإسلام، يتجلى في الشأن السياسي.

 

واهتم المؤلف بعرض الرؤية السياسية للشيخ محمد رشيد رضا، التي تتمثل في تشابكها مع القضايا السياسية التي عاصرها والتي لا تزال مطروحة على الساحة الفكرية والسياسية في العالم العربي والإسلامي حتى الآن، ولعل أبرز سمات النظرية السياسية لديه، هو انفتاحه على الأفكار السياسية للحداثة الغربية، وتعاطيه الإيجابي معها ووعيه بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم، وأبرزها إعطاء المرأة حقوقها السياسية في المشاركة الاجتماعية.

الإصلاح السياسي عند محمد رشيد رضا

تُعد إشكالية الإصلاح السياسي من أبرز القضايا التى تناولها الشيخ محمد رشيد رضا باعتباره لا ينفك عن الإصلاح الفكري والاجتماعي، بل إن الإصلاح السياسي لدى رشيد رضا هو جزء من المشروع النهضوي العام المستند إلى فلسفته العامة في الإصلاح، لذلك يتناول المؤلف المقومات الفكرية التي استند إليها رشيد رضا للإصلاح السياسي، ورؤيته للتجديد السياسي وعلاقته بمتغيرات الواقع الاجتماعي المعاصر. كما تناول قضية الاستبداد فى سياق حديثه عن الإصلاح السياسي في العالم العربي والإسلامي، وتناول مصطلح «المستبد العادل» والذى أثار جدلاً فى الحياة الفكرية، نتيجة أن البعض نسبه إلى جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده.

والسلطة السياسية فى منظومة الفكر الإسلامي تُعد ضرورة عقلية وشرعية، من أجل الأمة، للحفاظ على ثوابتها وتجددها الحضارى، وحتى يتم التوازن بين التمسك بهذه الثوابت والاستجابة لمقتضيات الواقع بأشكاله المختلفة، الفكرية والحركية والنظامية، فهذه السلطة ضرورة عند رشيد رضا، لأنه لابد من رئيس قيم لحماية الأمة والدين لئلا تكون الأمور فوضى، وقد كان هذا الرئيس بعد قيادة النبوة خليفة، ثم صار من بعده أمير المؤمنين، ثم تتالت الألقاب، لأداء ما يفرض الإسلام من عمران الأرض وتنفيذ الشرع.

رشيد رضا بين الأفغاني ومحمد عبده

ارتبط محمد رشيد رضا فكريًا بمدرسة الإصلاح الديني التي دشنها جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، وإذا كان رشيد رضا تأثر فكريًا بجمال الدين الأفغاني حيث لم يلتق به، فإن العلاقة بينه وبين الإمام محمد عبده تجاوزت التأثير الفكري إلى التعايش والتعليم المباشر، فقد تجسدت العلاقة بينهما في علاقة تلميذ بأستاذه، وهو أمر تميز به الشيخ محمد رشيد رضا عن غيره، وانعكست بالإيجاب على مشروعه الفكري والذي تجسد في عمل من أهم أعماله وهو مجلة “المنار” التي رعاها الإمام محمد عبده في بداية نشأتها. ويرى محمد رشيد أن من أعظم مسلمي عصره أثرًا في الإسلام هم: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والسيد السنوسي، لذلك تعلق بأخبارهم والتأسي بجهودهم.

وقد شكلت قضية الإصلاح الفكري إحدى أهم التحديات الحضارية التي عنى بها محمد رشيد رضا، فقد ساءه ما كان يراه هو وأبناء عصره من خلال ما أصاب الأمة من التخلف الفكري، والتراجع الحضاري، ومفاسد، ومنكرات اجتماعية، وسوء أخلاق، وضعف سياسي أدى إلى استعمار القوى الأجنبية للبلدان العربية والإسلامية، وهو ما دعاه إلى محاولة الإصلاح لتخلص الأمة من هذا الوضع المتردي، فكانت البداية في الشام عن طريق الخُطب والمواعظ، إلا أن اطلاعه على أعداد من مجلة «العروة الوثقى» نمى اهتمامه بقضية الإصلاح العام ومحاولة الكشف عن الأسباب الكامنة وراء هذا الوضع السيئ للأمة.

رشيد رضا وجهوده في إصلاح التعليم

سعى الشيخ رشيد رضا إلى استكمال ما بدأه أستاذه الإمام محمد عبده في إصلاح منظومة التعليم الأزهري. فقد أدرك كل من الإمام محمد عبده ورشيد رضا أهمية الدور الذي يقوم به الأزهر في نشر التعليم الديني في العالم الإسلامي، والحفاظ على هوية الأمة، وهو ما دفعهما إلى القيام بمحاولات إصلاحية عديدة كان من أهم ما نتج عنها:

1-إنشاء مجلس إدارة الأزهر تحت رئاسة شيخ الأزهر وعضوية ثلاثة من كبار الأساتذة فيه واثنين معينين من الحكومة.

2-تنظيم المراحل الدراسية لسنوات الدراسة فيه، إذ قُسمت إلى ثلاث مراحل (ابتدائي وثانوي وعال) ومدة كل مرحلة أربع سنوات.

3-تنظيم المناهج الدراسية وإدخال بعض العلوم الحديثة كالحساب والجبر والهندسة، وبعض العلوم الأخرى كعلم الأخلاق وتاريخ الإسلام وعلوم اللغة العربية وآدابها، كالعروض والقافية والإملاء والخط وعلم الحديث وأدب البحث.

ويرى الشيخ رشيد رضا أن إصلاح الأمم عن طريق التربية والتعليم لا يأتي إلا بالتدريج، وهو إنما يكون أولاً بنبوغ بعض الرجال فيها، ثم لا يزال يزيد النابغون حتى تكون بهم الأمة من الأمم الحية العزيزة القوية، فيكون مثلهم فيها كمثل الشجرة المثمرة، فنادى بإصلاح الأزهر، سيرًا على درب أستاذه الإمام محمد عبده، وقد زادت مسئوليته في ذلك بعد استقالة ووفاة أستاذه.

  كما دعا إلى التحرر من التقليد، وعقد محاورات بين المُصلح والمُقلد، ناصحًا الأزهر أن يأخذ طريقه للإصلاح، ولا يكون عقبة في مساره، وقد كان أبرز ما دعا إليه رشيد رضا في دعوته لإصلاح الأزهر وللعالم الإسلامى كافة هو محاولة تغيير طرق تدريس الفقه.

الأنشطة الثقافية والعلمية

حاول رشيد رضا أن يترجم دعوته لإصلاح التعليم إلى واقع فعلي، فشرع في إنشاء معهد لإعداد الدعاة والمرشدين، وكان ذلك إبان عودته من الشام بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1326هـ. وكان له عدد من الأنشطة العلمية في جمعيات دينية وثقافية، فكان عضوًا في المجمع اللغوي الذي تأسس عام 1922م.

 كما شارك فى الجمعية الخيرية في دمشق التي أُنشأت عام 1878 بالاشتراك مع شكيب أرسلان وجمال القاسمي، كما كان من مؤسسي الرابطة الشرقية عام 1922م، ومؤسس جمعية السلم العام في بلاد الحجاز سنة 1924م، والتي كان لها أثرها فى نشر الفنون والعلوم.

 

وتتعلق قضية الإصلاح الحقيقي عند محمد رشيد رضا بالوعي السليم بحاجات الأمة ومراعاة استعدادها، فالمتتبع لكتاباته يجدها تناقش موضوعات معاصرة، ولعل أبرز مثال على ذلك هو كتاب “الخلافة” الذي تناول فيه إشكالية سقوط الخلافة الإسلامية، والبحث عن سبل لمعالجة شكل النظام السياسي للدولة العربية والإسلامية، هذا بجانب فتاوي الشيخ رشيد في مجلة “المنار” التي ارتبطت بأمور مستجدة لأحوال وحاجات الأمة الإسلامية لم يرد فيها نص قطعي.

وعلى الرغم من أن هذه المشروعات لم تدم طويلاً، إلا أنها تدلل على جهوده في الإصلاح الفكري والاجتماعي، ويمكن القول إن سعي محمد رشيد رضا للعمل الاجتماعي المؤسسي يتم عن قناعته بأن الإصلاح على المستوى النظري المتمثل في الكتابة ومخاطبة الناس لا يكفي، بل يحتاج إلى مؤسسة تحتضنه وتراعيه حتى يرى المجتمع أثر هذا الفكر في حياتهم العملية.

عاصر الشيخ محمد رشيد رضا حقبة زمنية تميزت عما سبقوه بأنها شهدت سقوطًا للخلافة العثمانية، وهو الحدث الأبرز سياسيًا في العالم العربي والإسلامي في ذلك الوقت، لما تحمله الخلافة من رمزية سياسية في التاريخ الإسلامي استمرت لعدة قرون.

لذلك لم تكن جهود الشيخ محمد رشيد للإصلاح الفكري والحضاري بمنأى عن الإصلاح السياسي، ولعل هذا ما دفعه إلى التفاعل الفكري مع القضايا السياسية المعاصرة والتشابك مع الوقائع السياسية التي عاصرها. ولعل أبرز سمات النظرية السياسية لديه هو انفتاحه على الأفكار السياسية للحداثة الغربية، وتعاطفه الإيجابي معها، ووعيه بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم.

إسهامات رشيد رضا في الحياة السياسية والمجتمع المدني

مثلت مسألة الإصلاح الدستوري أبرز الإشكاليات السياسية التي حظيت باهتمام الشيخ رشيد رضا في رؤيته للإصلاح السياسي في العالم العربي والإسلامي والتي أعربت عن رؤيته الإيجابية لمقولات الحداثة الغربية السياسية، التي كان منها الأمة مصدر السلطات، والنظام النيابي وتقييده للسلطة الحاكمة.

 وأسهم بشكل عملي  في وضع الدستور وفي الحياة الحزبية، باعتبار أن أهم ما يميز الدولة الحديثة هو وجود دستور ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ويحدد وظائف السلطات داخل الدولة، وينظم العلاقة بينهما، ويضمن الحقوق والحريات العامة، كما أن وجود حياة حزبية تسمح للتوجهات المختلفة كافة في المشاركة السياسية يمثل مظهرًا من مظاهر الديمقراطية.

 هذا إلى جانب اعتنائه بالعمل الأهلى أو ما يُطلق عليه حديثًا منظمات المجتمع المدني، فثمة علاقة طردية بين الديمقراطية والمجتمع المدني باعتبار أن الأخير هو مصدر داعم وضامن للنظام الديمقراطي. فالمجمع المدني هو بمثابة حاضنة اجتماعية لأفراد المجتمع للممارسة الديمقراطية بداخله، بجانب أن منظمات المجتمع المدني تحد من توغل السلطة السياسية، فهي بمثابة سلطة موازية لها.

 

ومن هذا المنطلق تناول الشيخ محمد رشيد رضا تقييم عمل المنظمات الأهلية داخل المجتمعات العربية والإسلامية، ومدى فاعلية هذه المنظمات في الارتقاء الحضاري للأمة على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية كافة، والإشكاليات التي تواجهها ومدى تأثرها بحالة الاستبداد السياسي.

إشكالية الخلافة بين السُنة والشيعة

عنى محمد رشيد رضا بقضية إشكالية العلاقة بين السُنة والشيعة، باعتبارها إشكالية تاريخية لها مظاهر فقهية واجتماعية وسياسية، نتج عنها انقسامات وصراعات داخل المجتمع الإسلامي منذ بداية ظهور التشيع.

هذا بجانب أن اعتناءه بقضية الخلافة في العصر الحديث جعله يتناول قضية الخلافة أو الإمامة لدى الشيعة باعتبارها القضية الأبرز التي نتج عنها الخلاف بين السُنة والشيعة، وخلاف انتقل من المجال السياسي إلى دائرة العقيدة على يد الشيعة، لذلك فقد انتقد رشيد رضا نظرية الإمامة لدى الشيعة انطلاقًا من الرأى المستقر لدى أهل السُنة والجماعة في مسألة الخلافة.

 

وفى هذا الشأن يقارن محمد رشيد رضا بين تصول كل من أهل السُنة والشيعة في قضية الخلافة، فيقول: “إن المسلمين من الشيعة يرون أن الخلافة أصل من أصول الدين كالنبوة، وأن نصب الخليفة واجب على الله عقلاً من باب اللطف كوجوب إرسال الرسول، ويرون أن الخليفة لابد أن يكون أكمل أهل زمانه في جميع فنون الفضل كالنبي، وإن امتاز النبي (ﷺ) عن الخليفة عندهم بأمور كثيرة. ويرون أن الخليفة بعد رسول الله (ﷺ) هو علي أمير المؤمنين عليه السلام، فهو أفضل زمانه”.

وفى المقابل يرصد رشيد رضا رأي أهل السُنة فى الخلافة فيقول: «إن المسلمين من السُنة لا يرون الخلافة بهذه العظمة، فهي عندهم فرع من فروع الدين، فيجب على المسلمين أن يختاروا من بينهم خليفة ولا يشترط امتيازه عن غيره في الفضل والصلاح، ولعل أكثرهم لا يشترط فيه الصلاح والعدالة».

