مقالات

سؤال الهوية والطريق البديلة  (بقلم: محمد ناجي المنشاوي- مصر)

في اللحظات التاريخية المأزومة، وفي عصر التحولات الكبرى، حينما تقع أمة ما بين تنازعات حادة، تعمل بدأب لتنال من المخزون التراثي لدى الأمة ومن سبل طموحها نحو الرقي والتقدم.

حينئذ ينتبه المخلصون من ابنائها إلى البحث عن طوق النجاة للوصول بها إلى الشواطئ الآمنة، ومرافئ المجد والعلو ، ومصر في قلب العالم ذات حضارة قد تكون أعرق وأعظم الحضارات التي عرفتها البشرية على وجه الإطلاق، توارث شعبها وعيا تاريخيا وحضاريا عميقا، بالعلم والثقافة والفن والدين والأخلاق، ذلك الوعي المدهش الذي رافقه منذ فجر التاريخ.

وتوالت الموجات الاستعمارية عليه بضراوة وطمع عنيد ولم تنفك هذه الموجات تترى الموجة تلو الموجة حتى موجة الاستعمار الصهيوني الراهنة، ومصر عبر الدهور تقاوم وتصد وتنتصر وتتقدم وتبني مجدها وحضارتها ، يحسدها القاصي والداني، بعد أن دفنت جيوش اعدائها الغاشمين فتحولت أرضها مقبرة تضيق بأولئك الغزاة.

إن مصر العبقرية شكلت لها هوية فريدة عبر هذه الدهور ، يحلو للبعض بوصفها بالحضارة (الأرابيسكية ) بعد أن استطاعت بوعي واقتدار استيعاب ثقافات الشعوب الغازية لها فقبلت منها ما قبلت، ورفضت منها ما رفضت، وكان ذلك بدرجات متفاوتة، لتبقى لها شخصيتها الفريدة دون أن تتماهى مع أي ثقافة من تلك الثقافات باستثناء الثقافة العربية الإسلامية التي قدمت فيها من آيات الخلق والابتكار والإبداع ما جعل للثقافة العربية الإسلامية مذاقا مختلفا ولمسات فنية لا ينكرها التاريخ ، ولا تخطئها العين.

لقد كاد العقل يظن أن الإسلام بدأ من مصر ، نظرا لحجم ما حققه العلماء المصريون من إنجازات ضخمة وواسعة في مجالات العلوم الإسلامية والعربية.

ولقد ظل المصري حتى عصرنا الراهن محتفظا بجينات أجداده المصريين القدماء، وكل ما يشذ عن هذه الجينات تظل مجرد ظواهر طارئة لها أسبابها ولكنها سرعان ما تنقشع وتزول.

إنه المصري المبدع والبناء والعالم والمتدين والمتسامح والكريم والصبور في المحن والشدائد وهو الزارع والصانع وهو المقاتل الجسور والمنتمي لوطنه بلا حدود.

لقد عاش المصريون على ضفاف النيل يزرعون الوادي ويحولون طين النيل وطميه إلى آيات من الجمال، وشيدوا من المعمار ما تعجز عنه المدنية الغربية الحديثة ولو أنفقت ما في الأرض جميعا من أموال وما اخترعته من آلات.

هؤلاء المصريون الذين شيدوا أعظم حضارة إنسانية في ظل مجتمع إنساني يقوم على التكافل والتضامن وتقدير العلم والعلماء، إنه الشعب الذي لم يسجل تاريخه أي اعتداء على غيره على طوله وامتداده ، فكان له السبق في كل الميادين: الفلسفة والأدب والمسرح والموسيقى والعلوم الطبيعية والدين.

وفتحت مصر أبوابها للحادي والبادي لينهل من علومها المختلفة، وخيرها الذي لا ينقطع معينه، ولم تنغلق مصر على نفسها إلا في حقب تاريخية محدودة لظروف استثنائية خارجة عن إرادتها.

ولكن الملحوظة الجديرة بالدرس والنظر والفحص والانتباه هي أن مصر لم تنجز أعظم إنجازاتها الحضارية إلا في تلك الحقب والعصور، التي عكفت فيها مستكفية بنفسها ومواردها الذاتية اللامحدودة تُعمِل فيها طاقاتها بلا هوادة ، دون النظر إلى ما عند غيرها من موارد إلا في أضيق الحدود.

وعلى هذا فنحن في عصرنا الراهن أشد ما نكون في حاجة إلى العودة إلى نوع من الانغلاق الإيجابي ، الذي يمكننا من التقدم الحقيقي ، والبحث عن طريق بديلة ، مبنية على أسس من القيم المصرية الأصيلة ، تلك التي يختزنها المصري في وعيه الجمعي.

وهذا يتطلب أول ما يتطلب إعادة النظر في طبيعة العلاقات المصرية ودينا ملكيتها مع الآخر مهما كان وأينما يكون ، تلك الطريق البديلة لا يمكن تحقيقها إلا بإرادة شعبية واعية، تؤمن بها قيادة وطنية ، تضع مصر ومصالحها العليا فوق كل اعتبار، وفق استراتيجية دقيقة ومرنة قادرة على التعامل في علاقتنا بالآخر وفق موارد مصر الحقيقية دون ضرر أو ضرار وإن هذه الطريق البديلة تحتاج إلى تهيئة المناخ العام في في التعليم والثقافة والإعلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى