قام الدكتور حاتم الجوهري في دراسته الجديدة: (فرنسا والإسلام.. أزمة المركزية وأثر المسألة الأوربية)، التي نشرت في عدد مجلة ميريت الأول في العام الجديد 2021، بالكشف عن التاريخ الثقافي لأزمة فرنسا والإسلام.
وسلط الجوهري الضوء على علاقة ذلك بـ(المسألة اليهودية) وكتاب سارتر الشهير بعنوان: تأملات في المسألة اليهودية، والذي حمل دعما فلسفيا وجوديا لمشروع احتلال يهود أوربا لفلسطين، بوصفه تحررا جماعيا للذات اليهودية، والجذر الذي وضعه سارتر للربط بين معاداة السامية أوربية النشأة، وبين تحولها إلى رفض “معاداة الصهونية” وإدانة مذابحها وإرهابها.
كذلك مرَّ الجوهري في دراسته على التطور الذي حدث مؤخرا في الثقافة الفرنسية، تواكبا مع ظهور خطاب صفقة القرن وصعود الرئيس الفرنسي ماكرون للحكم، من خلال البيان الذي أصدره مثقفو فرنسا قبل عدة سنوات في صحيفة “لو باريزيان”، الذي طالبوا فيه بإقامة ما يشبه محكمة تفتيش لمسلمي فرنسا وأوربا، وكان الظاهر في البيان مطالبة المسلمين بإنكار بعض آيات القرآن الكريم، والباطن هو تحجيم رفض مسلمي أوربا لمذابح الصهيونية الجديدة في سياق صفقة القرن، ومخطط الاستيلاء على المسجد الأقصى، ونقل السفارة الأمريكية للقدس، والقنص بدم بارد للفلسطينيين.
كما أشار الجوهري في دراسته لفكرة مهمة هي تحول التجربة الأوربية من مجرد كونها تجربة في التاريخ البشري، إلى مشروع لسردية مركزية تريد أن تدعي نهاية العالم سواء في طبعتها الماركسية الشمولية، أو في طبعتها الليبرالية التي عندما انهارت المارركسية، خرج مفكروها مثل “فوكوياما” يعلنون (نهاية التاريخ).
وأشار د. الجوهري إلى أزمة الفكر الغربي في العموم عن تحول الذاتي إلى مطلق وعام، والذي يقوم على الإشارة لمفصل مهم في فهم الثقافة الأوروبية وفلسفتها في العموم، وبالتالي فهم العقلية الفرنسية، وهو محور “المسألة الأوروبية” الأبرز والذي يقوم على: تحويل السياق الذاتي إلى عام ومطلق، ومقدس جديد، حيث جاء في الدراسة: “رغم أن أوروبا تدعي “العقلانية” إلا أن هذا غير صحيح بالمرة، أوروبا تؤمن بمسارات ما من “العقلانية” أو “الفهم العقلي” ارتبطت بسياقها وتجربتها الخاصة، ثم حولت هذا الفهم إلى فهم مقدس نافي لوجود “فهم” آخر.”
كما تحدد الدرسة دور فرنسا كمركز السردية الأوروبية فيما بعد الحداثة، وتتناول تمثلات المركزية الأوربية تجاه الآخر العربي الشفاف غير الموجود باعتبار المسألة تتم كعلاقة بين منظومات طرفية هامش (العرب نموذجا) لمركز مقدس (أوربي)، ثم تتناول تمثل المركزية والتعالي الثقافي الجديد مع الإبراهيمية ومعاداة الصهيونية الجديدة، وأثره على تشدد ماكرون وخطابه.
وكذلك تسترجع أوجه الشبه بين طرح سارتر القديم والنخبة الثقافية الجديدة وماكرون، ثم تتناول الأثر الجديد والعامل المتغير بين الحالتين وهو: استدعاء الديني، وأثر الهيمنة الأمريكية وصعود ترامب وماكرون، وتسلط الضوء على حيلة رئيسية يمارسها الغرب وتيار الاستلاب له التي تقوم على إبراز “التمثل السلبي” للذوات الأخرى (العربي نموذجا) من أجل التأكيد على مركزية السردية الأوروبية وتصورها الذاتي.
ثم في الخاتمة التي جاءت بعنوان: في (ما بعد المسألة الأوروبية)، التطرف “كامن” و”المشترك” كامن أيضًا.
قالت الدراسة:
“في كل حاضنة ثقافية سواء في بعدها الديني أو غير الديني توجد فكرة الخروج على المجتمع أو على “الآخر”، في حكايات “روبن هود” وحكايات “على الزيبق” المصري، في مشروع “الصهيونية” وعنصرية القتل بدم بارد، في تطرف الأنجليكية المسيحية تجاه “الهنود الحمر” وتصفيتهم في حرب مقدسة، في مشروع “المجاهدين الأفغان” أو “الوهابية” والتكفير، وفي “النضال المسلح” في الماركسية، و”حرب العصابات” كما حدث في أيرلندا ضد إنجلترا.
التطرف تجاه الآخر وتجاه الذات باسم الحرية أو الوطنية أو العدالة أو القومية أو الدين أو الفقراء؛ حاضر وكامن في معظم الحواضن الثقافية في العالم كله، لكن “المشترك” حاضر أيضًا.
هناك مساحة لـ”المشترك” ومساحة لـ”الخصوصية”؛ الضغط على عناصر الهوية التي تمثل الخصوصية سيؤدي إلى تقليص مساحة “المشترك”، وظهور التطرف والخروج على المجتمع أيًّا كان، وليس كما يظن ماكرون أن القهر الثقافي والهوياتي وازدواج المعايير، وتقديس السياق الذاتي الخاص للسردية الأوربية والفرنسية وتحويله لمقدس وتابو جديد، سيؤدي لانصياع “مستودع الهوية” للعرب والمسلمين في فرنسا.
ازدواج معايير السردية الأوروبية، تجاه تقديس “الصهيونية”، وتدنيس “العرب” سيؤدي إلى المزيد من الشقاق وربما يكون أحد أبرز مؤشرات تفكك “المسألة الأوروبية” التاريخية برمتها، وتجاوزها إلى عالم جديد خصوصًا بعد ما فعله ترامب قبل سقوطه.
ربما يكون للعرب في ثوراتهم الجديدة في القرن الجديد كامن ثقافي ودور مؤجل، ينتظر الخروج بعيدًا عن اليمين المتشدد الذي رعاه الغرب، وبعيدًا عن اليسار الأيديولوجي أو الليبرالية الثقافية كأبنية تابعة للغرب أيضًا.
د. حاتم الجوهري
زر الذهاب إلى الأعلى