لم ينعم اليهود بأحضان دافئة ومخلصة، وصافية، على امتداد التاريخ الإنساني سوى أحضان الشعوب الإسلامية، التي قبلتهم بكل ألوان الرحمة والتسامح والحرية، من منطلقات القيم الإسلامية السماوية العليا، ولم يواجهوا بعنت، وازدراء، إلا من شعوب الغرب وحكامها على مر التاريخ.
وإن كان هناك موقف مساندلهم من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، الآن فهو موقف ليس خالصا من المبدأ النفعي المادي على وجه الإطلاق؛ إذ تستخدمهم أوروبا لتحقيق مصالح مادية تامة، ولولا ذلك للاقوا إبادة من الغرب ومحارق كفعلة النازية الألمانية بهم- ولكن هي المصلحة ولا غير.
ولا ننسى أن اليهود قد طُردوا من أسبانيا مثلما طرد المسلمون، ولم يجدوا لأنفسهم ملاذا وملجأ وحمى آمنا إلا بالهجرة إلي العالم الإسلامي حيث مصر والعراق والشام وغيرذلك من الأقطار الإسلامية، وغير خاف معاملة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لهم وما نصت عليه وثيقة (المدينة المنورة) فقد ورد فيها (إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف امة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم).
وقد أولاهم النبي صلي الله عليه وسلم عناية كبيرة وقرر حمايتهم وتأمينهم بصورة شاملة باعتبارهم ذميين أي لهم عهد أمان من المسلمين وقال صلى الله عليه وسلم (احفظوني في ذمتي) فجعل حفظ وحماية وتأمين اليهود بمثابة حفظ عهد المسلمين بالإيمان بالنبي وكتابه الذي أنزل عليه.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل من اعتدى على ذمي من المسلمين خصما له يوم القيامة، وماانفك خلفاء المسلمين بعد نبيهم الكريم يبرمون عهود الأمان والرعاية لكل ذمي يعيش تحت سماء الحضارة الإسلامية- رغم انحرافات بعضهم ونقضهم للعهود مع المسلمين.
ومع قيام الدولة الفاطمية شكل اهل الذمة من يهود ونصارى غالبية في العمل بدواوين الخلافة مثل اليهودي (عسلوج بن الحسن) و(منشا)، وفي خلافة المستنصر 1094م استخدم أهل الذمة في الوظائف العليا وسيطروا تبعا لذلك على دواوين الدولة سواء أكانوا نصارى أو يهودا وفي (الأندلس) (إسبانيا حاليا) تولي الوزارة أثناء حكم (بني زيري) لمنطقة غرناطة، رجل يهودي هو (الرابي إسماعيل بن نغرالة).
وتلك كانت مجرد أمثلة فقط لما وصل إليه اليهود من مكانة لدى الحكام المسلمين.. أما في سائر الولايات الإسلامية فنتخذ (مصر) على سبيل التمثيل؛ إذ تؤكد مصادر التاريخ ان علاقة اليهود بمصر تعود إلى عام1650 ق م – حينما هاجر يعقوب وبنوه إلى مصر، ثم استقر بعضهم في منطقة (الفيوم) بعد خروج النبي موسى من مصر.. ولكن أهم جماعة يهودية وفدت إلى مصر واستقرت بالإسكندرية بعد دخول الإسكندر الأكبر فلسطين في 322 ق م.
ووفقا للإحصاء الرسمي للسكان في مصر عام 1947 م فإن عدد اليهود في مصر قد بلغ قرابة 64 الفاو484 نسمة وكان من بين هذا العدد (5000) يهودي يحمل الجنسية المصرية.
وتراوح الوجود اليهودي في مصر بين ثلاث طبقات هي الطبقة العليا وتضم الغالبية العظمى من اليهود الوافدين وهي طبقة أرستقراطية يتثقف ذووها بالثقافة الأوربية وتتخاطب فيما بينها باللغة الفرنسية وهم من كبار أثرياء اليهود والطبقة الثانية وهي في معظمها من اليهود الوافدين إلى مصر من أقطار غير عربية وتقل درجة ثرائها عن الطبقة الأولى وقد عمل أبناء هذه الطبقة في الصناعة والتجارة والزراعة والمال.
أما الطبقة الثالثة فهي التي ضمت اليهود المصريين من حيث المولد والنشأة والجنسية وهي طبقة فقيرة عملت كسائر فقراء مصر كحرفيين وباعة جائلين وتجار صغار في الحوانيت.
ولقد عاشت كل الطبقات اليهودية ( بغض النظر عن ثرائهم أو فقرهم) في مصر في ظل رعاية المسلمين في أمن وامان وسلام ولاسيما بعد تدفقهم إلى مصر في الستينيات من القرن التاسع عشر قادمين من تركيا وسوريا بعد الانهيار الاقتصادي الذي حل بهما وكذلك تدفقهم من أوروبا الشرقية هربا ونجاة من المذابح التي ارتكبت في حقهم خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها.
كل هؤلاء احتضنتهم مصر المسلمة وعاشوا فيها مثلما عاش كل مصري ونعموا بكل الحريات الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، فقد تجلى ذلك للعيان في عناوين الشركات اليهودية والمصارف المالية ودور العبادة وتكوين الجمعيات وإصدار الصحف الخاصة بهم ولمعت أسماء يهودية في مجالات الفن والثقافة والأدب وكفاهم ان يُعَيَّن من بينهم عضوا في (مجمع اللغة العربية) هو حاخاهم الأكبر (حاييم ناحون).
ولقد كان يهود مصر في منتصف القرن العشرين أغنى الطوائف اليهودية في الشرق الأوسط وأكثرها استقرارا في راي الباحث عرفه عبده علي ولكنهم ختموا هذا التاريخ الآمن والمتسامح معهم والحضن الدافئ في مصر، وهربوا بأموالهم إلي الكيان الصهيوني فعاشوا فيه بلا قيمة، كأنهم عبيد للسادة من يهود أوروبا وأمريكا، ألا إنهم هم الخاسرون !!