  وهذا الرأى هو محل اتفاق بين التيارات الإسلامية باستثناء الشيعة، فالإمامة عند الشيعة وحدهم هي من أصول الدين وأركانه، بيد أن الأشعرية والماتردية والظاهرية وأصحاب الحديث، ومن قبلهم من المعتزلة والخوارج يقولون إن أركان الإسلام خمسة، ويرون حديث الرسول (ﷺ) «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا».

وهذا بخلاف الشيعة فإنهم يؤمنون بما نسبوه إلى أبي جعفر بن علي زين العابدين من قوله “بني الإسلام على سبع دعائم: الولاية، أي «الإمامة، وهي عندهم أفضل الدعائم” – الطهار، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد.. فالشيعة وحدهم هم الذين يجعلون الإمامة والسياسة ونظام الحكم من أصول الدين».

 إلا أن الخلاف بين السُنة والشيعة لم يمنع محمد رشيد رضا من السعي إلى طريق التقريب بينهما، والذي سعى إليه من قبله جمال الدين الأفغاني، فيقول: «كان من قواعد الإصلاح التي وضعها حكيم الإسلام وموقظ الشرق، جمال الدين الأفغاني» في هذا العصر – رحمة الله عليه – وجوب السعي لجمع كلمة المسلمين، والتأليف بين فرقهم التي يجمعها الإيمان بالقرآن المجيد المعصوم، ورسالة خاتم النبيين محمد (ﷺ)، والاستعانة على ذلك بالسياسة التي كانت السبب الأول لهذا التفرق الذي ألبس لباس الدين، ولكن كما يلبس الفرد مقلوبًا، فكانت النتيجة سبب ضعف جميع الفرق، ومن أهم أسباب ضعفهم وسلب الأجانب لملكهم».

 

فقد حاول التقريب بين المنصفين من الشيعة إلى الاتفاق مع أهل السُنة والجماعة ومعالجة الاختلافات بالحكمة والروية، وذلك بناء على القاعدتين اللتين رفع بنيانهم فى «المنار»، الأولى هي (نتعاون فيما نتفق فيه ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه)، والثانية وهي خاصة «من اقترف سيئة من التفرق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين بقول أو كتاب، فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته».

  رؤية رشيد رضا للمجتمع المدني

ثمة علاقة قوية بين الإصلاح السياسى وترسيخ قيم الديمقراطية، والمجتمع المدنى الذى يُعد من أبرز مقومات الدولة الحديثة. فالمجتمع المدنى يضم المؤسسات الموازية لمؤسسات السلطة الرسمية، وبقدر فعالية وتأثير مؤسسات المجتمع المدني تنحصر هيمنة ونفوذ مؤسسات السلطة داخل المجتمع، وتحول دون استبداد السلطة، ومن ثم تتحقق ذوات الأفراد المستقلة عن الدولة من خلال مشاركتهم فى مؤسسات المجتمع المدني، التى يرسخ قيم التعايش الآمن وقبول الآخر. ذلك أن المجتمع المدني يفهم بأنه عبارة عن مجموعة من التدابير التعاقدية المصطنعة، يسعى من خلالها الأفراد المستقلون للتغلب على حالتهم الفوضوية ذات المنافسة المتبادلة والمدمرة.

 

لذلك أدرك الشيخ محمد رشيد رضا قيمة المجتمع المدنى فى الإصلاح السياسى باعتباره من أهم مقومات الدولة الحديثة الغربية، وركيزة أساسية للثقافة الديمقراطية، لذلك يقول: «وأعلم أن الجمعيات والشركات هي المعيار الذى يعرف به تقدم الأمم وتأخرها وحياتها وموتها، فلا يغرنك القيل والقال، ولا نبوغ بعض الأفراد فى بعض العلوم أو الأعمال، فإن هؤلاء النابغين إذا لم يجدوا فى أمتهم جمعيات تعرف قيمتهم، وتساعدهم على إبراز ثمرات نبوغهم، يذهب استعدادهم سدى».

 

وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسى ألكسيس دو توكفيل (1805-1859)، والذى يعتبر المجتمع المدني الحجة الأشهر فى كتابه: “الديمقراطية فى أمريكا” للحفاظ على أخلاقيات الديمقراطية، فالتكتلات الحرة – المؤسسات والجمعيات – هى التى تشيع الحياة فى الديمقراطية وتحافظ عليها، وهو ما اعتبره من مميزات المجتمع الأمريكى، فيقول: «الأمريكيون من كل الأعمار، وكل الدرجات والرتب، ومن كل الاتجاهات الروحية ينضمون باستمرار لجمعية ما في كل مكان».

 

والآن صار الشرق يتعلم من الغرب كيفية تأليف الجمعيات والشركات، وقد نجحت من أهل الشرق اليابان ورشدوا فى ذلك، ولكن لا يزال العثمانيون والمصريون فى سن الطفولة من هذه الحياة الاشتراكية الاجتماعية التى لا وسيلة لبلوغ هذا النوع إلى الرشد بدونها.

  رؤية رشيد رضا للديمقراطية والاستبداد

على الرغم من أن رشيد رضا يرى أن الحكم النيابى والفكر الديمقراطى له أسانيد فكرية فى منظومة الفكر الإسلامى، إلا أنه يرى أن الفضل يعود إلى الحضارة الغربية الحديثة فى إنتاج نظام الحكم النيابى بصورته الحديثة، باعتبار أنه سبب ارتقاء وسعادة الأمم. لذلك فيقول رشيد رضا: «يقول المشتغلون بالسياسة إن سبب ارتقاء أوروبا وعزتها هو انتظام حكومتها وتقيدها بالشورى التى هى ناموس العدل وينبوع السعادة، فكل أمة تحب الارتقاء يجب أن توجه عنايتها قبل كل شئ إلى إصلاح حال حكومتها بجعلها مقيدة بالشورى والقوانين العادلة».

 

وثمة علاقة طردية بين النظام الديمقراطى والسلم الاجتماعى، لأن الأفراد داخل المجتمعات الديمقراطية يتمتعون بمزيد من الحرية التى تكفل لهم الفرصة في التنمية مقارنة بالأفراد الذين يعيشون فى مجتمعات غير ديمقراطية، هذا بجانب أن الديمقراطية تقلل من فرص العنف والحرمان والهيمنة.

 

  ويمكن القول إن اعتبار الشيخ محمد رشيد رضا النظام الديمقراطى الحكم النيابى لهما سندات فكرية فى الشريعة الإسلامية، بل اعتباره لفترة الخلافة الراشدة تمثل نموذجًا للحكم الديمقراطى نتج عن قدرته على التحليل الفلسفى لمفهوم الديمقراطية، الذى يبدو نموذجًا لقيمة الحرية في الإسلام يتجلى فى الشأن السياسى.

هذا بجانب رؤيته بأن النظام السياسي في الفكر الإسلامى ليس له شكل محدد، بل إنه نظام يعبر عن قيم العدل والحرية التى دعا إليها الإسلام، ويتجدد وفقًا لمقتضيات الواقع. لذلك أيد الشيخ محمد رشيد رضا نظم الحكم النيابية، ودعى إلى تبنى قيم الديمقراطية والحكم المدني في المجتمعات العربية والإسلامية.

  على الرغم من أن الشيخ محمد رشيد رضا كان أبرز تلاميذ الإمام محمد عبده، إلا أن المسار الفكري له تمايز عن المسار الفكرى للإمام محمد عبده. ولعل أبرز أوجه هذا التمايز هو اعتناء الشيخ رشيد بالشأن السياسي على مستوى التنظير الفكرى للقضايا السياسية المطروحة آن ذاك، والممارسة السياسية العملية الأمر الذى أعطى للنظرية السياسية لديه تمايزًا عن رواد مدرسة الإصلاح والتجديد نتيجة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية التي عاصرها. فقد شهد حراكًا سياسيًا فى العالم العربي لم يعهد من قبل، وقد تمثل في ظهور دعوات لدولة قومية عربية وأفكار سياسية جديدة.

عاصر الشيخ محمد رشيد الحياة شبه الليبرالية في المجتمع المصري، التى بزغت مع بدايات القرن العشرين، بجانب ظهور الدولة القومية فى سوريا، والتى أسهم في تأسيسها ووضع دستورها، لذلك يمكن القول إنه ثمة مقاربة فكرية بين المنهج الإصلاحي للشيخ رشيد ومدرسة الإصلاح والتجديد المنتمى إليها، والتى ارتكزت على تجديد الخطاب الديني، والدعوة إلى العقلانية المنهجية، بجانب الاعتناء بالتربية وإصلاح التعليم، وثمة اختلافًا في مسار الإصلاح السياسي.

__________________________

الكتاب: نظرية الدولة والحكم عند محمد رشيد رضا

المؤلف: د. حسن محمد شافعي

الناشر: المكتبة الأزهرية للتراث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى